الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(الباب الثالث: في شرائطه
.
وفيه مسائل:
الأولى: أن يكون فيه قول كلِّ عالمي ذلك الفن
؛ فإنَّ قول غيرهم بلا دليلٍ فيكون
(1)
خطأ. فلو خالف واحد لم يكن سبيلَ الكل. وقال
(2)
الخياط وابن جرير وأبو بكر الرازيّ: المؤمنون يصدق على الأكثر. قلنا: مجازًا. قالوا: عليكم بالسواد الأعظم. قك: يوجب عدمَ الالتفات إلى مخالفة الثُّلُث
(3)
).
يُشترط في الإجماع في كل فنٍّ من الفنون أن يكون فيه قولُ كلِّ العارفين بذلك الفنِّ في ذلك العصر، فإنَّ قول غيرهم فيه يكون بلا دليلٍ؛ لجهلهم به، فيكون خطأ. فَيُشْترط في الإجماع على المسألة الفقهية قولُ جميع الفقهاء، والأصوليةِ قولُ الأصوليين، وهكذا
(4)
.
ولا عبرةَ بقول العوامِّ
(5)
وفاقًا ولا خلافًا عند الأكثرين
(6)
.
(1)
في (ت): "يكون".
(2)
في (ت): "قال".
(3)
في (ص): "الثلاث".
(4)
انظر: المحصول 2/ ق 1/ 281 - 282، البحر المحيط 6/ 415.
(5)
المراد بالعوام: مَنْ عدا المجتهدين من العلماء.
انظر: حاشية البناني على شرح المحلي للجمع 2/ 177، القواطع 3/ 238، بيان المختصر 1/ 547.
(6)
انظر: المحصول 2/ ق 1/ 279، نهاية الوصول 6/ 2648، الإحكام 1/ 226، اللمع =
وقال الأقَلُّون: يُعتبر قولهم؛ لأن قول الأمة إنما كان حجةً لعصمتها عن الخطأ، ولا يمتنع
(1)
أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية مِنَ الخاصة والعامة، وحينئذٍ لا يلزم مِنْ ثبوت العصمة للكل ثبوتُها للبعض الآخر
(2)
. وهذا ما اختاره الآمديّ
(3)
، وهو مشهورٌ عن القاضي (نقله الإمام وغيره
(4)
. وينبغي أن يُتمهل في هذه المسألة، فإنَّ الَّذي قاله القاضي)
(5)
في "مختصر التقريب" ما نَصُّه: "الاعتبار في الإجماع بعلماء الأمة، حتى لو خالف واحدٌ من العوام ما عليه العلماء لم يُكترث بخلافه، وهذا ثابت اتفاقًا وإطباقًا؛ إذ لو قلنا: إنَّ خلاف العوام يقدح في الإجماع، مع أنَّ قولهم ليس إلا عن جهلٍ - أفضى هذا إلى اعتبار خلاف مَنْ يُعلم أنه قال عن غير أصلٍ. على أنَّ الأمة أجمعت علماؤها وعوامُّها أن خلاف العوامِّ لا مُعْتَبر به، وقد مَرَّ على هذا الإجماع عُصُر، فثبت بما قلناه أن لا مُعتبر بخلاف العوام" انتهى
(6)
(7)
.
= ص 92، القواطع 3/ 238.
(1)
في (ت): "ولا يمنع".
(2)
سقطت من (ت).
(3)
وبعض المتكلمين. انظر: القواطع 3/ 239، اللمع ص 92، الإحكام 1/ 226.
(4)
انظر: المحصول 2/ ق 1/ 279، شرح التنقيح ص 341، إحكام الفصول ص 459، منتهى السول والأمل ص 55، بيان المختصر 1/ 546، البحر المحيط 6/ 411.
(5)
سقطت من (ت).
(6)
في (ص): "اهـ".
(7)
انظر: التلخيص 3/ 38 - 39.
فقد صَرَّح القاضي بقيام الإجماع على عدم الاعتبار بخلاف العوام. وقال في هذا الكتاب في الكلام على الخبر المرسَل: "لا عبرة بقول العوامِّ وفاقًا ولا خلافًا"
(1)
. انتهى.
