المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الثانية: فعله المجرد يدل على الإباحة عند مالك - الإبهاج في شرح المنهاج - ط دبي - جـ ٥

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌(الباب الرابع: في المجمل والمبين

- ‌اللفظ المجمل إما أن يكون مجملًا

- ‌فوائد:

- ‌(الثانية: قالت الحنفية: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}(1)مجمل

- ‌(الثالثة: قيل: آية السرقة مجملة

- ‌(الفصل الثاني: في المبيَّن

- ‌تنبيهان:

- ‌ قد يكون بالقول وذلك بالاتفاق(4)، وقد يكون بالفعل

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌ تأخير البيان عن وقت الحاجة

- ‌فائدتان:

- ‌فائدة

- ‌(الفصل الثالث: في المبيَّن له

- ‌(الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

- ‌ الأولى: أنه واقع وأحالته اليهود

- ‌(الثانية: يجوز نسخ بعض القرآن

- ‌(الثالثة: يجوز نسخ الوجوب قبل العمل خلافًا للمعتزلة)

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌(الرابعة: يجوز النسخ بلا بدل

- ‌فائدة:

- ‌يجوز نسخ الحكم دون التلاوة

- ‌فرع:

- ‌(السادسة: يجوز نسخ الخبر المُسْتَقبل

- ‌(الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ

- ‌ الأولى: الأكثر على جواز نسخ الكتاب بالسنة

- ‌(الثانية: لا يُنسخ المتواتر بالآحاد

- ‌(الثالثة: الإجماع لا يُنسخ

- ‌(الرابعة: نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى

- ‌(الخامسة: زيادة صلاة ليس بنسخ

- ‌ زيادة العبادة المستقلة. أما زيادة غير(2)المستقلة، كزيادة ركعة أو ركوع

- ‌(الكتاب الثاني: في السنة

- ‌(الأولى: في عصمة الأنبياء(2)عليهم الصلاة والسلام)

- ‌(الثانية: فِعْله المجرد يدل على الإباحة عند مالك

- ‌ بيان الطرق التي تُعرف(1)بها الجهةُ

- ‌(الرابعة: الفعلان لا يتعارضان

- ‌(الخامسة: أنه عليه السلام قبل النبوة تُعُبِّد(1)(2)بشرع، وقيل: لا)

- ‌الأول: فيما كان صلى الله عليه وسلم عليه قبل أن يبعثه الله تعالى برسالته

- ‌البحث الثاني: في أنه صلى الله عليه وسلم هل تُعُبِّد بعد النبوة بشرعِ مَنْ قبله:

- ‌فروع:

- ‌فائدة:

- ‌(الباب الثاني: في الأخبار

- ‌(الفصل الثاني: فيما عُلِم كذبه

- ‌(الفصل الثالث: فيما ظُنَّ صدقه

- ‌أحدهما: في وجوب العمل بخبر الواحد

- ‌(الطرف(1)الثاني: في شرائط(2)العمل به

- ‌فائدة:

- ‌ أحكام التزكية

- ‌(الأولى: شُرِط العدد في الرواية والشهادة

- ‌فائدة

- ‌ الثاني: فأن لا يخالفه قاطع

- ‌ الثالث مِنْ شرائط العمل بخبر الواحد: وهو الكلام في الخبر

- ‌الأولى: في بيان ألفاظ الصحابي ومراتِبها

- ‌(الثانية: لغير الصحابي أن يروي إذا سمع الشيخ أو قرأ عليه

- ‌الأولى: أن يسمع من لفظ الشيخ

- ‌الثانية: أن يقرأ عليه

- ‌الثالثة: أن يقرأ على الشيخ

- ‌الرابعة: أن يقرأ على الشيخ ويقول له: هل سمعته؟ فيسكت الشيخ

- ‌الخامسة: أن(4)يكتب الشيخ إلى شخص:

- ‌السادسة: أن يشير الشيخ

- ‌السابعة: الإجازة

- ‌(الثالثة: لا يقبل المُرْسل خلافًا لأبي حنيفة ومالك)

- ‌(الرابعة: يجوز نَقْل الحديث بالمعنى خلافًا لابن سيرين

- ‌فائدة:

- ‌(الخامسة: إن زاد أحد الرواة وتعدد المجلس قُبِلت

- ‌(الكتاب الثالث: في الإجماع

- ‌ الباب الأول: في بيان كونه حجة

- ‌الأولى: قيل: محال كاجتماع الناس في وقتٍ واحد على مأكولٍ واحد

- ‌ الإجماع حجةٌ شرعية يجب العمل به

- ‌(الثالثة: قال مالك: إجماع أهل المدينة حجة

- ‌ إجماع أهل البيت

- ‌(الخامسة: قال القاضي أبو خازم: إجماع الخلفاء الأربعة حجة

- ‌الإجماع وإن كان حجة لكن لا يستدل به على جميع الأحكام

- ‌(الباب الثاني: في أنواع الإجماع

- ‌الأولى: إذا اختلفوا على قولين فهل لمَنْ بعدهم إحداث ثالث

- ‌(الثانية: إذا لم يفصلوا بين مسألتين فهل لمَنْ بعدهم التفصيل

- ‌فائدة:

- ‌(الثالثة: يجوز الاتفاق بعد الاختلاف خلافًا للصيرفيّ

- ‌(الرابعة: الاتفاق على أحدِ قولي الأولين

- ‌(الخامسة: (إذا اختلفت الأمة)(3)على قولين فماتت إحدى الطائفتين - يصير قول الباقين حجة؛ لأنهم كل الأمة)

- ‌(السادسة: إذا قال البعض وسكت الباقون - فليس بإجماعٍ ولا حجة

- ‌(الباب الثالث: في شرائطه

- ‌الأولى: أن يكون فيه قول كلِّ عالمي ذلك الفن

- ‌(الثانية: لا بد له من سند؛ لأن الفتوى بدونه خطأ

- ‌(الثالثة: لا يُشترط انقراض المُجْمِعين

- ‌(الرابعة: لا يُشترط التواتر في نقله كالسنة)

- ‌(الخامسة: إذا عارضه(8)نصٌّ أُوِّل القابلُ له(9)، وإلا تساقطا

الفصل: ‌(الثانية: فعله المجرد يدل على الإباحة عند مالك

النسيان أيضًا

(1)

.

وأما دعوى الإمام في الكلام على

(2)

الطرق الدالة على القطع بصحة الخبر مما عدا المتواتر في الكلام على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم: أنَّه وقع الاتفاق على جواز السهو والنسيان

(3)

- فهي دعوى غير سديدة، لما حكاه الأستاذ وذهب إليه.

والمصنف أحال الكلام في هذه المسألة على كتابه "مصباح الأرواح".

قال: ‌

‌(الثانية: فِعْله المجرد يدل على الإباحة عند مالك

، والندب

= المحلي 2/ 95. تنبيه: السهو الممنوع في حق الأنبياء عند هؤلاء هو ما لم يترتب عليه تشريع، وأما السهو المترتب عليه تشريع فجائز، كما وقع له صلى الله عليه وسلم من قيامه من ركعتين، وسلَّم معتقدًا التمام.

انظر: حاشية البناني 2/ 95. وقريبٌ من هذا الكلام: أن المعصوم منه هو السهو الشيطاني لا الرحماني.

(1)

وذهبت إليه طائفة، كما قال القاضي عياض رحمه الله تعالى. انظر: الشفا بشرح القاري 2/ 270. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح حديث نسيانه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وقوله: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به،. ولكن إنما أنا بشرٌ مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني" الحديث، قال الحافظ: "فيه دليل على جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأفعال. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا:"لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم السهو، وهذا الحديث يرد عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: "أنسى كما تنسون"، ولقوله: "فإذا نسيت فذكروني" أي: بالتسبيح ونحوه". فتح الباري 1/ 504. وانظر: البحر المحيط 6/ 18، المسودة ص 190.

