الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثالث: أن الأمة إذا افترقت إلى فرقتين جاز للعامِّيِّ الأخذ بقول أيِّ فرقة شاء. ثم إذا أجمعوا على أحد القولين تَحَتَّم عليه الأخذُ بالمُجْمع عليه، مع أنه ليس بنسخ؛ لأن الإجماع لا يُنْسخ ولا يُنْسخ به
(1)
(2)
.
قال
(3)
: (وفيه مسائل:
الأولى: أنه واقع وأحالته اليهود
. لنا: أن حُكْمه إنْ
(4)
تَبِع المصالح فيتغير بتغيرها، وإلا فله أن يفعل ما يشاء. وأن
(1)
وهذا الاعتراض فيه نظر أيضًا؛ لأنا لا نسلِّم أن الحكم نفيًا وإثباتًا مُسْتَنِدٌ إلى قول أهل الإجماع، وإنما هو مُسْتَنِدٌ إلى الدليل السمعي الموجِب لإجماعهم على ذلك الحكم. وعلى هذا فيكون إجماعهم دليلًا على وجود الخطاب الذي نَسَخ، لا أن إجماعهم نسخ. ولعل الشارح - رحمه الله تعالى - ترك الرد على هذا الاعتراض؛ لأنه شبيه بما قبله، فقول الراوي، وكذا الإجماع دليلان على وجود خطاب ناسخ، غاية ما في الأمر أن قول الراوي ليس قطعيًا في هذه الدلالة، بل هو محتمل للخطأ، والثاني قطعي الدلالة على وجود الناسخ. انظر: الإحكام 3/ 107.
(2)
انظر تعريف النسخ في الاصطلاح في: المحصول 1/ ق 3/ 423، الحاصل 2/ 638، التحصيل 2/ 7، نهاية الوصول 6/ 2218، نهاية السول 2/ 548، السراج الوهاج 2/ 639، مناهج العقول 2/ 161، المستصفى 2/ 35 (1/ 107)، البرهان 2/ 1293، المعتمد 1/ 366، الوصول إلى الأصول 2/ 7، الإحكام 3/ 104، شرح التنقيح ص 301، بيان المختصر 2/ 489، العضد على ابن الحاجب 2/ 185، كشف الأسرار 3/ 155، فواتح الرحموت 2/ 53، تيسير التحرير 3/ 178، شرح الكوكب 3/ 526، العدة 1/ 155، 3/ 778، التمهيد لأبي الخطاب 2/ 336.
(3)
في (ت) بياض بالسطر.
(4)
سقطت من (غ).
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت بالدليل القاطع وقد نَقَل قولَه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . وأنَّ آدم عليه السلام زَوَّج بناتِه مِنْ بنيه، والآن محرمٌ اتفاقًا).
أجمع المسلمون على جواز النسخ، وذهبت فئة من المنتمين إلى الإسلام منهم أبو مسلم الأصفهاني
(1)
إلى مَنْع النسخ؛ هَرَبًا مِن البَدَاء
(2)
، واعتقادًا منهم أنَّ النسخ يؤدي إليه
(3)
.
(1)
هو محمد بن بَحْر الأصفهانيّ الكاتب، أبو مسلم. ولد سنة 254 هـ. كان نحويًا كاتبًا بليغًا، مُتَرسِّلًا جَدِلًا، متكلِّمًا معتزليًا، عالمًا بالتفسير وغيره من صنوف العلم، ثم صار عامل أصبهان وعامل فارس للمقتدر. من مصنفاته:"جامع التأويل لمحكم التنزيل" أربعة عشر مجلدًا على مذهب المعتزلة، الناسخ والمنسوخ، وكتاب في النحو. توفي سنة 322 هـ. انظر: معجم الأدباء 18/ 35، بغية 1/ 59.
(2)
البَدَاء: هو الظهور بعد الخفاء. ومنه يقال: بدا لنا سُور المدينة بعد خفائه. وبدا لنا الأمر الفلاني. أي: ظهر بعد خفائه. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ، {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} ، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}. انظر: الإحكام 3/ 109، شرح اللمع 1/ 485، البحر المحيط 5/ 206، المصباح المنير 1/ 46، مادة (بدا).