فإنْ قلت: فما هذا الخلاف المَحْكِي في
(2)
أنَّ قول العوام هل يُعتبر في الإجماع؟
قلت: هو اختلاف في أنَّ المجتهدين إذا أجمعوا هل يصدق: أجمعت الأمة، ويُحكم بدخول العوام معهم تبعًا؟
وهو خلاف لفظي في الحقيقة، وليس خلافًا في أنَّ مخالفتهم تقدح في قيام الإجماع، وكلام القاضي في "مختصر التقريب" ناطقٌ بذلك، فإنه حكى هذا الخلاف بعد كلامه المتقدم فقال ما نصه: "فإنْ قال قائل: فإذا أجمع علماء الأمة على حكم من الأحكام فهل تُطْلِقون
(3)
القول بأن الأمة مُجْمِعَةٌ عليه؟
قلنا: من الأحكام ما يحصل فيه اتفاق الخاصِّ والعامّ، نحو وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم، وغيرها مِنْ أصول الشريعة، فما هذا سبيله فيطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه.
وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تَشُذُّ
(4)
عن العوام
(1)
انظر: التلخيص 2/ 427.
(2)
في (ص): "من".
(3)
في (ت)، و (ص):"يطلقون".
(4)
انظر: لسان العرب 3/ 494، مادة (شذذ).
- فقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فقال بعضهم: العوام يدخلون في حكم الإجماع، وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفصيل الأحكام - فقد عرفوا على الجملة أنَّ ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو حق مقطوع به، فهذا مساهمةٌ منهم في الإجماع وإن لم يعلموا مواقعه على التفصيل.
ومِنْ أصحابنا مَنْ زعم: أنهم لا يكونون مساهمين في الإجماع؛ فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها، فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يتحقق كونهم من أهل الإجماع.
واعلم أنَّ هذا اختلافٌ يَهُون أمرُه، ويؤول إلى عبارة محضة
(1)
، والجملة فيه: أنَّا إذا أدرجنا العوام في حكم الإجماع فيطلق القول بإجماع الأمة. وإن لم ندرجهم في حكم الإجماع، أو بَدَر من بعض طوائفِ العوامِّ خلافٌ - فلا يُطلق القولُ بإجماع الأمة؛ فإنَّ العوامَّ معظمُ الأمة وكثيرُها، بل إجماع
(2)
علماء الأمة
(3)
". انتهى كلام القاضي
(4)
.
وكلام الغزاليِّ في "المستصفى"
(5)
لا ينافيه، فلْيُتأمل ولْيُضْبط ذلك،
(1)
في (ص): "مخصوصة". وفي "التلخيص" 3/ 40: "محصنة". وكلاهما خطأ.
(2)
في (ص)، و (غ):"أجمع".
(3)
سقطت من (ت)، و (غ).
(4)
انظر: التلخيص 3/ 39 - 40.
(5)
انظر: المستصفى 1/ 181 - 182.
فهو مكانٌ حسنٌ، ولا ينبغي أن يُعتقد أنَّ مخالفة العوام تقدح، وموافقتهم تفتقر الحجةُ إليها، وكيف ذلك وهم يقولون لا عن دليل، فيكون قولهم خطأ، والخطأ لا يفتقر قيامُ الحجة إليه
(1)
.
وإنْ شَبَّب مُشَبِّب
(2)
بما سَلَف من أنَّ العصمة إنما تثبت لمجموع الأمة؟
قلنا: فماذا تقول في البُلْه والأطفال، أليس هم من الأمة! وهذا إلزامٌ لا محيص له عنه.
هذا في العوام، وقد قلنا: إن الخلاف فيهم لفظي. ويمكن أن يقال: ينبني عليه
(3)
إذا لم يكن في العصر إلا مجتهدٌ واحد، فإن قلنا: العوام داخلون تبعًا
(4)
فهم داخلون معه فيكون إجماعًا، وإلا فلا يكون قوله إجماعًا؛ لما قدمناه في أول كتاب الإجماع مِنْ أنَّ الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعدًا.
وأما الأصوليُّ الماهر المتصرِّف في الفقه:
(1)
انظر الزركشي رحمه الله البحر المحيط 6/ 413.
وانظر كلام الآمديّ رحمه الله في الإحكام (1/ 226)، وانظر: المعتمد 2/ 25 - 26، المستصفى 1/ 182، المحصول 2/ ق 1/ 280.
(2)
يعني: إن زيَّن مُزَيِّن. انظر: لسان العرب 1/ 482، مادة (شبب).