(2)

في (ت): "في".

(3)

انظر: المحصول 2 / ق 1/ 398.

ص: 1753

عند الشافعي، والوجوب عند ابن سريج وأبي سعيد الإصْطَخْرِيّ، وتوقف الصيرفي وهو المختار؛ لاحتمالها

(1)

، واحتمال (أن يكون)

(2)

من خصائصه).

فعل النبي صلى الله عليه وسلم (على أقسام)

(3)

:

الأول: أن يدل دليل آخر أو قرينة معه على أنه للوجوب، كقوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي"

(4)

، وقوله عليه السلام:"خذوا عني مناسككم"

(5)

فإن هذين الحديثين

(6)

يدلان على وجوب اتباعه في أفعال الصلاة، وأفعال الحج إلا ما خصه الدليل. والقول في هذا القسم متضح، فإنه على حسب ما يقوم الدليل أو القرينة عليه وفاقًا

(7)

.

الثاني: ما عُلم أنه صلى الله عليه وسلم فَعَله بيانا لشيءٍ، نحو: قَطْعه يدَ السارق من الكوع

(8)

، إذ فَعَله بيانًا لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

(1)

الضمير يعود إلى الإباحة، والندب، والوجوب.

(2)

في (ص): "أن تكون". وهو خطأ؛ لأن الضمير يعود إلى فعله المجرد.

(3)

سقطت من (ت).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

في (ت)، و (غ):"الخبرين".

(7)

انظر: الإحكام 1/ 173، نهاية السول 3/ 18، شرح اللمع 1/ 545، اللمع ص 68، البحر المحيط 6/ 29، فواتح الرحموت 2/ 180، تيسير التحرير 3/ 120، شرح التنقيح ص 288، التلخيص 2/ 229، إحكام الفصول ص 309، شرح الكوكب 2/ 185.

(8)

جاء في الأحاديث قطعه من المِفْصل وهو بمعناه، أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحدود 3/ 204 - 205، حديث رقم 363. وابن عدي في الكامل 3/ 908، في =

ص: 1754

أَيْدِيَهُمَا}

(1)

(2)

.

الثالث: ما عُرف بالقرينة أنه للإباحة، كالأفعال الجبليَّة نحو: القيام والقعود، والأكل والشرب، وغير ذلك. وأمره واضح، إلا أن التأسي مستحب

(3)

. وقد كان ابن عمر- رضي الله عنه لما حج يجر خطام ناقته حتى يُبْرِكها في موضعٍ بركت فيه ناقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تبركًا بآثاره الطاهرة

(4)

، ومواطئ

(5)

= ترجمة خالد بن عبد الرحمن أبي الهيثم الخراساني. وانظر: بيان الوهم والإيهام لابن القطان 3/ 241، حديث رقم 975، ونصب الراية 3/ 370. قال ابن كثير في تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 130 - 132:"أما القطع من الكوع فلم أَرَ في حديثٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يدِ سارقٍ من كوعه إلا ما رَوَى ابن عديٍّ من حديث خالد بن عبد الرحمن المروزي الخراساني ثنا مالك عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقًا من المفصل. وهذا إسناد حسن. ومالكٌ هذا هو مالك بن مِغْوَل".

(1)

سورة المائدة: الآية 38.

(2)

وهذا القسم متفق عليه أيضًا، فحكم فعله صلى الله عليه وآله وسلم على حسب حكم المبيَّن. انظر: المراجع السابقة.

(3)

قال بهذا قوم، منهم بعض المالكية، وعزاه أبو إسحاق الإسفراييني لأكثر المحدثين.

انظر: التلخيص 2/ 229، إحكام الفصول ص 309، شرح التنقيح ص 288، البحر المحيط 6/ 23، شرح الكوكب 2/ 178، العدة 3/ 734، البرهان 1/ 487، المنخول ص 225، تيسير التحرير 3/ 120. وذهب الجمهور إلى أن هذا القسم مباح، أي: لا يندب التأسي به فيه. انظر: المراجع السابقة.

(4)

في (ص): "الظاهرة".

(5)

في (ص): "ومواطن".

ص: 1755

نعاله الشريفة

(1)

.

الرابع: ما عُرف أنه مخصوص به، كالضُّحى، والأضحى

(2)

(3)

.

الخامس: ما عُرِف أنه غير مخصوصٍ به كأكثر التكاليف.

فهذه الأقسام كلها ليس فيها شيء من الخلاف، وأمرها واضح، وكل هذه الأقسام خرجت بقول المصنف:"فعله المجرد"، فافهم ذلك.

السادس: ما تجرد عن جميع ما ذكرناه، إلا أن قصد القربة ظاهر فيه

(4)

. فهذا ليس أيضًا مجردًا من كل وجه.

ولك أن تقول: إنه يخرج أيضًا بقول المصنف: "المجرد"

(5)

. وفي هذا

(1)

انظر: الحلية 1/ 310، أسد الغابة 3/ 237، سير أعلام النبلاء 3/ 213، البحر المحيط 6/ 23، شرح الكوكب 2/ 179. وعن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله كما كان يتبعه ابن عمر". أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 145. وأخرج أبو نعيم في الحلية (1/ 310) عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان في طريق مكة يأخذ برأس راحلته يَثْنيها ويقول: "لعل خُفًّا يقع على خُفّ" يعني: خُفَّ راحلة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أي: التضحية يوم النحر. انظر: نهاية المحتاج 6/ 175، الخصائص الكبرى للسيوطي 2/ 229، كشاف القناع 5/ 23.

(3)

انظر: البحر المحيط 6/ 27.

(4)

أي: في حقه صلى الله عليه وآله وسلم.

(5)

الأقرب أن المراد بالمجرد: ما لا يدل على حكم بخصوصه من وجوب، أو ندب، أو إباحة. فلا يخرج الفعل مجهول الصفة، والذي ظهر فيه قصد القربة، أي: ظهر فيه وصف مطلق القربة. انظر: سلم الوصول 3/ 19، 21.

ص: 1756

القسم اختلاف

(1)

لنا غرض في تأخير حكايته إلى سابع الأقسام.

السابع: ما لم يظهر فيه قصد القربة، بل كان مجردًا مطلقًا

(2)

. فهذا

(1)

بل هو العمدة في هذه المسألة.