(3)
نسب الشيرازي هذا القول إلى شرذمة من المسلمين. انظر: اللمع ص 55، ونسبه الباجي إلى طائفة شاذة من المبتدعة. انظر: إحكام الفصول ص 391، ونسبه الغزالي وأبو الحسين إلى شذوذ من المسلمين. انظر المستصفى 3/ 49، المعتمد 1/ 370. ونسبه إمام الحرمين إلى غلاة الروافض. انظر: البرهان 2/ 1300، ونسبه الإمام وأتباعه إلى بعض المسلمين. انظر: المحصول 1/ ق 3/ 441، الحاصل 2/ 641، التحصيل 2/ 10، نهاية الوصول 6/ 2245، وكذا القاضي في التلخيص 2/ 468. وأشهر من نُسب إليه هذا القول من المسلمين هو أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة، =
وأما اليهود لعنهم الله فمنهم مَنْ أنكر جوازَه عقلًا ووقوعَه شرعًا
(1)
. ومنهم من أنكر وقوعه فقط
(2)
. وذهبت العِيسوية منهم: وهم أصحاب أبي عيسى الأصفهاني
(3)
، المعترفون بصحة نبوة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن إلى بني إسماعيل عليه السلام وهم العرب خاصة - إلى
= حتى قال الآمدي رحمه الله تعالى: "اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلًا، وعلى وقوعه شرعًا، ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني، فإنه منع من ذلك شرعًا، وجَوَّزه عقلًا". الإحكام 3/ 115، وكذا في فواتح الرحموت 2/ 55، وتيسير التحرير 3/ 181، وشرح الكوكب 3/ 533، والعدة 3/ 770، ومنتهى السول والأمل ص 154، والعضد على ابن الحاجب 2/ 188، وشرح اللمع 1/ 482، والتمهيد لأبي الخطاب 2/ 341.
(1)
وهي فرقة الشمعونية. انظر: نهاية السول 2/ 555، فواتح الرحموت 2/ 55،
(2)
وهي فرقة العنانية: وهي فرقة من اليهود نُسبوا إلى عنان بن داود رأس الجالوت، يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد، ويصدقون عيسى عليه السلام في مواعظه وإشاراته، ويقولون إنه لم يخالف التوراة ألبتة، إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته. انظر: نهاية السول 2/ 555، الإحكام 3/ 115، الملل والنحل 2/ 54.
(3)
هو أبو عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، وقيل: اسمه عوفيد الوهيم، أي: عابد الله. كان في زمان المنصور، وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد، فاتبعه بشر كثير من اليهود، وادعوا له آياتٍ ومعجزات. وقيل: إنه لما حارب أصحاب المنصور بالرَّيِّ قُتل وقُتل أصحابه. وزعم أنه نبي، وأنه رسول المسيح المنتظر، وزعم أن الله تعالى كلَّمه وكلَّفه أن يخلِّص بني إسرائيل من أيدى الأمم العاصين، والملوك الظالمين، وزعم أن المسيح أفضل ولد آدم، وأنه أعلى منزلة من الأنبياء الماضين، وإذ هو رسوله فهو أفضل الكل أيضًا، وكان يوجب تصديق المسيح، وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكبيرة المذكورة في التوراة. انظر: الملل والنحل 2/ 55، 56.
جوازه عقلًا ووقوعه سمعًا
(1)
.
واعلم أنه لا يحسن ذِكْر هؤلاء المُبْعَدِين في وفاق ولا خلاف، ولكن السبب في تحمل المشقة بذكرهم التنبيه على أنهم لم يخالفوا جميعًا في ذلك
(2)
. وأما مَنْ أنكره من المسلمين فهو مُعْتَرِفٌ بمخالفة شرع مَنْ قبلنا (لشرعنا في كثيرٍ من الأحكام، ولكنه يقول: إنَّ شرع مَنْ قبلنا)
(3)
كان مُغَيًّا إلى غايةِ ظهوره عليه السلام، وعند ظهوره صلى الله عليه وسلم زال التعبد بشرع مَنْ قبله لانتهاء الغاية، وليس ذلك من النسخ في شيء، بل هو جارٍ مجرى قوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وحينئذ لا يلزم من إنكار النسخ إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
انظر: نهاية السول 2/ 555، الإحكام 3/ 115، فواتح الرحموت 2/ 55، نهاية الوصول 6/ 2245.