(3)
أي: على الخلاف اللفظي في هذه المسألة: هل نسميه إجماع الأمة، أو إجماع العلماء؟
(4)
أي: داخلون في الإجماع تبعًا لا استقلالًا، فاتفاق العلماء ينشأ عنه اتفاق العوام؛ لأنهم تَبَعٌ لهم.
فذهب القاضي إلى أنَّ خلافه معتبرٌ
(1)
. قال الإمام: "وهو الحق"
(2)
.
وذهب معظم الأصوليين إلى خلافه
(3)
؛ لأنه ليس من المفتين، ولو وقعت له واقعة للزمه أنَّ يستفتيَ المفتي فيها.
واحتج القاضي: بأنه مِنْ أهل التصرف في الشريعة، يُسْتضاء برأيه، ويُستهدَى بنصحه، ويحضر مجلس الاشتوار
(4)
، وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجهٍ من الرأي مُعْتبر، وإذا ظهر اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتباره في الوفاق
(5)
.
واستبعد إمام الحرمين مذهب القاضي وقال: "إذا أجمع المفتون وسكت المتصرِّفون - فيبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم، فإن الذين لا
(6)
يستقلون بأنفسهم في جواب مسألةٍ، ويتعيَّن عليهم تقليدُ غيرهم - مِنَ المُحَالِ وجوبُ مراجعتِهم. وإنْ فُرض أنهم أبدوا وجهًا في التصرف فإنْ كان سالمًا فهو محمولٌ على إرشادهم وتهديتهم إلى سواء السبيل، وإنْ أبدوا قولهم إبداء مَن يراغم الإجماع فالإنكار يشتد عليهم"،
(1)
انظر: التلخيص 3/ 41 - 42.
(2)
وتابعه شيعته، والطوفي من الحنابلة.
انظر: المحصول 2/ ق 1/ 282، الحاصل 2/ 724، التحصيل 2/ 82، نهاية الوصول 6/ 2652، مختصر الروضة ص 130.
(3)
انظر: البحر المحيط 6/ 416، شرح الكوكب 2/ 225 - 226.
(4)
في (ص): "الاشوار".
(5)
انظر: البرهان 1/ 685 - 686، التلخيص 3/ 41 - 42.
(6)
سقطت من (ت).
قال: "والقول المغني في ذلك أنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين، وليس بين من يقلَّد ومن يُقَلِّد مرتبةٌ ثالثة"، ثم قال: "والنظر السديد يتخطى كلامَ القاضي وعَصْرَه، ويترقى إلى العصر المتقدم ويُفْضي إلى مَدْرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف. والتحقيقُ - خَالفَ القاضي أَوْ وافق - أنَّ المجتهدين إذا أطبقوا لم يُعَدّ خلاف
(1)
المتصرِّفين مذهبًا مُحْتَفلًا به، فإنَّ المذهب لأهل الفتوى.
فإنْ شَبَّب بأنَّ المتصرِّف الذي ذكره منْ أهل الفتوى - فالقولُ فيه يُشْرح في كتاب الفتوى، والكلام الكافي في ذلك أنه إنْ كان مفتيًا اعتُبِر خلافه"
(2)
.
وأما المبتدع: (فإنْ كَفَّرناه)
(3)
ببدعته - فلا خلاف في أنه غير داخلٍ في الإجماع؛ لعدم دخوله في مسمى الأمة الشهود لهم بالعصمة، وإن لم يَعْلم هو كُفْرَ نفسِه
(4)
. وعلى هذا (فلو خالف)
(5)
في مسألة وبقي مُصِرًّا على المخالفة حتى تاب عن بدعته - فلا أثر لمخالفته؛ لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه، كما لو أسلم ثم خالف،
(1)
في (ت)، و (ص):"لخلاف".
(2)
انظر: البرهان 1/ 686 - 688.
(3)
في (ت): "فإنه إن كفَّرناه".
(4)
انظر: الإحكام 1/ 229، شرح التنقيح ص 335، المستصفى 1/ 183، أصول السرخسي 1/ 311، التلخيص 3/ 45، البرهان 1/ 689، البحر المحيط 6/ 418، شرح الكوكب 2/ 227.
(5)
في (ص)، و (غ):"فلو خالف هو".
إلا على رأي مَنْ يشترط في الإجماع انقراضَ المجمعين
(1)
.