(2)

الفعل المبتدأ غير معلوم الصفة نوعان: أحدهما: ما ظهر فيه قصد القربة. والثاني: ما لم يظهر فيه قصد القربة. قال أبو شامة رحمه الله تعالى في "المحقَّق من علم الأصول" ص 62: "فأما ما ظهر فيه قصد القربة فهو عمدة هذا الباب، والمقصود الأصلي بهذه التقسيمات، والذي اضطرب فيه الفقهاء أرباب المذاهب والأصوليون، ففيه سبعة مذاهب". ثم قال بعد ذلك في النوع الثاني: وهو ما لم يظهر فيه قصد القربة: "وقد ألحقه قومٌ بما ظهر فيه قَصْدُ القربة، فأجْرَوا فيه ذلك الخلاف". ص 69. واكتفى أبو شامة بهذا، وهو يدل على ترجيحه لهذا الإلحاق، بل يدل على عدم وجود خلاف أصلًا في هذا الإلحاق؛ إذ لو كان هناك مخالِفٌ لذكره، وهو في مَعْرِض الاستقصاء وذِكْر كلِّ ما يتعلق بالمسألة، فكيف بهذا الإلحاق المهم، والذي به تتضح صورة المسألة، ومحل النظر فيها، وموطن الترجيح في شقيها! . وغاية ما يدل عليه كلامه السابق - والله أعلم - هو أن كثيرًا من العلماء لم ينصوا على حكم هذا القسم، فقال عن البعض الذي نَصَّ عليه: إنه ألحقه بالقسم الآخر الذي ظهر فيه قصد القربة. وقال أيضًا عن هذين القسمين في ص 71: "وأما القسمان الآخران: وهما الفعل المبتدأ الذي ظهر فيه قَصْد القربة، والذي لم تظهر فيه - فقد نُقلت فيهما سبعة مذاهب". وهذا التوحيد للأقوال في المسألة للقسمين تصريح بأنهما نوعان لقسم واحد، وأن الذي يقول بقول في أحدهما يقول بمثله في الآخر، ما لم يُصرِّح بخلافه. بل إلحاق ما لم يظهر فيه قصد القربة بما ظهر فيه - هو إلحاق بطريق الأولى؛ لأن الخلاف إذا كان موجودًا فيما ظهر فيه قصد القربة - فلأن يُوجد في الفِعْل الذي لا يظهر فيه قصد القربة، وهو مجهول الصفة بالكلية من باب أولى. فكل خلاف مذكور في أحد القسمين يكون مثله في الآخر، ما لم يُصَرَّح بالتفريق، والجامع بين القسمين هو الجهل بدلالة الفعل على حكمٍ معيَّن. وقد تبع أبو شامة رحمه الله شيخَه الآمدي رحمه الله في هذا الإلحاق، إذ قال في الإحكام 1/ 174: "وأما ما لم يظهر فيه =

ص: 1757

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قصد القربة: فقد اختلفوا أيضًا فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة، غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعدُ مما ظهر فيه قصد القربة، والوقف والإباحة أقرب". وقد نقل القرافي رحمه الله هذا الكلام عن الآمدي، ولم يعترض عليه. انظر: نفائس الأصول 5/ 2317 - 2318، وكذا ابن الحاجب رحمه الله تابع الآمدي في جَعْل الخلاف واحدًا في القسمين، واختار التفصيل. انظر: منتهى السول والأمل ص 48، العضد على ابن الحاجب 2/ 22. وقد سبقهم بذلك القاضي أبو بكر رحمه الله، إذ قال: "ولو صدر فِعْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَعْرِض القُرَب، أو بَدَر منه مطلقًا، أو لم يتقيَّد بقيود القُرَب ولا بقيود الإباحة، وتقابلت فيه الجائزات - فهذا موقع اختلافهم. . .". التلخيص 2/ 230. وإمام الحرمين رحمه الله، حكى القسمين في البرهان (1/ 488) وجعل الأقوال المذكورة في القسم الأول هي الأقوال المذكورة في الآخر، واختار رحمه الله التفصيل، كما سيأتي النقل عنه. وتبعه الغزالي في المنخول ص 226، فذكر القسمين، واختار التفصيل الذي اختاره شيخه. ويدل على هذا الإلحاق أيضًا إطلاق بعض العلماء المسألة فيما جُهلت صفته دون تقييدها بظهور قَصْد القربة أو عدم ظهوره. انظر: المحصول 1/ ق 3/ 345، الحاصل 2/ 623، التحصيل 1/ 434، نهاية الوصول 5/ 2121 (بل سيأتي النقل عن صفي الدين رحمه الله أنه صَرَّح بالتسوية بين القسمين في الخلاف عند العلماء)، المستصفى 3/ 455 - 456، العدة 3/ 735، التمهيد 2/ 317، تيسير التحرير 3/ 122 - 123، فواتح الرحموت 2/ 181 (وفي كلام الحنفية ما يدل على أن الخلاف واحد في القسمين)، مراقي السعود مع نشر البنود 2/ 17. قال عبد الله العلوي في نشر البنود 2/ 18: "وذكر حلول عن بعض أصحابنا: أنه إن ظهر قصد القربة فللندب، وإلا فللإباحة. والقول الأول القائل بالوجوب سواء عنده ظهر قَصْدُ القربة أم لا"، فجعل القائل بالوجوب قائلًا به في القسمين، مع أنه من في النظم أطلق ولم يُقَسِّم. وقال الشيخ المطيعي رحمه الله في سلم الوصول 3/ 20: "لا فرق في هذه المذاهب بين أن يظهر قصد مُطْلق القربة، وبين ما إذا جُهلت صفته بالكلية، ويدل لهذا ما قاله صاحب جمع الجوامع حكاية للخلاف. . ." وانظر: الجمع مع شرح المحلي 2/ 99. وقد أطلت في هذه المسألة للحاجة الملحة فيها؛ إذ لم أجد من الباحثين المعاصرين =

ص: 1758

أمره دائر بين الوجوب والندب والإباحة؛ لأن المحرَّم يمتنع صدوره عنه، لما تقرر في مسألة

(1)

عصمة الأنبياء عليهم السلام، والمكروه يندر وقوعه من آحاد عدول

(2)

المسلمين، فكيف من سيد المتقين، وإمام المرسلين! والذي نراه أنه لا يصدر منه، وأنه من جملة ما عُصم عنه

(3)

، وإذا دار الأمر بين هذه الأمور - فهل يدل على واحدٍ منها؟ هذه مسألة الكتاب، وفيها مذاهب:

أحدها: أنه يدل على الإباحة. وهو مذهب مالك

(4)

وتابعه في ذلك

= مَنْ تعرض لها، وبعضهم ظن أن كلام بعض العلماء مخصوص بأحد القسمين دون الآخر؛ لأن كلامهم يُوهم ذلك، وهو يرى في نفس الوقت البعض الآخر يُعَمِّمه في القسمين؛ فظن أن هناك تعارضًا ولبسًا في المسألة، والواقع أنه لا تعارض ولا لبس.

(1)

سقطت من (ت).

(2)

سقطت من (ت)، و (ص).

(3)

انظر: الشفا بشرح القاري 2/ 259، 261. قال المحلي في شرحه على الجمع 2/ 97:"وخلاف الأولى مثل مكروه، أو مندرج فيه". وقال البناني رحمه الله تعالى في حاشيته على المحلي 2/ 96: "وما يفعله مما هو مكروه في حقنا فغير مكروه في حقِّه؛ لأنه يقصد به بيان الجواز، بل قد يجب فعله إذا توقف البيان عليه، وقد حكى النووي عن العلماء في وضوئه عليه الصلاة والسلام مرةً مرةً، ومرتين مرتين: أنه أفضل في حقه من التثليث؛ للبيان". انظر: شرح الكوكب 2/ 192، المسودة ص 189، البحر المحيط 6/ 22، شرح التنقيح ص 292، نشر البنود 2/ 13، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم 1/ 166، د. محمد الأشقر.