(2)
كأن الشارح رحمه الله تعالى يَرُدُّ على مَنْ يعترض بذكر مخالفة اليهود في جواز النسخ: بأن ذكر مخالفتهم لا يحسن، إذ البحث هنا عن آراء المسلمين، لا الكافرين. والجواب كما ذكر: هو أن القصد بهذا بيان أنهم لم يخالفوا جميعًا. والأمر سهل يسير. وانظر: نهاية الوصول 6/ 2245.
(3)
سقطت من (غ).
(4)
ذكر هذا التوجيه لمخالفة منكري النسخ من المسلمين الإمام في المحصول 1/ ق 3/ 442 - 444، والقرافي رحمه الله في نفائس الأصول 6/ 2430، وشرح التنقيح ص 306، وسراج الدين في التحصيل 2/ 11، وتاج الدين في الحاصل 2/ 642، وصفي الدين الهندي في نهاية الوصول 6/ 2239 - 2240، وكذا ابن دقيق العيد وابن السمعاني على ما حكاه الزركشي في البحر 5/ 208، ولذلك قال الزركشي:"وحاصله صيرورة الخلاف لفظيًا". وانظر: المحلى على الجمع 2/ 88، كشف =
وقد ذَكَر في الكتاب مِنْ أدلتنا على النسخ أوجهًا ثلاثة:
الأول: وهو دليل على الجواز فقط، أنَّ حكم الله تعالى إما أنْ يتبع المصالح، كما هو رأي المعتزلة
(1)
؛ فيلزم أن يتغَيَّر بتغير المصالح، فإنا على قَطْع بأن المصلحة قد تتغير بحسب الأشخاص والأوقات والأحوال. وإما أن لا يتبع المصالح
(2)
- فله سبحانه وتعالى أن يحكم ما يشاء ويفعل ما
= الأسرار 3/ 157 - 158، فواتح الرحموت 2/ 55، المعتمد 1/ 375.
(1)
ورأي الماتريدية أيضًا. انظر: فواتح الرحموت 2/ 56، تيسير التحرير 3/ 182. والفارق بين رأي المعتزلة والماتريدية أن المعتزلة بنوا على هذا وجوبَ أمورٍ على الله تعالى، كوجوب الأصلح للعباد، ووجوب الرزق، ووجوب الثواب على الطاعة، ووجوب العِوَض في إيلام الأطفال والبهائم، ووجوب العقاب بالمعاصي إنْ مات مرتكبها بلا توبة. أما الماتريدية فقالوا: ما ورد به السمع من الكتاب والسنة مِنْ وعد الرزق، ووعد الثواب على الطاعة، وعلى ألم المؤمن، وعلى ألم طفله، حتى الشوكة يُشاكها - فإنما هو محض فضلٍ وتطول منه تعالى دون وجوبٍ عليه عز وجل، ولا بد من وجود ذلك الموعود؛ لوعده الصادق. وما لم يرد به دليل سمعي كتعويض البهائم عن آلامها - لم نحكم بوقوعه وإن جَوَّزناه عقلًا. وقد وافق أبو منصور الماتريدي وأكثرُ مشايخ سمرقند - المعتزلةَ في إثبات أحكام خاصة بمقتضى الحسن والقبح العقليين، أي: ثبوت تلك الأحكام قبل ورود الشرع، والتكليف بها. فقالوا: بوجوب الإيمان بالله ووجوب تعظيمه، وحرمة نسبة ما هو شنيع إليه تعالى كالكذب والسفه، ووجوب تصديق النبي عليه السلام، وحرمة الكذب الضار، وهذا هو معنى شكر المُنْعِم. وقال أئمة بخارى من الحنفية: لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة، كقول الأشاعرة؛ إذ الطاعة والمعصية فرع الأمر والنهي. انظر: المسامرة في شرح المسايرة ص 35 - 45.
