الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محل الخلاف. وابن برهان حكى عن عبد الجبار تجويز
(1)
تأخير التخصيص دون المجمل
(2)
.
والقرافي قال: "قد يُجْمع بين هذا وبين مَنْ نقل الاتفاق: أن الاتفاق إنما هو على جواز تأخير البيان التفصيلي، والخلاف في الإجمالي". قال: "وكذلك حكاه صاحب العُمَد في المعتمد"
(3)
.
فائدتان:
أحدهما
(4)
: قال الأستاذ في كتابه: هذه العبارة مُزَيَّفة، يعني: تأخير البيان إلى وقت الحاجة. قال: وهي لائقة بمذهب المعتزلة دون مذهبنا؛ لأنَّ عندهم المؤمنون بهم حاجة إلى التكليف نحو: العبادات؛ لينالوا بها الدرجات الرفيعة ويستحقوها على طريق المعاوضة. وعندنا الباري تعالى يُنْزِل المؤمنين الجنة فضلًا، ويُدْخِل الكافرين النار عدلًا
(5)
، فالعبارة الصحيحة على مذهبنا أن نقول: تأخير البيان عن وقت وجوب
= والمذكورون كلهم من متقدمي المعتزلة، كما هو العزو في القول الثاني! الظاهر أنه سهو من الشارح رحمه الله، لأن هذا تكرار.
(1)
في (غ): "يجوز".
(2)
سبق الإشارة إلى هذا في هامش (8) ص 1603 - 1604.
(3)
انظر: نفائس الأصول 5/ 2268.
(4)
في (غ): "إحداهما".
(5)
انظر: شرح الجوهرة ص 226، البيت الخمسين.
الفعل بالخطاب، وإلى وقت وجوب الفعل
(1)
.
الثانية: نقل الجماهير عن أبي بكر الصيرفي موافقة المعتزلة على المنع من تأخير البيان مطلقًا. قال الأستاذ في كتابه: وهذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديمًا، فنزل به أبو الحسن الأشعري ضيفًا فناظره في هذا واستنزله عن هذه المقالة، ورجع
(2)
إلى مذهب الشافعي وسائر المتسننة
(3)
.
(1)
فلفظ الحاجة يصح التعبير به على مذهب المعتزلة القائلين بالمعاوضة، أي: يجب تعذيب العاصي، كما تجب إثابة الطائع، وبنوا ذلك على قاعدتهم من أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية التي منها الطاعة والمعصية. أما أهل السنة فقاعدتهم: أن الله تعالى هو الخالق للأفعال كلها، ومنها الطاعة والمعصية، وبنوا على ذلك أن الإثابة بالفضل، والتعذيب بالعدل، وليسا بواجبين عليه تعالى. وعلى هذا فلا يصح التعبير على مذهبهم بالحاجة المشير لمعنى المعاوضة. هكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وأقره الشارح، ولذلك راعى هذا في جمع الجوامع فقال:"تأخير البيان عن وقت الفعل غير واقع وإن جاز". انظر: المحلي على الجمع 2/ 69، وعلَّق المحلي على هذا وقال: وقوله: "الفعل" أحسن - كما قال - من قول غيره: "الحاجة". . . إلخ، لكن ردَّ عليه البناني بقوله:"رُدَّ بأنه لا يلزم من التعبير بالحاجة القولُ بمذهب المعتزلة المذكور، فإنه لا يتوقف على الحاجة إلى التكليف، بل على حاجة المكلَّف إلى بيان ما كلِّف به"، ولذلك قال الزركشي عن كلام أبي إسحاق رحمهما الله:"وهي مشاحة لفظية، وقد عُرف أن المَعْنِيَّ بالحاجة - كما قال إمام الحرمين -: توجه الطلب". انظر: البحر المحيط 5/ 107، البرهان 1/ 166.
(2)
سقطت من (ت)، و (غ).
(3)
نازع الزركشي رحمه الله في رجوع الصيرفي هذا، وادعى بأن مذهب الصيرفي هو جواز تأخير بيان المجمل، دون العموم؛ لأنه راجع كتابه المسمى "الدلائل والأعلام"، ثم نقل كلامه في هذا، ثم قال الزركشي: "واعلم أن الصيرفي إنما قال =
قال: (لنا - مطلقًا: قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ}
(1)
. قيل: البيان التفصيلي. قلنا: تقييدٌ بلا دليل. وخصوصًا أن المراد من قوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
(2)
مُعَيَّنةٌ، بدليل:{مَا هِيَ} و {مَا لَوْنُهَا} ، والبيان تأخَّر.