وإن لم نكفره - فالمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه؛ لكونه من أهل الحل والعقد، ومن الداخلين في مفهوم لفظ "الأمة"
(2)
.
وقيل: ينعقد دونه
(3)
.
وقيل: لا ينعقد عليه بل على غيره، فيجوز له مخالفة إجماع مَنْ عداه، ولا يجوز ذلك لغيره
(4)
. وفيه نظر؛ فإنه إذا تعذَّر انعقاد الإجماع مِنْ وجهٍ
(1)
انظر: اللمع ص 92، شرح اللمع 2/ 724، المستصفى 1/ 184، البحر المحيط 6/ 421.
(2)
انظر البرهان 1/ 689 - 690. انظر: المستصفى 1/ 183، القواطع 3/ 248، المحصول 2/ ق 1/ 256، الحاصل 2/ 717، التحصيل 2/ 75، نهاية الوصول 6/ 2609، الإحكام 1/ 229، شرح التنقيح ص 335، بيان المختصر 1/ 549 - 550، اللمع ص 91، شرح اللمع 2/ 720، تشنيف المسامع 3/ 86، التمهيد 3/ 253. البحر المحيط 6/ 419.
(3)
وبه قال الجمهور. وقد أطلق أن هذا مذهب الحنفية ابن عبد الشكور والأنصاريّ رحمهما الله تعالى. انظر: فواتح الرحموت 1/ 218 - 219. لكن الكمال ابن الهمام رحمه الله ذكر بأن الحنفية لا يعتدون بخلاف المبتدع الداعية، ومفهومه أن غير الداعية معتد بخلافه إلا في بدعته فلا يعتد بخلافه فيها، كما قال ابن أمير بادشاه في شرحه لكلام الكمال. ثم نقل ابن أمير بادشاه عن أبي بكر الرازي والسمرقندي الحنفيَّيْن أن الصواب عدم الاعتداد بخلاف المبتدع مطلقًا، وهو الذي اختاره الكمال ابن الهمام رحمه الله. انظر: تيسير التحرير 3/ 239، فواتح الرحموت 1/ 219، البحر المحيط 6/ 419، شرح الكوكب 2/ 227، أصول السرخسي 1/ 311، كشف الأسرار 3/ 238.
(4)
انظر: الإحكام 1/ 229، نهاية الوصول 6/ 2611، بيان المختصر 1/ 549.
- لم ينعقد من وجه، وسيأتي - إن شاء الله - كلامُ إمام الحرمين فيه.
وأما الفسقة مِنْ أهل القبلة البالغون في العلم مبلغ المجتهدين: فذهب معظم الأصوليين - كما ذكر إمام الحرمين - إلى أنه لا يُعتبر وِفاقهم ولا خِلافهم
(1)
. والمختار خلاف ذلك؛ لأنَّ المعصية لا تزيل اسم الإيمان، فيكون قولُ مَنْ عداهم قولَ بعض المؤمنين لا كُلِّهم، فلا يكون حجة
(2)
. وهذا ما مال إليه إمام الحرمين فقال: "الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلِّد غيرَه، بل يلزمه
(3)
أن يتبع في وقائعه ما يؤدي إليه اجتهاده، وليس له أن يُقَلِّد غيرَه، فكيف ينعقد الإجماعُ عليه في حقِّه، واجتهادُه مخالفٌ
(4)
اجتهادَ مَنْ سواه! "، قال: "وإذا بَعُد انعقادُ الإجماع مِنْ وجهٍ لم ينعقد مِنْ وجه"، قال: "فإن قيل: هو عالمٌ في حقِّ نفسه باجتهاده، مُصَدَّق
(5)
عليه بينه وبين ربه، وهو مكَذَّب
(6)
في حق غيره، فلا يمتنع لانقسامِ أمره على هذا الوجه
(1)
انظر: البرهان 1/ 688، القواطع 3/ 245، البحر المحيط 6/ 422، تيسير التحرير 3/ 238، شرح الكوكب 2/ 228، المسودة ص 331.
(2)
وبه قال الشيرازي، والإسفراييني، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، والإمام وشيعته، وأبو الخطاب من الحنابلة. انظر: اللمع ص 91، شرح اللمع 2/ 720، المسودة ص 331، المستصفى 1/ 183، الإحكام 1/ 229، بيان المختصر 1/ 550، العضد على ابن الحاجب 2/ 33 - 34، المحصول 2/ ق 1/ 257، الحاصل 2/ 718، التحصيل 2/ 75، نهاية الوصول 6/ 2610، التمهيد 3/ 252، مختصر الروضة ص 130.