(2)
كما هو رأي الأشاعرة وعامة أهل الحديث؛ لأن الحسن عندهم ما حَسَّنه الشرع، والقبيح ما قَبَّحه، فالمنسوخ كان حسنًا في وقته، والناسخ صار حسنًا في وقته.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= انظر: تيسير التحرير 3/ 182، الوصول إلى الأصول 2/ 14، 37 - 38، كشف الأسرار 3/ 161، فتح الباري 1/ 220 - 221. والحاصل أن المعتزلة والماتريدية عَلَّلوا أفعاله تعالى بالمصالح، فحيث وجدت المصلحة وُجد أمر الله تعالى. والأشاعرة لم يعلِّلوا أفعال الله تعالى، بل قالوا: له الإرادة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وحيث وُجد أمر الله تعالى وجدت المصلحة. فالمصلحة مقترنة بأمر الله تعالى عند الطرفين، لكن الفارق أن الأولين عللوا بها، وجعلوها سابقة، ومتبوعة لا تابعة. والآخرين وهم الأشاعرة جعلوها معلَّلة لا علة، وتابعة لا متبوعة، فَعِلَّةُ كونِ المصلحة مصلحةً أنها أَمْر الله تعالى، وعِلَّةُ كونِ المفسدة مفسدة أنها نَهْي الله تعالى. ومن أجل هذا كانت العلة عند المعتزلة: هي الباعث على الحكم. وعند الأشاعرة هي الأمارة على الحكم. فليس هناك فرق بين القولين من الناحية الأصولية؛ إذ المصلحة مقارنة لجميع أحكام المولى تعالى، لكن الفارق بين القولين عَقَديٌّ، وهو أنه هل يجوز أن تعلَّل أفعال الله تعالى أو لا يجوز؟ فمن عَلَّل وَرَد عليه أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، ولا يَحْكُمُ أمرَه شيء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، والتعليل يعني كونه تعالى محكومًا بغيره، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. قال تعالى:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، فجعل سبحانه وتعالى إهلاك المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام وأمه عليها السلام ومن في الأرض جميعًا - أمرًا لو شاءه جل وعلا لفعله، ومعناه: أنه تعالى ليس بظالم لهؤلاء؛ لأنهم ملك له تعالى يفعل فيهم ما يشاء، ولكنه تعالى لم يشأ إهلاك هؤلاء، ولا يُلزمه شيءٌ على عدم إهلاكهم، ولكنه تعالى بمحض اختياره وإرادته شاء بقاءهم. وقِسْ على هذا. ومن لم يعلِّل أفعال الله تعالى نظر إلى ما سبق ذِكْره من مطلق إرادته ومشيئته التي لا يحكمها شيء، والتي لا تفارقها المصلحة والحكمة مطلقًا، فكل أفعاله تعالى حِكَم ومصالح، ولكن المصالح فَرْعُ أمرِه وفِعْلِه، لا أن أمْرَهُ وفِعْلَهُ فَرْعٌ لها. يقول العلامة مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم من رب العالمين": "أما القول باستلزام كون أفعال الله عبثًا واتفاقًا إذا لم تعلَّل بالأغراض والعِلَل =
يريد
(1)
.
والثاني: أن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت بالبراهين القاطعة، التي لا يقبلها شك، ولا يداخلها ريب، وقد نَقَل لنا عن الله تعالى أنه قال: {مَا
= الغائية - فوهم محض، منشؤه كون القائلين بهذا يقيسون الله تعالى على أنفسهم، أي: على الإنسان الذي لا يعمل إلا بالمرجِّح والعلة الغائية، فإذا لم يعمل بذلك يكون فِعْله عبثًا واتفاقًا. وكان حَسْبُهم في التنبه لخطئهم في هذا القياس: أن يعلموا أن الله تعالى لا يحتاج إلى التأمل والتفكر، في حين أن أصحاب الرويَّة من البشر العاملين بالمرجِّح والعلة الغائية يعملون بهما من حيث إنهم في حاجة إلى التفكر في عواقب أفعالهم. فنَفْيُ التعليل من أفعاله تعالى معناه: أنه لا يبني أفعاله عليهما؛ لأن ذلك شأن المفكِّرين في عواقب الأمور الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه، ولا ينافيه أنّ أفعاله تعالى لا تخلو عن الحِكَم والمصالح من غير بنائها عليها، لكنها لا يُعَبَّر عنها بالعِلَل الغائية؛ لأن العلة الغائية ما يبني الفاعل فِعْلَه عليه في ذهنه ويفكِّر فيه قبل الإقدام على الفعل، ومن هنا قلنا: الحكمة تتبع أفعاله، ولم نقل أفعالُه تتبع الحكمة. . ." إلى أن قال:"وخلاصة القول: أن أفعاله تعالى تصدر عنه من غير تفكير في عواقبها، كما نفكر نحن البشر. وعدم التفكير هذا مقتضى كماله تعالى، في حين أنَّ كمالنا في التفكير، وليس كمثله شيء. فإن اعترض معترض: بأن الله تعالى يَعْلم عواقب أفعاله من غير تفكير، فبهذا العلم يكون قد عَلَّل أفعال نفسه. قلنا: ليس العلم بالعواقب والغايات تعليلًا منه تعالى لأفعاله بها، إنما التعليل: بناءُ أفعاله عليها في عِلْمه قبل فِعْلها. وهذا هو التفكير في العواقب بعينه، وهو ما لا يستطيع القائل بالتعليل إنكاره، تعالى الله عنه. ونحن ننفي التعليل بالغايات، لا الغاياتِ ولا العلم بها. فخذ هذا الفرق الدقيق منا، كما أخذناه مِن توفيق الله. . .".