(4)

هذه النسبة ذكرها الإمام في المحصول 1/ ق 3/ 346، وتابعه عليها تاج الدين في الحاصل 2/ 624، وسراج الدين في التحصيل 1/ 435، وصفي الدين الهندي في نهاية الوصول 5/ 2122، ونسبها أيضًا الآمدي في الإحكام 3/ 174، ونسبها =

ص: 1759

جماعة من الأئمة

(1)

، . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= العلوي في مراقي السعود بصيغة التمريض فقال: "وقد رُوي عن مالكِ الأخيرُ" البيت. انظر: نشر البنود 2/ 19 وأولى من هذا التضعيف التوهيم؛ إذ قال القرطبي - رحمه الله تعالى - عن هذا النقل: "وليس معروفًا عند أصحابه". البحر المحيط 6/ 33، وكذا قال القرافي - رحمه الله تعالى - في نفائس الأصول 5/ 2318:"الذي نقله المالكية في كتب الأصول والفروع عن مالك هو الوجوب، كذلك نقله القاضي عبد الوهاب في "الإفادة"، والباجي في "الإشارة"، وكتاب "الفصول"، وابن القصار، وغيرهم. والفروع في المذهب مبنية عليه"، وهو الذي نقله القاضي في "مختصر التقريب" 2/ 231، وانظر: مفتاح الوصول ص 97 - 98. وهذا التضعيف الذي قاله عبد الله العلوي رحمه الله في "مراقي السعود" سببه ما ذكره الإمام في "المحصول" والآمدي في "الإحكام"، كما ذكر العلوي هذا في شرحه "نشر البنود" 2/ 19، مع أن الذي ذكره: هو أن إمام الحرمين والآمدي رويا عن مالك رضي الله عنه ذلك. ولعل هذا سهو من النساخ، إذ إمام الحرمين رحمه الله لم يذكر ذلك، وبكل حال فما ذكره الإمام والآمدي نقل مجرد لا رواية يُعتمد عليها في إثبات رأي إمام كمالك رضي الله عنه، له أصحابه وأتباعه الذين هم أعرف بأقواله وما رُوي عنه، لا سيما وأن بعض أتباعه نفى ذلك عنه. على أن الشيرازي رحمه الله تعالى نسب الوجوب إلى مالك رضي الله عنه. انظر: اللمع ص 68، وشرح اللمع 1/ 546، وكذا نسبه ابن السمعاني في القواطع 2/ 176، وكذا الزركشي في البحر 6/ 32، ونَقَل عن القاضي أبي بكر وابن خُوَيْز مَنْداد أنهما صحَّحا الوجوب عن مالك رضي الله عنه. فتبيَّن بهذا - والله أعلم - وَهَم هذه النسبة التي ذكرها الشارح متابعًا فيها المذكورين.

(1)

هو الصحيح عند أكثر الحنفية، وهو مختار أبي بكر الجصاص وفخر الإسلام وشمس الأئمة والقاضي أبي زيد من الحنفية. وهو الراجح عند بعض الحنابلة، واختاره المجد ابن تيمية رحمه الله تعالى ونسبه إلى الجمهور. وبه قال إمام الحرمين، وابن الحاجب. انظر: تيسير التحرير 3/ 122، فواتح الرحموت 2/ 181، كشف الأسرار 3/ 201، المسودة ص 187، 189، شرح الكوكب 2/ 189، البرهان =

ص: 1760

(وجزم به الآمدي

(1)

)

(2)

.

والثاني: أنه يدل على الندب. وهو المنسوب إلى الشافعي

(3)

رضوان الله عليه، واختاره إمام الحرمين

(4)

، وبه قالت طوائف من الأئمة

(5)

ونقله

= 1/ 494، 495، منتهى السول والأمل ص 48، العضد على ابن الحاجب 2/ 22، البحر المحيط 6/ 33.

(1)

انظر: الإحكام 1/ 174.

(2)

سقطت من (ت).

(3)

انظر: المحصول 1/ ق 3/ 346، الحاصل 2/ 624، التحصيل 1/ 434، نهاية الوصول 5/ 2121، وقال إمام الحرمين وابن القشيري رحمهم الله تعالى:"في كلام الشافعي ما يدل عليه" البرهان 1/ 489، البحر المحيط 6/ 33. لكن يظهر من الزركشي ميله إلى أن رأي الشافعي رضي الله عنه هو الوجوب، إذ قال في قول الوجوب: "وقال سليم: "إنه ظاهر مذهب الشافعي". ونصره ابن السمعاني في "القواطع"، وقال:"إنه الأشبه بمذهب الشافعي"، لكنه لم يتكلم إلا فيما ظهر فيه قصد القربة. واختاره أبو الحسين بن القطان ونَصَر أدلته، قال: وأخذوه من قول الشافعي في الرد على أهل العراق في سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره. . .". البحر المحيط 6/ 32، ولم يتعقب الزركشي هذا النقل، ولم يصرِّح في قول الندب بأنه مذهب الشافعي، بل اكتفى بنقل ما قاله ابن القشيري، الذي سبق نقله. وانظر: القواطع 2/ 177.

(4)

انظر: البرهان 1/ 491 - 493، لكن هذا بالنسبة للمجرد الذي ظهر فيه قصد القربة، أما المجرد الذي لم يظهر فيه قصد القربة فحكمه الإباحة عند إمام الحرمين، وهو الذي عزوته إليه سابقًا. فإمام الحرمين ممن يفصِّل بين الحالتين، ومثله الغزالي في المنخول ص 226، والآمدي وابن الحاجب - رحمهم الله تعالى - المجرد الذي لم يظهر فيه قصد القربة حكمه عندهم الإباحة، والذى ظهر فيه قصد القربة فهو مندوب التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم.

(5)

هو رواية عن أحمد رضي الله عنه، اختارها بعض أصحابه. وذهب إليه بعض المالكية واختاره أبو نصر بن القشيري، وهو مذهب أهل الظاهر، وبه قال ابن حزم رحمه الله تعالى. =

ص: 1761

القاضي أبو الطيب عن أبي بكر القفال، وعن الصيرفي. وسيأتي النقل عن الصيرفي بالوقف

(1)

.

والثالث: أنه يدل على الوجوب. وبه قال ابن سريج، وأبو سعيد الإصْطَخْرِيّ، وابن خَيْران، وابن أبي هريرة

(2)

، والحنابلة

(3)

، وكثير من

= قال الزركشي رحمه الله: "وقال الماوردي والرُّوياني: إنه قول الأكثرين. وأطنب أبو شامة في نصرته" البحر المحيط 6/ 33. وقال أبو شامة في "المحقق من علم الأصول" ص 66: "وهو مذهب المحققين من أهل الآثار". وانظر: العدة 3/ 737، المسودة ص 187، شرح الكوكب 2/ 188، إحكام الفصول ص 310، الإحكام لابن حزم 4/ 458، المحقَّق من علم الأصول ص 67.

(1)

وهو الصحيح عنه، كما نقله الزركشي في البحر 6/ 33، 34، وكما نقله عنه أبو شامة في المحقق من علم الأصول ص 68.

(2)

وأبو علي الطبري، وأكثر متأخري الشافعية، كما قاله الأستاذ أبو منصور. واختاره القاضي أبو الطيب الطبري، وقال:"هو الأظهر على مذهب الشافعي". واختاره الإمام في "المعالم". انظر: المحقق من علم الأصول ص 63 - 65، البحر المحيط 6/ 32، المعالم ص 103.

(3)

هو رواية عن أحمد رضي الله عنه، اختارها أكثر أصحابه. لكن ابن النجار رحمه الله قيَّد هذه النسبة للفعل المجرد الذي قُصد به القربة، أمّا ما لم يُقصد به القربة فهو مباح عنده، ولم يحك عن الحنابلة فيه قولًا، وهو متابِع في هذا التقييد والترجيح للمجد بن تيمية رحمه الله. انظر: شرح الكوكب 2/ 187، 189، المسودة ص 187، 189. والذي في العدة 3/ 735 - 737، والتمهيد للكلوذاني 2/ 317، ومختصر ابن اللحام ص 74: أن هناك روايتين في المذهب: الوجوب والندب، واختار القاضي رواية الوجوب، والكلوذاني التوقف، وجعله مقتضى قول أحمد. وليس هناك تفريق عند هؤلاء بين ما قُصد به القربة وما لم يُقصد، والحكم عندهم واحد، لا فرق بين الحالتين، كما سبق بيانه، والتفريق إنما هو اجتهاد من المجد وتابعه عليه ابن النجار، ولذلك لم ينقلا عن أحدٍ من الحنابلة قال بالتفريق. والله تعالى أعلم.