(3)
في (ص): "يلزم".
(4)
في (ص): "يخالف".
(5)
في (ص): "فَيُصَدَّق". والمثبت موافق لما في "البرهان".
(6)
في (ت)، و (ص):"يُكَذَّب". والمثبت موافق لما في "البرهان".
أنْ يَنْقسم حكمُ الإجماع.
قلنا: هذا محال؛ فإن الفاسقَ غيرُ مقطوعٍ بصدقه ولا كذبه، فهو كالعالم في غيبته
(1)
، فإن تاب فهو كما لو آب
(2)
الغائب
(3)
"
(4)
.
واعلم أنَّ الأولين اختلفوا في تعليل عدمِ اعتبارِ قول الفاسق على وجهين:
أحدهما: وعليه يقوم هذا السؤال، أنَّ إخباره عن نفسه لا يُوثق به لفسقه، فربما أخبر بالوِفاق وهو مُخالِفٌ، أو بالخِلاف وهو موافِقٌ، فلما تعذَّر الوصول إلى معرفة قوله - سقط أثره. وشَبَّه بعضُ المتأخرين ذلك بسقوط أثر قول الخَضِر عليه السلام على القول بأنه حيٌّ؛ لتعذر الوصول إليه
(5)
.
والثاني: أنَّ العدالة ركنٌ في الاجتهاد كالعلم
(6)
، فإذا فاتت العدالة
(1)
أي: العالم الغائب عن الواقعة التي تكلم فيها المجتهدون.
(2)
في (ص): "أتى". واعتباري هذه الكلمة خطأ من جهة التبديل، فإن الموجود في (ت)، و (غ)، و"البرهان" هو ما أثبته، وغالب الظن أنَّ ناسخ (ص) أو مَنْ نقل عنه تصرف مِنْ عنده، وإلا فالكلمة من جهة المعنى صحيحة، لكنها تنافي أسلوب إمام الحرمين المعروف بالرصانة والمتانة.
(3)
في (ت): "العالم". وهو خطأ. والمعنى: أن الإجماع لا ينعقد حتى يتوب العالم الفاسق فنجزم حينذاك برأيه، فإنْ وافقهم انعقد، وإلا فلا.
(4)
انظر: البرهان 1/ 688 - 689، مع تصرف من الشارح رحمه الله.
(5)
انظر الفتح 6/ 434 - 436، وانظر: المقاصد الحسنة ص 21، كشف الخفاء ومزيل الإلباس 491، تنزيه الشريعة المرفوعة 1/ 233 - 237.
(6)
سقطت من (ت).
فاتت أهلية الاجتهاد
(1)
.
وهذا فيه نظرٌ؛ إذْ أهلية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام، وتصحيح المقاييس، وترتيب المقدِّمات، إلى غير ذلك - مما لا تعلق لها بالديانة أصلًا.
فإنْ قلتَ: فهذا يَرِد عليكم في الكافر؛ فإنه قد يجري على علوم الشرع والاجتهاد، و
(2)
لا تعلق له بالديانة.
قلتُ: الكافر لا يَرِد؛ فإنَّ الحجة في إجماع المسلمين، والفاسق منهم دون الكافر.
ويتفرع على هذين التعليلين: أنَّ الفاسق إذا أداه اجتهادُه في مسألة إلى حكمٍ هل يأخذُ بقوله مَنْ عَلِم صدقَه في فتواه بقرائن
(3)
؟
وإذا ثبت اشتراطُ قولِ جميع المجتهدين في الاجماع قال صاحب الكتاب: فلو خالف واحدٌ لم يكن قولُ غيرِه إجماعًا؛ لأن قوله: {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يتناول الكلَّ، وليسوا دون الواحدِ كلَّ المؤمنين. هذا مذهب الجمهور
(4)
.
(1)
انظر الوجهين في البحر 6/ 423.
(2)
سقطت الواو من (ص)، و (غ).
(3)
انظر: الإحكام 1/ 229.