(1)
أي: فله أن يحرم في وقت، ثم ينسخ هذا التحريم، وهكذا، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(1)
، وصحة التمسك بالقرآن إنْ توقفت على صحة النسخ عاد الأمر إلى أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إنما تصح مع القول بالنسخ، ونبوته صحيحة قطعًا فدل على صحة النسخ
(2)
. وإن لم تتوقف عليها - صَحَّ الاستدلال بهذه الآية على جواز النسخ
(3)
.
وفي هذا الاستدلال نظرٌ ذَكَره الإمام في "التفسير"، وتقريره: أن {مَا نَنْسَخْ} جملةٌ شرطية معناها: إنْ ننسخ. وصِدْق الملازمة بين الشيئين لا يقتضي وقوعَ أحدِهما، ولا صحةَ وقوعه، ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ
(1)
سورة البقرة: الآية 106.
(2)
المعنى: أننا إن قلنا: إنَّ حجية القرآن لا تثبت إلا بعد إثبات صحة النسخ؛ بناءً على أن القرآن ناسخ لأحكام الشرائع قبله - لزم من هذا أن نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تثبت إلا بصحة القول بالنسخ؛ لأن نبوته صلى الله عليه وسلم ناسخة لأحكام النبوات قبله. فلو أثبتنا النسخ بالقرآن لزم من هذا الدور.
والجواب: هو أن إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على إثبات صحة النسخ؛ لأن نبوته صلى الله عليه وسلم ثابتة بالبراهين القاطعة وهي المعجزات التي جاء بها، فلزم من قطعية نبوته صلى الله عليه وسلم ثبوت النسخ. وواضح أن هذا الاستدلال إنما هو بالنسبة لليهود المنكرين لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فَيُلْزَمون بقطعية الأدلة على نبوته - على ثبوت النسخ.
انظر: نهاية الوصول 6/ 2248 - 2249، نفائس الأصول 6/ 2433.
(3)
لأن الآية تدل على النسخ من غير دور. وهذا الاستدلال إنما هو في حق المُسَلِّمين بأن هذا القرآن كلام الله تعالى.
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}
(1)
(2)
. وذَكَر القاضي في "مختصر
(1)
سورة الأنبياء: الآية 22.