ص: 1762

المعتزلة

(1)

. ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن مالك

(2)

. قال القرافي: "وهو الذي نقله أئمة المالكية

(3)

في كتبهم الأصولية والفروعية، وفروعُ المذهب مبنية عليه"

(4)

.

ثم قال القاضي: "واختلف القائلون بالوجوب على طريقين: فذهب بعضهم إلى أنا ندرك الوجوب بالعقل، وذهب بعضهم إلى أنا ندركه بأدلة السمع"

(5)

.

والرابع: التوقف

(6)

. وعليه جمهور المحققين منا كالصيرفي

(7)

، والواقفية

(8)

. واختاره الغزالي، والإمام وأتباعه منهم

(1)

انظر: نهاية الوصول 6/ 2121، المحقق من علم الأصول ص 64.

(2)

انظر: التلخيص 2/ 231.

(3)

في (ت): "المالكيين".

(4)

انظر: نفائس الأصول 5/ 2318. أقول: عجيب من الشارح رحمه الله أن ينسب إلى مالك رضي الله عنه الإباحة، وهو ينقل كلام القرافي هذا!

(5)

انظر: التلخيص 2/ 232، مع تصرف يسير. وانظر: البحر المحيط 6/ 32، العدة 3/ 749.

(6)

معنى التوقف: هو أنه لا يثبت بفعله صلى الله عليه وسلم علينا حكم أصلًا: لا وجوب، ولا ندب، ولا إباحة، ولا حظر، ولا كراهة. ولا يتعيَّن واحدٌ منها إلا بدليل زائد. والحكم علينا بعد نقل فِعْل الرسول صلى الله عليه وسلم -كالحكم علينا قبل نقله. انظر: المحقق من علم الأصول ص 68 - 69، التلخيص 2/ 232، نهاية الوصول 5/ 2122، المستصفى 3/ 455.

(7)

انظر: المحصول 1/ ق 3/ 346، البحر المحيط 6/ 34. وبه قال ابن فورك، وأبو إسحاق الشيرازي.

انظر: المحقق من علم الأصول ص 67 - 68، اللمع ص 68، شرح اللمع 1/ 546.

(8)

كالقاضي. انظر: التلخيص 2/ 232، والأشعري. انظر: البحر المحيط 6/ 34، البرهان 1/ 489 - 490. ونسبه ابن السمعاني إلى أكثر الأشعرية في القواطع 2/ 178.

ص: 1763

المصنف

(1)

. وصححه القاضي أبو الطيب في شرح

(2)

الكفاية، (ونقله)

(3)

عن أكثر الأصحاب

(4)

، وأبي بكر الدقاق، وأبي القاسم بن كج

(5)

. وقالوا: لا ندري أنه للوجوب، أو للندب، أو للإباحة؛ لاحتمال هذه الأمور كلها، واحتمال أن يكون أيضًا من خصائصه عليه السلام.

والخامس: أنه على الحظر في حقنا. حكاه الغزالي

(6)

. قال الآمدي: "وهو قول بعض مَنْ جَوَّز على الأنبياء المعاصي"

(7)

.

قلت: وليس مُسْتَندُ القائل بهذه المقالة تجويزَ المعاصي، بل ما ذكره القاضي في "مختصر التقريب" فقال: ذهب قومٌ إلى أنه يحرم اتباعه. (وهذا

(1)

انظر: المحصول 1/ ق 3/ 346، الحاصل 2/ 624، التحصيل 1/ 435، نهاية الوصول 5/ 2121، المستصفى 3/ 455 (2/ 214).

ونسبه الإمام إلى أكثر المعتزلة، وتبعه صاحب التحصيل، والقرافي في شرح التنقيح ص 288، وصفي الدين الهندي. ونسبه الآمدي إلى جماعة من المعتزلة في الإحكام 1/ 174، وكذا أبو شامة في "المحقق" ص 68.

(2)

سقطت من (ص).

(3)

سقطت من (ص).

(4)

وكذا أبو إسحاق في شرح اللمع 1/ 546.

(5)

انظر: البحر المحيط 6/ 34. وقد سبق النقل عن أبي الخطاب الكلوذاني رحمه الله تعالى أنه رجَّح مذهب الوقف، وجعله رواية عن أحمد رضي الله عنه بمقتضى كلامه.

(6)

انظر: المستصفى 3/ 455 (2/ 214).

(7)

انظر: الإحكام 1/ 174، وكذا تبعه الهندي في هذه المقولة.

انظر: نهاية الوصول 5/ 2122.

ص: 1764

بناءً مِنْ هؤلاء)

(1)

على أصلهم في الأحكام قبل ورود الشرائع، فإنهم زعموا أنها على الحظر، ولم يجعلوا فِعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم -عَلَمًا في تثبيت حكم، فبقي الحكم على ما كان عليه في قضية العقل قبل ورود الشرائع

(2)

. انتهى. وكذلك ذكر الغزالي، وقال:"لقد صدق هذا القائل في قوله: بقي على ما كان. وأخطأ في قوله: إنَّ الأحكام قبل الشرع على الحظر؛ لما قررناه في موضعه".

(3)

فإن قلت: فهل قَصْدُ القربة في الفعل قرينة الوجوب أو الندب

(4)

(حتى لا يتأتى)

(5)

فيه الخلاف المذكور؟

قلت: لا؛ لتصريح بعضهم بجريان الخلاف في القسمين جميعًا، أعني: ما ظهر فيه قصد القربة، وما لم يظهر. غير أن القول بالوجوب والندب يَقْوَى في القسم الأول، والقول بالإباحة والتوقف يضعف فيه. وأما القسم الثاني فبالعكس منه

(6)

.

(1)

في (ص): "وهذا من هؤلاء بناءً".

(2)

انظر: التلخيص 2/ 230، وكذا نقل الزركشي عن ابن القشيري - رحمهما الله - أنه قال بمقولة القاضي في بناء هذا القول على الحكم قبل الشرع. انظر: البحر المحيط 6/ 35، وكذا قال أبو شامة في "المحقَّق" ص 72.

(3)

انظر: المستصفى 3/ 456، مع تصرف من الشارح رحمه الله.

(4)

في (ت): "والندب".

(5)

في (ت): "حتى لا يأتي".

(6)

هذا السؤال والجواب نقله الشارح رحمه الله تعالى من نهاية الوصول 5/ 2125 - 2126، وقد سبق أن علقت في أول المسألة بأنه سيأتي النقل عن صفي الدين الهندي رحمه الله بأنه صَرَّح بالتسوية بين القسمين في جريان خلاف العلماء.

ص: 1765

فإن قلت: فكيف يتجه جريان قولٍ بالإباحة فيما يظهر فيه قصد القربة، فإنَّ قصد القربة لا يُجامع استواء الطرفين؟

قلت: النبي صلى الله عليه وسلم قد يُقدم على ما هو مستوي الطرفين؛ ليبين للأمة جواز الإقدام عليه، ويُثاب صلى الله عليه وسلم بهذا القصدِ وهذا الفعلِ وإن كان مستوي الطرفين، فيظهر في المباح قَصْدُ القربة بهذا الاعتبار

(1)

، ولا يتجه جريان القول بالإباحة إلا بهذا التقرير. على أنا لم نَرَ مِن المتقدمين مَنْ صرَّح بحكايته في هذا القسم، أعني: السادس، وهو ما ظهر فيه قصد القربة. نعم حكاه الآمدي ومَنْ تلقاه منه، ولا مساعِدَ للآمدي على

(2)

حكايته، وأنا قد وقفت على كلام القاضي فمَنْ بعده.

