الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ ليْلَةً، وَفِي رِوَايةٍ: يَوْمًا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ:"فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1927)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف ليلًا، و (1937)، باب: من لم ير عليه صومًا إذا اعتكف، و (1938)، باب: إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، و (2975)، كتاب: الخمس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، و (4065)، كتاب: المغازي، باب: قول اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أعْجَبَتْكُمْ} [التوبة: 25]، و (6319)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر أو حلف ألَّا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم، ومسلم (1656/ 27 - 28)، كتاب: الأيمان، باب: نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم، وأبو داود (3325)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام، والترمذي (1539)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في وفاء النذر، وابن ماجه (2129)، كتاب: الكفارات، باب: الوفاء بالنذر.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 424)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 644)، و"شرح مسلم" للنووي (1/ 124)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 927)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 274)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 146)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 440)، و"سبل السلام" =
وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ: "يَوْمًا"، وَلا "لَيْلَةً".
(عن) أميرِ المؤمنين أبي حفصٍ (عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسول اللَّه!) وكان سؤاله رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم بالجِعْرَانة لما رجعوا من حنين -أي: ومن محاصرة الطائف- (إني كنت نذرتُ في الجاهلية أن أعتكفَ ليلةً) في المسجد الحرام؛ أي: حول الكعبة.
ولم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر رضي الله عنه جدار، بل الدورُ حول البيت، وبينها أبوابٌ لدخول الناس، فوسَّعه رضي الله عنه بدورٍ اشتراها، وذلك سنة خمس عشرة من الهجرة، ومن أبى البيع، هدم داره، وترك ثمنَها لأربابها في خزانة الكعبة، واتخذها للمسجد جدارًا قصيرًا دونَ القامة، ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه (1)، منهم سيدُنا عثمانُ بن عفان رضي الله عنه، فعلَ كعمرَ في سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة، ثم وسَّعَ عبدُ اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما من جانبه الشرقي واليماني.
ثم وسَّعَ المنصورُ ثاني خلفاء بني العباس من جهة الشمالي والغربي، وكان ما زاده مثل ما كان من قبل.
وابتدأ في العمل في المحرم سنة سبع وثلاثين ومئة، وفرغ في ذي الحجة سنة أربعين ومئة.
ثم إن الخليفة المهديَّ -وهو أبو عبد اللَّه محمدُ بنُ أبي جعفرٍ المنصورِ العباسيِّ- حجَّ في سنة ستين ومئة، وجرد الكعبة، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أعلاها إلى أسفلها، ووسّعَ المسجدَ من جانبه اليماني والغربي،
= للصنعاني (4/ 115)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 359).
(1)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 441).
حتى صار ما هو عليه اليوم، خلا الزيادتين؛ فإنهما أُحدثا بعده، وكانت الكعبة في جانب المسجد، ولم تكن متوسطة، فهدم حيطان المسجد، واشترى الدور والمنازل، وأحضر المهندسين، وصَيَّرَ الكعبةَ في الوسط، وكانت توسعتُه الأولى في أول سنة إحدى وستين، والثانية في سنة سبع وستين ومئة، وهي السنة التي عمر فيها مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد من الملوك في عِمارة المسجد الحرام مثلُ ما للمهدي.
وأما عبدُ الملك بنُ مروانَ، فإنما رفعَ جدرانه، وسَقَفَه بالسَّاج، وعمره ابنُه الوليد، وسقَفَهُ بالساج المزخرَف، وجعل من داخله الرخامَ.
وزيد فيه بعد المهدي زيادة دار الندوة بالباب الشامي، والزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم بالجانب الغربي.
وكان إنشاء زيادة دار الندوة في زمن المعتضد العباسي، وابتدأ الكتابة إليه في سنة إحدى وثمانين ومئتين.
وكان عملُ الزيادة التي بباب إبراهيم في سنة ست وسبعين وثلاث مئة، كما ذكر ذلك أهلُ التاريخ، ومن اعتنى بأمور مكة ومسجدها الشريف، واللَّه الموفق (1).
(وفي رواية): أن عمر رضي الله عنه قال: كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن أعتكفَ (يومًا) بدلَ ليلةً (في المسجد الحرام) المكي -زاده اللَّه تشريفًا وتعظيمًا-.
(قال) صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (فَأَوْفِ بنذرِكَ) الذي نذرتَهُ، ولو كان نذرُك له من مدة الجاهلية.
(1) انظر: "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" لأبي الطيب الفاسي (1/ 359) وما بعدها.