= ذلك بناءً على اعتقاده أن الصيغة العامة إذا وردت يجب اعتقاد عمومها، والعمل بموجبها، ويلزم مِنْ رجوعه عن مَنْع التأخير فيما نقله الأستاذ عنه - رجوعُه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة". انظر: البحر المحيط 5/ 110 - 111، وهذا الذي قاله الزركشي رحمه الله تعالى محتمل ليس بقطعي؛ إذ يحتمل أن الصيرفي رحمه الله تراجع عن قوله هذا الذي قاله في الكتاب المذكور بعد مناظرة أبي الحسن له. فإن قيل: أبو الحسن إنما ناظره في اعتقاده المنع كما هو معتقد المعتزلة. قلنا: ما الذي يمنع أن الصيرفي تراجع عن قوله الذي قاله في هذا الكتاب المذكور إلى رأي المعتزلة، ثم تراجع عن رأي المعتزلة إلى رأي الجمهور بعد مناظرة أبي الحسن رحمه الله تعالى. هذا محتمل، والحاصل أن دعوى عدم رجوعه إلى مذهب الجمهور تحتاج إلى تعيين تاريخ تأليف كتابه المذكور، من أجل الحكم برجوعه عن رأي الجمهور. وبالجملة يصعب الجزم بنسبة أي قولٍ إليه مع هذه المحتملات. ثم قول الزركشي بأنه يلزم مِنْ رجوعه عن مَنْع التأخير - رجوعُه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة: غير مسلّم؛ إذ هما مسألتان: مسألة العمل بالعموم قبل البحث عن المخصِّص، ومسألة جواز التخصيص متأخرًا عن العام، وليس بينهما منافاة؛ إذ منشأ وجوب العمل بالعموم قبل البحث عن المخصِّص ليس هو مَنْع التخصيص متأخرًا؛ بل لأن الأصل في النص العمل به حتى يثبت خلافه من مخصِّص أو مقيد أو ناسخ، ويدل على هذا أيضًا أن هناك فريقًا من العلماء مع الصيرفي يوجبون العمل بالعام قبل البحث عن المخصِّص - ومنهم الشارح - وهم يقولون بجواز التخصيص متأخرًا.
(1)
سورة القيامة: الآية 19.
(2)
سورة البقرة: الآية 67.
قيل: يوجب التأخير
(1)
عن وقت الحاجة. قلنا: الأمر لا يوجب الفور. قيل: لو كانت مُعَيَّنةً لما عنفهم
(2)
. قلنا: للتواني بعد البيان. وأنه تعالى أنزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ}
(3)
، فنقض ابن الزبعرى بالملائكة، والمسيح، فنزل:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ}
(4)
الآية. قيل: {مَا} لا تتناولهم، وإنْ سُلِّم لكن خُصُّوا بالعقل. وأجيب: بقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}
(5)
، وأن عدم رضاهم لا يُعْرف إلا بالنقل).
احتج على المذهب المختار بأدلة ثلاثة: أولها مطلق، أي: يدل على جواز التأخير مطلقًا
(6)
. والآخران مُقَيَّدان: أحدهما يدل على جواز التأخير (في صورة النكرة، والآخر في صورة العام.
الدليل الأول الدال على جواز التأخير)
(7)
مطلقًا: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
(8)
، و"ثم" في اللغة للتراخي، أي: والله أعلم: علينا بيانه بعد القراءة.
(1)
في (ت)، و (غ):"التأخر".
(2)
في (ت): "لما عنفهم الله".
(3)
سورة الأنبياء: الآية 98.
(4)
سورة الأنبياء: الآية 101.
(5)
سورة الشمس: الآية 5.
(6)
أي: في التخصيص وغيره مما له ظاهر، وما ليس له ظاهر. انظر: نهاية السول 2/ 533.
(7)
سقطت من (غ).
(8)
سورة القيامة: الآيتان 18، 19.