الثامن: ما دار الأمر فيه بين أن يكون جبليًا وأن يكون شرعيًا وهذا القسم لم يذكره الأصوليون، فهل يُحمل على الجبلي؛ لأن الأصل عدم التشريع، أو على الشرعي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِث لبيان الشرعيات؟

وهذا القسم قاعدة جليلة، وهي مُفْتَتَح كتابنا "الأشباه والنظائر"، وقد ذكرت في كتابي "الأشباه النظائر" أنه قد يخرج فيها قولان من القولين في تعارض الأصل والظاهر

(3)

؛ إذ الأصل عدم التشريع،

(1)

انظر: شرح المحلي على الجمع 2/ 99، سلم الوصول 3/ 22.

(2)

في (ت): "في".

(3)

قال الشارح رحمه الله: "فإن عارض الأصلَ ظاهرٌ - فقيل: قولان دائمًا. وقيل: غالبًا. وقيل: أصحهما اعتماد الأصل دائمًا. وقيل: غالبًا. والتحقيق: الأخذ بأقوى الظنين". الأشباه والنظائر 1/ 14. وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 64.

ص: 1766

والظاهر أنه شرعي؛ لكونه مبعوثًا لبيان الشرعيات.

ومن صور هذا القسم أنه صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية كَداء، وخرج من ثنية كُدى

(1)

. فهل كان ذلك لأنه صادف طريقه، أو لأنه سنة؟ فيه وجهان

(2)

.

ومنها: جلسة الاستراحة عندما حَمَل اللحم

(3)

. فقيل: ذلك جبلي فلا

(1)

فيه حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كَدَاء، وخرج من كُدًا مِنْ أعلى مكة". أخرجه البخاري 2/ 572، في كتاب الحج، باب من أين يخرج من مكة، حديث رقم 1503، من طريق أبي أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، أما رواية عمرو عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح مِنْ كَدَاء أعلى مكة. وكذا رواه حاتم عن هشام عن عروة: دخل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح مِنْ كَدَاء من أعلى مكة. وكلاهما في الصحيح وهما الصواب. انظر رقم 1503، 1504. ورواه مسلم من طريق أبي أسامة على الصواب: أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح مِنْ كَدَاء منْ أعلى مكة. انظر: صحيح مسلم 2/ 919، كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، رقم (225/ 1258). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (3/ 437) عن رواية أبي أسامة التي في البخاري: قوله: "من أعلى مكة" كذا رواه أبو أسامة فقَلَبه، والصواب ما رواه عمرو وحاتم عن هشام:"دخل من كداء من أعلى مكة" ثم ظهر لي أن الوهم فيه ممن دون أبي أسامة، فقد رواه أحمد عن أبي أسامة على الصواب. اهـ.

(2)

انظر: البحر المحيط 6/ 26، شرح الكوكب 2/ 180، المحقق من علم الأصول ص 50.

(3)

ورد في جلسة الاستراحة حديث مالك بن الحُوَيْرث رضي الله عنه. أخرجه البخاري 1/ 239، في الجماعة والإمامة، باب مَنْ صلَّى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، حديث رقم 645. وانظر الأرقام 769، 785، 790. وانظر: تلخيص الحبير 1/ 259، رقم الحديث 389، 390.

ص: 1767

يستحب، وقيل شرعي

(1)

.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا

(2)

، (فهل يُحمل على الجبلي فلا يستحب، أو على الشرعي

(3)

؟

ومنها: حَجُّه راكبًا

(4)

)

(5)

.

(1)

انظر: المجموع 3/ 443، شرح الكوكب 2/ 180.

(2)

يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حَجَّةِ الوداع على بعير، يستلم الركن بمِحْجَنٍ". أخرجه مسلم 2/ 926، في كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعيرٍ وغيره، رقم 1272. وكذا حديث جابر وعائشة رضي الله عنهما وهما في مسلم أيضًا انظر رقم 1273، 1274.

(3)

ذكر الرافعي رحمه الله في العزيز (3/ 398): أن من سنن الطواف المشي، فقال:"أن يطوف ماشيًا ولا يركب إلا بعذر مرضٍ ونحوه؛ كيلا يؤذي الناس، ولا يلوِّث المسجد. وقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأكثر ماشيًا، وإنما ركب في حجة الوداع ليراه الناس فيَسْتفتيَ المفتون. فإن كان الطائف مترشِّحًا للفتوى فله أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيركب، ولو ركب من غير عذرٍ أجزأه ولا كراهة. هكذا قاله الأصحاب".

(4)

يدل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الطويل في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، وفيه:"ثم ركب القَصْواء حتى إذا استوت به ناقته على البَيْداء"، وفيه أيضًا:"حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فَرُحِلَتْ له"، وفيه أيضًا:"ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرات". أخرجه مسلم 2/ 886 - 892، في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 1218. وحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما:"كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث. أخرجه البخاري 2/ 551، في كتاب الحج، باب وجوب الحج، حديث رقم 1442، وانظر الأرقام 4138، 5874. ومسلم 2/ 973، في الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرمٍ ونحوهما، رقم 1334.

(5)

سقطت من (ت).

ص: 1768

ومنها: ذهابه في العيد في طريق، وإيابه في آخر

(1)

(2)

. والقاعدة مستوفاة في كتابنا "الأشباه والنظائر" كَمَّله الله.

قال: (احتج القائل بالإباحة: بأن فِعْله لا يُكره ولا يَحرم، والأصل عدم الوجوب والندب؛ فبقي الإباحة. ورُدَّ: بأنَّ الغالب مِنْ فعله الوجوب أو الندب).

احتج القائل بالإباحة: بأنَّ فعله صلى الله عليه وسلم لا يكون حرامًا؛ لما تقرر في مسألة العصمة. ولا مكروهًا؛ لما قدمناه من أنه نادر بالنسبة إلى آحاد العدول، فكيف إلى أشرف المرسلين! وهذا عند من يُجَوِّز وقوع المكروه، وقد قدمنا ما نراه في ذلك، وذلك في المكروه الذي لا يَقْصد بفعله بيانَ جوازه، أما ما فَعَله ليبيِّن أنه جائز فقد يقال: لم لا يقع الإقدام ويكون مستحبًا أو واجبًا

(1)

أخرجه البخاري 1/ 334، في كتاب العيدين، باب مَنْ خالف الطريق إذا رجع يوم العيد، حديث رقم 943، عن جابر رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 2/ 338، والترمذي 2/ 424 - 425، في أبواب الصلاة، باب ما جاء في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العيد في طريق ورجوعه من طريق آخر، حديث رقم 541، وابن ماجه 1/ 412، في كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها، باب ما جاء في الخروج يوم العيد من طريق والرجوع من غيره، رقم 1301، والحاكم 1/ 296، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب. وأخرجه أحمد 2/ 109، وأبو داود 1/ 683 - 684، في كتاب الصلاة، باب الخروج إلى العيد في طريق ويرجع في طريق، رقم 1156، وابن ماجه 1/ 412، رقم الحديث 1299، والحاكم 1/ 296، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وفي الباب عن سعد القرظ وأبي رواهما ابن ماجه 1/ 412، رقم 1298، 1300.

(2)

انظر هذه الصورة في: البحر المحيط 6/ 26، شرح الكوكب 2/ 180.