(4)
انظر: الإحكام 1/ 235، نهاية الوصول 6/ 2614، البحر المحيط 6/ 430، التمهيد لأبي الخطاب 3/ 260، شرح الكوكب 2/ 229، مختصر الروضة ص 131، شرح التنقيح ص 336، إحكام الفصول ص 461، تيسير التحرير 3/ 237، كشف =
وقال الإمام الجليل محمد بن جرير
(1)
، وأبو الحسين بن أبي عمرو الخياط المعتزليّ
(2)
، وأبو بكر الرازيّ
(3)
، وكذا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه
(4)
: ينعقد إجماعُ الأكثر مع مخالفة الأقل. كذا أَطْلق النقلَ عنهم الآمديّ
(5)
، وهو قضية إيراد المصنف، وخَصَّص الإمام النقلَ عنهم بالواحد والاثنين
(6)
.
= الأسرار 3/ 245.
(1)
هو شيخ المفسرين محمد بن جَرِير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر الطبريّ، من أهل آمُل طَبَرِسْتان. الإمام العَلَم المجتهد، عالم العصر. ولد سنة 224 هـ. قال الذهبي رحمه الله:"وطلب العلم بعد الأربعين ومئتين، وأكثر التّرحال، ولقي نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدَّهر علمًا وذكاءً، وكثرةَ تصانيف، قَلَّ أن تَرَى العيونُ مِثْله". من مصنفاته: "التفسير" لم يصنِّف مثله، "تهذيب الآثار" لم يتمه، قال عنه الخطيب: لم أَرَ سواه في معناه، "تاريخ الأمم والملوك"، وغيرها. توفي سنة 310 هـ. انظر: تاريخ بغداد 2/ 162، سير 14/ 267.
(2)
وابن الأخشاد من أصحاب الجبائيّ، وابن حمدان من الحنابلة، وابن خويز مِنْداد من المالكية، رحمهم الله جميعًا. انظر: البحر المحيط 6/ 431، شرح الكوكب 2/ 230، الإحكام 1/ 235، المعتمد 2/ 29، المحصول 2/ ق 1/ 257، إحكام الفصول ص 461.
(3)
مذهب أبي بكر الرازي كمذهب أبي عبد الله الجرجاني، الذي سيذكره الشارح رحمه الله. انظر: تيسير التحرير 3/ 236 - 237.
(4)
أصح الروايتين عن أحمد رضي الله عنه مثل الجمهور.
انظر: المسودة ص 329، العدة 4/ 1117، شرح الكوكب 2/ 229، شرح مختصر الروضة ص 131، المدخل إلى مذهب أحمد ص 130.
(5)
انظر: الإحكام 1/ 235.
(6)
وكذا أبو الحسين البصري، وإمام الحرمين، وأبو الخطاب الكلوذاني، =
قال الآمديّ: "وذهب قومٌ إلى أنَّ عدد الأقل إنْ بلغ عدد التواتر لم يُعتد بالإجماع دونه، وإلا اعتد به"
(1)
.
قلت: وهذا ما ذكره
(2)
القاضي في "مختصر التقريب" أنه الذي يصح عن ابن جرير
(3)
.
وقال أبو عبد الله الجرجانيّ
(4)
: إنْ سَوَّغتِ الجماعةُ الاجتهادَ في مذهب المخالِف كان خلافُه معتدًا به، وإلا فلا
(5)
.
ومنهم مَنْ قال: اتباع الأكثر أولى، ويجوز خلافه
(6)
. وهو مذهبٌ لا تحرير فيه؛ لأنا نسلِّم أنه إذا تعادل الرأيان، وكان القائلون بأحدهما أكثر - رُجِّح جانب الكثرة، وإنما الكلام في التحتم.
= وابن السمعاني. انظر: المحمول 2/ ق 1/ 257، المعتمد 2/ 29، البرهان 1/ 721، التمهيد 3/ 260 - 261، القواطع 3/ 296 - 297.
(1)
انظر: الإحكام 1/ 235.
(2)
في (ص): "ما ذكر".
(3)
انظر: التلخيص 3/ 61.
(4)
لعله: أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر اليَزْديُّ الجرجاني. الشيخ الثقة العالم، مسند أصبهان. ولد بجرجان سنة 319 هـ، ومات سنة 408 هـ. انظر: سير 17/ 286، شذرات 3/ 187.