وقوله: "مطلقًا" عبارة ركيكة، وليس المراد حقيقة المطلق، بل: إنه عام ينطلق على الصور. ولو قال بدل "مطلقًا": "عمومًا" - لكان أحسن، لا سيما وقد قال بعد ذلك:"خصوصًا".
واعترض أبو الحسين ومَنْ وافقه: بأن المراد البيان التفصيلي، دون الإجمالي. وأجاب المصنف: بأن هذا تقييدٌ بلا دليل.
ولقائل أن يقول قوله
(1)
: {بَيَانَهُ} مفردٌ مضاف؛ فيعم البيانَيْن: الإجمالي، والتفصيلي. وحينئذ فليس القول بأنَّ المرادَ البيانُ التفصيليُّ - تقييدًا بلا دليل، بل تقييدًا على خلاف الدليل، وفَرْقٌ بين كون الشيء على خلاف الدليل، أي: يدل الدليل على خلافه، وبين كونه بلا دليل، أي: لم يدل عليه دليل
(2)
.
وهذا الجواب أحسن مِنْ جواب المصنف، وبه يظهر ضعف قول الآمدي: البيان يراد به: الإظهار لغةً، تقول: تبيَّن الحق وتبيَّن الكوكب. فيكون معنى الآية: إن علينا بيانه للخلق، وإظهارَه فيهم واشتهاره في الآفاق؛ فلا يكون فيها حجةٌ على صورة النزاع
(3)
؛ لأنا نقول: البيان مِنْ
(1)
سقطت من (ت)، و (ص).
(2)
سقطت من (غ).
(3)
لأن محل النزاع في تأخير بيان المعنى المراد، وهذه الآية تدل على تأخير إظهار الآية المنزلة وإشهارها بين الخلق؛ بناءً على أن البيان هو الإظهار، وحَمْل الآية على تأخير بيان معنى الآية المنزلة - ليس أولى من هذا المعنى الذي ذكرناه، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال. كيف وقد رجَّح المعنى الأول قرائن أخرى ذكرها الآمدي رحمه الله تعالى بقوله: "فليس حَمْله على ما ذُكر من بيان المراد من المجمل =
حيث تعميمه بالإضافة: يعم كل ما يصدق عليه أنه بيان.
و
(1)
قوله: "وخصوصًا" هذا معطوف على قوله: "مطلقًا"، وقد قلنا: إنه يظهر به أنَّ مراده بالمطلق العام؛ لأن الخصوص إنما يقابِل العموم، ولو أراد الإطلاق - لقال: وتقييدًا. وهذا الدليل هو الثاني المختص بالنكرة، أعني: الدال على جواز تأخير البيان في النكرة.
وتقريره: أنَّ الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرةٍ في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
(2)
، وأراد معيَّنة، بدليل سؤالهم عن صفتها ولونها في قوله:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}
(3)
إلى آخر الآيات، ثم لم يبينها لهم حتى سألوا هذه السؤالات؛ فدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
= والعام والمطلق - أولى مما ذكرناه، كيف وأن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إنما هو جميع القرآن، فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض. وأيضًا: فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} والأمر بذلك غير خاصٍ ببعض القرآن دون البعض إجماعًا، ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض. . . وإذ ثبت أن المراد من قوله من أول الآية: إنما هو جميع القرآن - فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عائد إلى جميع المذكور السابق، وهو جملة القرآن. . . وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه، لا على ما ذكروه؛ لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه، فإنه ليس كل القرآن مجملًا، ولا ظاهرًا في معنى وقد استُعمل في غيره؛ فكان ما ذكرناه أولى". الإحكام 3/ 33 - 34.
(1)
سقطت الواو من (ص)، و (غ).
(2)
سورة البقرة: الآية 67.
(3)
سورة البقرة: الآيات 68، 69، 70.
واعترض الخصم على هذا الاستدلال بوجهين:
أحدهما: أنَّ بني إسرائيل أُمروا بالذبح وقت الخطاب، فكانوا محتاجين إلى البيان ذلك الوقت، فتأخيره عن ذلك الوقت تأخيرٌ عن وقت الحاجة وهو ممتنع. قال الخصم: فحاصل الأمر أنك لم تقل بما يقتضيه الآية، بل بما لا تقتضيه.
أجاب: بأن الأمر لا يوجب الفور كما سبق.