ص: 1769

بالنسبة إليه؛ لما في إقدامه عليه مِنْ تبيين الجواز، كما قدمناه. والذي يظهر أنه لا يُقْدِم على فعله؛ إذ في القول مندوحة عن الفعل. وإذا انتفى المحرم والمكروه - انحصر الأمر في الواجب والمندوب والمباح، والأصل عدم الوجوب والندب

(1)

، فلم يبق إلا

(2)

الإباحة.

وأجاب: بأن الغالب على فِعْله الوجوب أو الندب

(3)

، فيكون الحمل على أحدهما أولى؛ لأن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب أرجح وأولى من إلحاقه بخلاف ذلك.

ولقائل أن يقول: الوجوب والندب وإنْ كانا غالبًا إلا أنا لا

(4)

نسلم أنه يقاوم الأصل الذي أشرنا إليه، بل الأصل أولى.

قال: (وبالندب: بأن قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(5)

يدل على الرجحان، والأصل عدم الوجوب).

واحتج

(6)

القائل بالندب بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، والاستدلال بهذه الآية يُقَرَّر على أربعة أوجه: ثلاثة منها

(1)

لأن رفع الحرج عن الفعل والترك ثابت، وزيادة الوجوب والندب لا تثبت إلا بدليل ولم يتحقق. انظر: نهاية السول 3/ 23.

(2)

في (ت)، و (غ):"غير".

(3)

في (ص): "والندب".

(4)

في (ت) بياض بالسطر.

(5)

سورة الأحزاب: الآية 21.

(6)

في (ت): "احتج".

ص: 1770

تدل على الندبية، والرابع يدل على الوجوب.

الأول: التمسك بقوله: {لَكُمُ} ، ووجهه: أنه قال: {لَكُمُ} ، وما قال:"عليكم"، وذلك يفيد أنه مندوب إليه؛ إذ المباح لا نفع فيه، واللام للاختصاص بجهة النفع، والظاهر من جهة الشرع اعتبار النفع الأخروي لا الدنياوي.

والثاني: وهو ما أورده الإمام: التمسك بقوله: {أُسْوَةٌ} ، وتقريره: أن التأسي لو كان واجبًا - لقال: "عليكم" كما عَرفتَ، فلما قال:{لَكُمُ} دل على عدم الوجوب. ولا أثبت الأسوة دلَّ على رُجحان جانب الفعل على الترك؛ فلم يكن مباحًا

(1)

.

والثالث: وهو ما أورده في الكتاب: التمسك بقوله: {حَسَنَةٌ} ووجهه: أن قوله: {حَسَنَةٌ} يدل على الرجحان

(2)

، والوجوب منتف بالأصل؛ فتعيَّن الندب.

ولم يُجِب عن هذا، بل جمع بينه وبين دليل الإيجاب. وأجاب عنهما: بأن الأسوة والمتابعة مِنْ شرطهما العلم بصفة الفعل

(3)

.

والرابع: الدال على الوجوب، وتقريره: أنه تعالى قال: {لَقَدْ كَانَ

(1)

انظر: المحصول 1/ ق 3/ 368.

(2)

لأن أدنى مراتب الحسنة الرجحان. انظر: السراج الوهاج 2/ 696.

(3)

يعني: لم يُجِب المصنف هنا عن هذه الأدلة الدالة على الندب، مع أن المختار عنده التوقف كما تقدم، بل جمع بين هذه الأدلة وأدلة من قال بالوجوب، ثم أجاب عنهما؛ وذلك لأن جوابهما واحد، فلم يكرره.

ص: 1771

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}

(1)

وهذا جارٍ مَجْرى التهديد على ترك التأسي به؛ لأن معنى الآية أن مَنْ يرجو الله واليوم الآخر - فله فيه الأسوة الحسنة، (ومن لا يرجو الله واليوم الآخر - فليس له فيه الأسوة الحسنة)

(2)

، فيكون وعيدًا على ترك التأسي به. أو نقول بعبارة أخرى: إنه جعل التأسي به لازمًا لرجاء الله واليوم الآخر، فيلزم مِنْ عدم التأسي به عدمُ رجاء الله واليوم الآخر، وهو محرم، فكذلك ما يستلزمه. والتأسي به في الفعل إنما هو بإتيان مِثْل فعله، فيكون الإتيان بمثل فعله واجبًا. هذا تقرير الأوجه.

واعلم أن الذي يظهر في الآية أنَّ الله تعالى جعل للمؤمنين في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وتلك الأسوة: هي الاقتداء به، وليست عامةً في كل شيء؛ إذ هي نكرة في سياق الإثبات فلا تقتضي العموم، فلا يلزم دخول الفعل المجرد تحتها. هذا من حيث اللفظ، وسواء قُرِّر على الوجه المقتضي للوجوب أم للندب.

والحق من الدلائل الخارجية والبراهين القاطعة أن الاقتداء به في كل شيء مشروعٌ محبوب؛ لأن الله تعالى جعله قدوة الخليقة، ولكن الاقتداء به يستدعي العلم بصفة الفعل

(3)

، والفعل المجرد لم تُعلم صفته، فلا يدل وجوبُ الاقتداء ولا استحبابُه عليه.

(1)

سورة الأحزاب: الآية 21.

(2)

سقطت من (ت).

(3)

لأن الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم في فِعْله الواجبَ يكون بفعله على وجه الوجوب، لا على وجه الندب. وكذا المندوب، والمباح.

ص: 1772

وأما تمسك الإمام بلفظ "الأسوة" ففيه نظر؛ إذ المعنى: أن لكم فيه قدوةً وأنه شُرِع

(1)

الاقتداء به، وذلك أعم مِنْ أن يكون على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، كما تقول: زيد قدوةٌ. وليس المعنى أنه يجب الاقتداء به، ولا يستحب، بل ما هو أعم من ذلك.

وأما تمسك المصنف بقوله: {حَسَنَةٌ} - فقد أُورد عليه أن الحسنة لا تدل على الرجحان؛ لما تقرر في أوائل الكتاب من أنَّ المباح حسن

(2)

. وهذا إيرادٌ لائح في بادئ

(3)

النظر إلا أن الذهن يُسابِق في هذه الآية إلى فهم الرجحان مِنْ قوله: {حَسَنَةٌ} ، لا يكاد يتمارى فيه، ولعل سبب ذلك أنه قال:{لَكُمْ أُسْوَةٌ} فأفاد ذلك مشروعية الاقتداء، فلما قال:{حَسَنَةٌ} بعد ذلك اقتضى زيادة على المشروعية، وليست تلك الزيادة إلا الرجحان، كما تقول: زيدٌ إنسان. فإن هذا كلامٌ مفيدٌ يفهم اللبيبُ منه بقولك: "إنسان" فوق ما يفهم من مدلول "إنسانٍ" من حيث هو، وهو أنه حاوٍ لخصال الإنسانية الشريفة، ولو لم يُفهم زيادةٌ على مدلولِ الإنسان - لم يُعَد الكلام مفيدًا؛ إذ كل زيدٍ إنسان.

قال: (وبالوجوب: بقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ}

(4)

، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ

(1)

في (ص): "يشرع".

(2)

هذا الإيراد ذكره الجاربردي في السراج الوهاج 2/ 696.

(3)

في (ص): "مبادئ".