(5)
وهو مذهب أبي بكر الرازيّ، كما سبق الإشارة إليه، ومذهب السرخسيّ، رحمهما الله تعالى. انظر: كشف الأسرار 3/ 245، أصول السرخسي 1/ 316، تيسير التحرير 3/ 236. ومثال ما سَوَّغت به الجماعة المخالِف مخالفة ابن عباس رضي الله عنهما في العَوْل، ومثال ما لم تسوِّغْه مخالفتُه في ربا الفضل، فقد كان يقول بجوازه. انظر: المحلي على الجمع 2/ 178.
(6)
انظر: الإحكام 1/ 235.
ومنهم مَنْ قال: هو حجة وليس بإجماع. ورجَّحه ابن الحاجب، فإنه قال: "لو ندر
(1)
المخالِف مع كثرة المجمِعين - لم يكن إجماعًا قطعًا"، قال: "والظاهر أنه حجة؛ لبُعد أن يكون الراجح مُتَمَسَّك المخالِف"
(2)
.
قال صفي الدين الهندي: "والظاهر أنَّ مَنْ قال إنه إجماع فإنما يجعله إجماعًا ظنيًا لا قطعيًا، وبه يُشْعر إيراد بعضهم"
(3)
.
لنا: أنَّ الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة إلا أبو بكر رضي الله عنه، ولم يقل أحدٌ إنَّ خلافَه غيرُ معتدٍّ به، بل رجعوا إليه حين المناظرة.
واحتج ابن جرير ورفقتُه بوجهين ذكرهما في الكتاب:
أحدهما: أنَّ لفظي "المؤمنين" و"الأُمة" يصدق على الأكثر، كما يقال على البقرة: إنها سوداء، وإن كان فيها شعرات بيض، وللزنجي: إنه أسود، مع بياض حَدَقته وأسنانه.
والجواب: أنَّ صِدْق إطلاق ألفاظ العموم على الأكثر إنما هو على سبيل المجاز، وليس حقيقة؛ لأنه يجوز أن يقال لمن عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة، ويصح استثناؤه منهم. وهذا واضح.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم"
(4)
أمر باتباع
(1)
في (ص): "نذر".
(2)
انظر: بيان المختصر 1/ 554، العضد على ابن الحاجب 2/ 34.
(3)
انظر: نهاية الوصول 6/ 2616.
(4)
أخرجه ابن ماجه في السنن 2/ 1303، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، رقم 3950. وفي سند الحديث أبو خلف الأعمى وهو حازم بن عطاء، وهو =
السواد الأعظم، وهم الأكثر، فيكون قولهم حجة.
والجواب: أنَّ السواد الأعظم هم
(1)
كلُّ الأمة؛ لأنَّ مَنْ عدا الكل فالكل أعظم منه، ولو لم يقصد هذا بل ما صدق أنه أعظم مِنْ غيره - لدخل تحته النصفُ الزائد بفردٍ واحدٍ على (النصفِ)
(2)
الآخر
(3)
. وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب: "مخالفة الثُّلُث" وهو بضم الثاء واللام، أي: حَمْله على ما صَدَق عليه أنه أعظم يُوجِبُ عدمَ الالتفاتِ إلى ثُلُث الأمة إذا خالفوا الثلثين. وقد قرره الجاربرديُّ
(4)
والإسفرايينيُّ على أنَّ الثاء مفتوحةٌ، وأنَّ المراد "الثلاث" اسمُ العددِ الخاصّ، وأنَّ ابن جرير ورفقتَه يسلِّمون أنَّ مخالفة الثلاثة قادحة، وهذا ماشٍ على ما اقتضاه إيراد الإمام كما سبق، وما ذكرناه من التقرير أحسن وأسلم
(5)
.
واعلم أنَّ السواد الأعظم وقع مفسَّرًا في الحديث على خلاف ما استدل به الخصم فروى ابن ماجه من حديث مُعَان
(6)
بن
= ضعيف. انظر: الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج ص 184.
(1)
في (ص): "يعم".
(2)
في (ت)، و (غ):"واحد على النصف". وهذه الزيادة خطأ.
(3)
انظر: المحصول 2/ ق 1/ 261.
(4)
انظر: السراج الوهاج 2/ 834.
(5)
وهو الذي ذكره الجزريّ، والأصفهانيّ، وذكر الإسنويُّ التقريرين من غير ترجيح.
انظر: معراج المنهاج 2/ 107، شرح الأصفهاني 2/ 624، نهاية السول 3/ 307.
(6)
في (ص): "معاذ". وهو خطأ.