فإن قلت: هذا الجواب مبني على أن الأمر لا يقتضي الفور، فلا يعم المذاهب، بل يختص بمَنْ يرى رأي المصنف. ثم إن الأمر بذلك إنما وقع للفصل بين الخصمين اللذَيْن تنازعا في القتل، والفصلُ واجبٌ على الفور.
قلت: أجاب القرافي: بأن الآية إذا دلَّت على جواز التأخير عن وقت الحاجة - دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب؛ لأن كل مَنْ قال بجواز الأول قال بجواز الثاني، مِنْ غير عكسٍ؛ ولأنه إذا ثبت في الأول ثبت في الثاني بطريقٍ أولى.
وأما قول القرافي هنا: إنا لا نسلم أنا لم نَقُل بما تقتضيه الآية، بل قلنا به، وهذا هو الصحيح مِنْ مذهبنا، بناءً على تجويز التكليف بما لا يطاق
(1)
- فضعيف
(2)
؛ لأنه عندنا غير واقع، والكلام إنما هو في هذا الواقع
(3)
.
(1)
انظر: نفائس الأصول 5/ 2274، 2275.
(2)
قوله: "فضعيف" جواب قوله: "وأما قول القرافي".
(3)
المعنى: أن قول القرافي بتسليم مقتضى الآية: وهو أنها لتأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن الصحيح من مذهبنا جواز تأخير البيان عن وقت االحاجة، بناءً على جواز =
والثاني: أن ما ذكرتم وإنْ دلَّ على أن البقرة كانت مُعَيَّنة - (لكن عندنا ما يدل على أنها لم تكن مُعَيَّنة، وبسببه يمتنع
(1)
كونها معينة)
(2)
: وهو أنها لو كانت معينة لما عنفهم على السؤال عنها، لكنه عَنَّفهم بقوله:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
(3)
. ومما يدل على أنها لم تكن معيَّنة ما سلف من كلام ابن عباس، وهو قوله:"شَدَّدوا فشدَّد الله عليهم".
وأجاب المصنف: بأنا لا نسلم أنه عنفهم على السؤال، وإنما عنفهم على التواني، أي: التقصير والتأخير بعد البيان. هذا هو الأقرب. واحتمال كون التعنيف على السؤال بعيدٌ؛ لأنه (لو أوْجَب)
(4)
المعيَّنة بعد إيجاب خلافه - لكان نسخًا قبل الفعل، وهو لا يجوز عند الخصم
(5)
.
= التكليفه بما لا يطاق - ضعيف؛ لأن التكليف بما لا يطاق جائز عندنا، ولكنه غير واقع، والكلام هنا في الوقوع لا الجواز؛ لأن الخلاف في هذه الآية هل هي من قبيل تأخير البيان عن وقت الحاجة، أو من قبيل تأخيره عن وقت الخطاب، فالتبس على القرافي الجواز بالوقوع.
(1)
سقطت من (غ).
(2)
في (ص): "يمنع".
(3)
سورة البقرة: الآية 71.
(4)
في (ص): "لو وجب". وهو خطأ.
(5)
يعني: لو كان التعنيف والتشديد عليهم في الحكم بسبب سؤالهم، لا بسبب كون البقرة الأمور بذبحها ابتداءً معينةً على وفق الأسئلة - لكان الحكم في كل مرة يُشدد عليهم فيها بعد سؤالهم ناسخًا لحكم ما قبل السؤال، وهو نسخ للحكم قبل الفعل، وهو لا يجوز عند المعتزلة.
قوله: "وأنه تعالى" هو معطوف على قوله: "وخصوصًا أن المراد"، تقديره: ولنا خصوصًا في النكرة كذا، وفي جواز تأخير بيان التخصيص أنه تعالى أنزل، وتقريره: أن الله تعالى لما أنزل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}
(1)
- قال عبد الله ابن الزبعرى
(2)
: "قد عُبِدت الملائكة، (وعُبد عيسى)
(3)
، وليس هؤلاء من حصب جهنم". فتأخر بيان ذلك حتى نزل قوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
(4)
.
فإنْ قيل: لا نسلم أن قوله: {وَمَا تَعبدُونَ} يندرج فيه الملائكة والمسيح، وبيانه مِنْ وجهين:
أحدهما: أن لفظة "ما" لا تتناولهم؛ لكونها مخصوصة بِمَنْ لا يعقل، فلا يتوجه نقض ابن الزبعرى، ولا يحتاج إلى تخصيص، بل كيف يمكن والتخصيص فرع الشمول. ويدل على ذلك ما رواه الأصوليون
(5)
في
(1)
سورة الأنبياء: الآية 98.