(4)

هكذا في جميع النسخ، وهي آية الأنعام، رقم 155:{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وكذا وردت في السراج الوهاج 2/ 697، وشرح الأَصفهاني 2/ 501، ومعراج المنهاج 2/ 7. وفي نهاية السول 22/ 3، ومناهج العقول 2/ 199: =

ص: 1773

تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}

(1)

، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}

(2)

، وإجماع الصحابة على وجوب الغُسْل بالتقاء الختانين؛ لقول عائشة رضي الله عنها:"فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا". وأجيب: بأن المتابعة هي الإتيان بمثل ما فَعَل على وجهه. {وَمَا آتَاكُمُ} معناه: وما أمركم، بدليل:{وَمَا نَهَاكُمْ} واستدلال الصحابة بقوله: "خذوا عني مناسككم").

احتج القائل بالوجوب: بالنص، والإجماع.

أما النص: ففي مواضع:

أحدها: قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} ، وظاهر الأمر الوجوب.

وثانيها: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} دلَّت على أن محبةَ الله تعالى التي هي واجبة إجماعًا مستلزمةٌ لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولازم الواجب واجب؛ فمتابعته واجبة.

وثالثها: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، فإذا فعل فعلًا فقد أتانا بفعل، فوجب علينا أن نأخذه

(3)

.

= {وَاتَّبِعُوهُ} ، وهي في سورة الأعراف، رقم 158، والشارح رحمه الله ذكر في شرحه آية الأعراف. وكذا شمس الدين الأصفهاني رحمه لله ذكر في شرحه (2/ 505) آية الأعراف.

(1)

سورة آل عمران: الآية 31.

(2)

سورة الحشر: الآية 7.

(3)

أي: أن نمتثله. فالأخذ هنا معناه: الامتثال. انظر: نهاية السول 3/ 26، والسراج الوهاج 2/ 697.

ص: 1774

وأما الإجماع: فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في وجوب الغسل من التقاء الختانين، فقالت عائشة رضي الله عنها:"إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، فعلتُه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا". رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح

(1)

. فرجعوا لِقَوْل عائشة، واتفقوا على وجوب الغسل بالتقاء الختانين.

والجواب عن الدليلين الأولين: بأن المتابعة هي الإتيان بمثل فِعْله على الوجه الذي أَتَى به من الندب أو غيره، حتى لو فعله على جهة الوجوب ففعلناه على جهة الندب لم تحصل المتابعة، وحينئذٍ فيلزم توقف الأمر بالمتابعة على معرفة الجهة، (وإذا لم نعلم بها لم نُؤمر بالمتابعة)

(2)

.

واعلم أن المتابعة والتأسي بمعنى واحد، فلذلك جعل المصنف جواب المتابعة جوابًا عن التأسي الذي احتج به الذاهب إلى الندب كما عرفت

(3)

.

وللمتابعة والتأسي شرطٌ آخر مع ما ذُكِر: وهو أن يقع الفعل لكونه فَعَل، ومن هنا يُغَايران الموافقة، فإنه لا يُشترط فيها أن تكون علةُ فِعْله إياه كونَه فَعَلَه

(4)

.

(1)

انظر: مسند أحمد 6/ 161، سنن الترمذي 1/ 180 - 181، في الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، رقم 108. وجاء هذا الحديث مرفوعًا من رواية سعيد بن المسيَّب عن عائشة مرفوعًا، أخرجه أحمد 6/ 135، والترمذي 1/ 182، في الطهارة في الباب السابق، حديث رقم 109، وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح. وانظر: مجمع الزوائد 1/ 266 - 267.

(2)

في (ت): "وإذا لم يُعلم بها لم يؤمر بالمتابعة".

(3)

انظر: نهاية السول 3/ 26.

(4)

المعنى: أنه يشترط: في التأسي والمتابعة أن يقع الفعل منا لكون النبي صلى الله عليه وسلم -فَعَله، أما =

ص: 1775

وعن الآية الثالثة: أن معنى قوله: {آتَاكُمُ} أمركم، يدل على ذلك أنه قال في مقابِلِه:{وَمَا نَهَاكُمْ} .

وأما الإجماع على وجوب الغُسل: فليس لمجرد الفعل؛ بل لأنه فِعْلٌ في باب المناسك، وقد كانوا مأمورين بأخذ المناسك عنه بقوله:"خذوا عني مناسككم"، واللفظ وإنْ ورد في الحج - فهو عام في كل نُسُكٍ، أي: في

(1)

كل عبادة.

قلت: وفي الجواب نظر، فإن في الحديث بعد قوله:"خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" كذا رواه مسلم، وأحمد، والنسائي

(2)

، وعامة مَنْ رواه، ويتعيَّن بهذا اللفظ حَمْلُه على أعمال الحج دونَ غيرها.

ويمكن أن يقال في الجواب عن الإجماع: إنهم لم يُجمعوا بمجرد فعله عليه السلام، بل لفعل عائشة رضي الله عنها معه، فإنَّ بفعلها يتبين أن الحكم فيها وفينا واحد، بخلافه؛ لاحتمال الخصوصية فيه.

ثم لقائل أن يقول: هذا القسم مما ظهر فيه قصد القربة، والمصنف إنما تكلم في المتجرد

(3)

(4)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الموافقة فلا يشترط فيها هذه العلة، فيمكن أن يقع الفعل منا، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم، ونكون موافقين له صلى الله عليه وسلم؛ لأننا ائتمرنا بأمره، أي: بقوله.

(1)

سقطت من (ص)، و (غ).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

في (غ): "المجرد".

(4)

قد سبق أن بيَّنتُ أن حكم القِسمين واحد، وأن الخلاف فيهما واحد. ثم إن =

ص: 1776

(1)

.

قال: (الثالثة: جهة فعله تُعلم: إما بتنصيصه، أو تسويته لما علم جهته، أو بما علم أنه امتثالُ آية دلت على أحدها، أو بيانُها. وخصوصًا الوجوب: بأماراته

(2)

كالصلاة بأذانٍ وإقامة، وكونه موافقة نذرٍ، أو

= حكاية الإجماع في الغسل من الجماع بدون إنزال فيها نظر، فإن الخلاف مشهور بين الصحابة رضي الله عنهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ثبت عن جماعة منهم، لكن ادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو مُعْتَرض أيضًا، فقد قال الخطابي: إنه قال به من الصحابة جماعة، فسَمَّى بعضهم. قال: ومن التابعين الأعمش. وتَبِعه عياض (أي: تبع الخطابي) لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره. وهو مُعترض أيضًا، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو في سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح، وعن هشام بن عروة عن عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح. . . لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب، والله أعلم". فتح الباري 1/ 398 - 399، وقد ذهب إلى عدم الغسل من الجماع بغير إنزال داود وبعض الظاهرية، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم جميعًا، لكن مخالفتهم ضعيفة؛ لصراحة بعض الآثار بنسخ ذلك. انظر: نيل الأوطار 1/ 277، إحكام الأحكام 1/ 143.

(1)

انظر المسألة في: المحصول 1/ ق 3/ 345، الحاصل 2/ 623، التحصيل 1/ 434، نهاية الوصول 5/ 2121، نهاية السول 3/ 16، السراج الوهاج 2/ 692، الإحكام 1/ 173، المعتمد 1/ 347، شرح اللمع 1/ 545، المستصفى 3/ 454 (2/ 214)، المحلي على الجمع 2/ 96، البحر المحيط 6/ 23، البرهان 1/ 487، التلخيص 2/ 225، شرح التنقيح ص 288، إحكام الفصول ص 309، العضد على ابن الحاجب 2/ 22، كشف الأسرار 3/ 200، تيسير التحرير 3/ 120، فواتح الرحموت 2/ 180، العدة 3/ 734، التمهيد 2/ 317، المسودة ص 187، شرح الكوكب 2/ 178.

(2)

في (غ): "بأمارته".

ص: 1777