(2)
فقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} هذا مُقَدَّم. {لَفَسَدَتَا} هذا تالي، ولا يلزم من صِدْق الملازمة وقوعُ الطرفين أو أَحَدُهما، فكذا قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} هذا مقدم. {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} هذا تالي، ولا يلزم من صدق الملازمة بين المقدم والتالي وقوعهما، أو وقوع أحدهما. انظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي ص 51 - 52. ونَصُّ كلام الإمام رحمه الله تعالى كما هو في التفسير الكبير 3/ 247: واعلم أَنَّا. . . في كتاب "المحصول" في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، والاستدلال به أيضًا ضعيف؛ لأن "ما" ههنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: مَنْ جاءك فأكرمه، لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن نعوِّل في الإثبات على قوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} ، وقوله:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، والله تعالى أعلم. اهـ. وانظر: نفائس الأصول 6/ 2432 - 2433، التحصيل 2/ 11، شرح الأصفهاني على المنهاج 1/ 466. لكن قال الإسنوي رحمه الله تعالى:"وقد يقال: سبب النزول يدل على الوقوع، فإن سببه على ما نقله الزمخشرى وغيره: أن الكفار طعنوا فقالوا: إن محمدًا يأمر بالشيء ثم ينهى عنه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية". نهاية السول 2/ 557. وانظر: الجامع لأحكام القرآن 2/ 61، على أن في الآية قرينة ظاهرة في الدلالة على أن النسخ من الممكنات الجائزات، لا المستحيلات الممتنعات، وهو قوله تعالى في آخر الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ ولذلك قال الشوكاني رحمه الله تعالى: "وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية". فتح القدير 1/ 127، بل الإمام رحمه الله تعالى يدل تفسيره لهذا المقطع على هذا المعنى حيث قال: "أما =
التقريب"
(1)
مع
(2)
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ}
(3)
(قوله تعالى)
(4)
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}
(5)
، وهذه الآية سالمةٌ عن النظر الذي ذكره الإمام؛ لأن "إذا" لا تدخل إلا على المتحقِّقِ وقوعُه. وذَكَر أيضًا قولَه تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}
(6)
، وقال:"لهم على هذه الآيات أسئلة وتمويهات يسهل مَدْركها"
(7)
.
قلت: ومن التمويهات في ذلك قولُ قائلهم: اليهود لا تعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فالاستدلال عليهم بذلك - استدلالٌ على الخصم بدليل لا يسلِّم مقدِّماته.
وهذا ساقط؛ فإن الخصم إنما لا يُعترض عليه بما لا يعتقده إذا كان ذا
(8)
شبهة فيه
(9)
، وأما ما ليس فيه شبهة لِمُشَكِّك
(10)
، بل هو ثابتٌ
= قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلَّف تحت مشيئته، وحُكْمه، وحِكْمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار". التفسير الكبير 3/ 252.
(1)
انظر: التلخيص 2/ 473.
(2)
سقطت من (غ).
(3)
سورة البقرة: الآية 106.
(4)
سقطت من (ص).
(5)
سورة النحل: الآية 101.
(6)
سورة النساء: الآية 160.
(7)
انظر: التلخيص 2/ 473.
(8)
سقطت من (ت).
(9)
سقطت من (ت).
(10)
في (ت)، و (غ):"بمشكك".
ثبوت المحسوسات - فلا
(1)
يُلتفت إلى عدم اعتقاده فيه.
والثالث: مما يدل على وقوع النسخ: أنه وَرَد في التوراة: أن آدم عليه السلام كان مأمورًا بتزويج بناته من بنيه
(2)
. وهو الآن محرم بالاتفاق، ولا نعني بالنسخ إلا ذلك.
فإن قلتَ: يجوز أن يكون هذا شَرْعٌ لبني آدم إلى غاية معلومة، وهي
(3)
ظهور شريعة أخرى، ومثل هذا لا يكون نسخًا.
قلتُ: أمْر آدم كان مطلقًا، وتقييده في عِلْم الله لا ينافي النسخ، فإنه تعالى إذا أمر بالفعل مطلقًا - فهو عالم بأنه سينسخه، والوقتِ الذي فيه بنسخه، فتقييده في عِلْم الله تعالى لا يُخْرجه عن حقيقة النسخ.
ولقائل أن يقول: تحريم ذلك في حقنا إنما يكون نسخًا أن لو ثبتت الإباحة قبل ذلك، وهي لم تثبت إلا في حق بنى آدم لصلبه، وثبوتها في حق أولئك لا يُوجب ثبوتَها في حقنا، وهي لم ترتفع في حق أولئك، فأين النسخ! .
قال: (قيل: الفعل الواحد لا يحسن ويقبح. قلنا: مبني على فاسد، ومع هذا فيحتمل أن يحسن لواحد أو في وقتٍ، ويقبح لآخر أو في آخر).
(1)
في (ص): "بل". وهو تحريف.
(2)
انظر: الإحكام 3/ 117، منتهى السول والأمل ص 156، المحصول 1/ ق 3/ 442، نهاية الوصول 6/ 2251.
(3)
في (غ): "وهو".