(2)
هو عبد الله بن الزِّبَعْرى بن قيس القرشيّ السهميّ. كان من أشعر قريش، وكان شديدًا على المسلمين ثم أسلم في الفتح. انظر: الإصابة 2/ 308.
(3)
في (ت): "وعبد المسيح".
(4)
سورة الأنبياء: الآية 101.
(5)
كالآمدي في الإحكام 3/ 39، والجاربردي في السراج الوهاج 2/ 632، والأصفهاني في شرح المنهاج 1/ 453، وصفي الدين الهندي في نهاية الوصول 5/ 1920، والقرافي في نفائس الأصول 5/ 2281، والإسنوي في نهاية السول 2/ 538، والبدخشي في مناهج العقول 2/ 155، كشف الأسرار 3/ 113، العضد على ابن الحاجب 2/ 165، بيان المختصر 3/ 402.
كتبهم من قوله صلى الله عليه وسلم لابن الزبعرى حين قال ما قال: "ما أجهلك بلغة قومك، أما علمت أنَّ "ما" لِمَا لا يعقل ومَنْ لمن يعقل".
والثاني: وهو المشار إليه بقوله في الكتاب: ولو سُلِّم أنا سلمنا أنَّ لفظة "ما" تتناولهم، لكن خُصَّ الملائكة والمسيح من هذه الآية بالعقل، لا بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}
(1)
، وذلك لأن التعذيب إنما يقع على جريمة، وأيُّ جريمة لهؤلاء بعبادة غيرهم إياهم! وهذا الدليل العقلي كان حاضرًا في عقولهم قبل نزول:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} .
قلنا: الجواب عن الأول: أنا لا نسلِّم أن صيغة "ما" مختصة بغير العقلاء، بل هي شاملة للجميع، ويدل على ذلك إطلاقها على الله تعالى في قوله {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا}
(2)
، وكذلك قوله:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}
(3)
، وقوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
(4)
، وأنها تأتي بمعنى الذي اتفاقًا، وكلمة الذي تتناول العقلاء، فكذلك صيغة "ما". والحديث المذكور من قوله صلى الله عليه وسلم: إن ما مختصة بمن لا يعقل - غير معروف، ولو ثبت لسمعنا وأطعنا.
وعن الثاني: أنَّ العقل إنما يُحيل تَرْك تعذيبهم إذا عُلِم بالعقل أيضًا
(1)
سورة الأنبياء: الآية 101.
(2)
سورة الشمس: الآية 5.
(3)
سورة الليل: الآية 3.
(4)
سورة الكافرون: الآيات 3، 5.
أنهم غير راضين بالعبادة؛ لأنهم لو رضوا بالعبادة لكان ذلك الرضا موجبًا للسخط، وعدم رضاهم إنما عُلِم بالنقل
(1)
.
وهذان الجوابان ضعيفان، أما (الأول فمن وجهين:
أحدهما: أن المصنف قَدَّم في باب العموم)
(2)
أن "ما" مختصة بما لا يعقل.
وثانيهما: أن "ما" في هذه الآيات مصدرية، تقديره: وخَلْقِ الذكر والأنثى. والسماءِ وبنائِها
(3)
. ولا أنتم عابدون عِبَادتي، ذكره القرافي
(4)
.
وأما قوله: تَرِد بمعنى الذي فَلْتتناول العقلاء كما تتناول الذي - فساقطٌ؛ لأن "الذي" وضعت للقدر المشترك بين
(5)
العقلاء وغيرهم، ولا نسلم أنها تقوم مقامها إذا استعملت في غير العقلاء، وما ذلك إلا أول النزاع.
وأما الثاني: فإنه غير مستقيم على مذهب مَنْ يقول: عصمة ذوي
(6)
(1)
وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية. انظر: نهاية السول 2/ 539.
(2)
سقطت من (غ).
(3)
في (ص): "وما بناها". وهو خطأ.
(4)
انظر: نفائس الأصول 5/ 2280.
(5)
في (ت): "من".
(6)
في (ت): "ذي".