واستدل بقوله: أن أعتكف ليلةً على عدم اعتبار الصوم في الاعتكافِ؛ لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان الصوم شرطًا، لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به، نعم، عند "مسلم": يومًا، بدل: ليلة؛ كما ذكره الحافظ.
وجمع ابن حبان (1) وغيرُه بين الروايتين: بأنه نذرَ اعتكافَ يومٍ وليلةٍ، فمن أطلق ليلة، أراد: بيومها، ومن أطلق يومًا، أراد: بليلته (2).
قال الحافظ المصنف -طيب اللَّه روحه-: (ولم يذكر بعضُ الرواة) لهذا الحديث (يومًا ولا ليلة)، بل قال نافع عن عمر رضي الله عنهما: إن عمر رضي الله عنه نذرَ في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام.
قال عبيد أحدُ رواة هذا الحديث، وهو شيخ البخاري، أو القائلُ البخاري نفسُه: أُراه -بضم الهمزة-؛ أي: أظنه ليلة (3).
زاد البخاري في رواية: فاعتكف ليلة (4).
قال في "الفروع": ويصحُّ -يعني: الاعتكاف- بغير صوم، هذا المذهب؛ وفاقًا للشافعي.
واستدل بحديث قصة عمر هذه، وبحديث ابن عباس:"ليسَ على المعتكِفِ صيامٌ إلا أن يجعلَهُ على نفِسه" رواه الدارقطني، وقال: رفعه أبو بكر السوسي، وغيرهُ لا يرفعه (5).
(1) انظر: "صحيح ابن حبان"(10/ 226).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 441).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1938).
(4)
تقدم تخريجه برقم (1937) عنده.
(5)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 199)، والحاكم في "المستدرك"(1603)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 318)، وقد رجح وقفه.
قال صاحب "المحرر": هو ثقة، فُيقبل رفعُه وزيادته، ولأنه لا دليلَ على اعتبار الصوم في الاعتكاف.
وأما حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "اعتكفْ وصُمْ"، فتفرد به عبدُ اللَّه بن بديل، وله مناكير، ورواه أبو داود، وضغَفه، وضعَّفَ هذه الزيادة أبو بكر النيسابوري، والدارقطني، وغيرُه (1).
ثم على فرض ثبوت ذلك، فالأمر به استحبابًا، أو يكون عمر رضي الله عنه نذر الصومَ مع الاعتكاف؛ بدليل قوله: إنه نذر أن يعتكف في الشرك ويصومَ. قال الدارقطني: إسنادهُ حسن، تفرد به سعيدُ بن بشير (2).
وأقوال الصحابة مختلفة.
وعن الإمام أحمد: أنه لا يصح الاعتكاف بغير صوم؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، فعلى هذا: لا يصح ليلة مفردة (3).
ولا يخفى أن صنيع الحافظ عدمُ اشتراط الصوم، وهو المذهب المعتمد.
وفي الحديث: دليلٌ على صحة النذر من الكافر، وجزم به علماؤنا.
(1) رواه أبو داود (2474)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يعود المريض، والدارقطني في "سننه"(2/ 200)، والحاكم في "المستدرك"(1604)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 201)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 317).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 117 - 118).
قال في "الفروع" في النذر: ولا يصح إلا من مكلَّف -ولو كافرًا- بعبادة، نص عليه -يعني: الإمام أحمد- (1).
قال ابن دقيق العيد: يَستدل به من يرى صحةَ النذر من الكافر، قال: وهو قولٌ، أو وجهٌ في مذهب الشافعي.
والأشهر -يعني: عند الشافعية-: أنه لا يصح؛ لأن النذر قُربة، والكافر ليس من أهل القُرَب.
ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث: بأنه أمر بأن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر؛ لئلا يخل بعبادةٍ نوى فعلَها، فأطلق عليه أنه منذور؛ لشبهه بالمنذور، وقيامِه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة.
وعليه: إما أن يكون قوله: "أوف بنذرك" من مجاز الحذف، أو مجاز التشبيه، وظاهر الحديث خلافُه؛ لعدم الملجئ إلى مثل هذا التأويل (2).
وأجاب بعض من لا يرى انعقادَ النذر من الكافر: بأن المرادَ: أنه نذرَ بعدَ إسلامه في زمن لا يقدر أن يفي بنذره فيه؛ لمنع الجاهلية للمسلمين من دخول مكة، ومن الوصول إلى الحرم.
وهذا مردود بما أخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن بشير، عن عبيد اللَّه، بلفظ: نذر عمرُ أن يعتكفَ في الشركِ (3)، فهو صريح في أن نذره كان قبلَ إسلامه في الجاهلية، كما في القسطلاني (4).
(1) المرجع السابق، (6/ 353).
(2)
أنظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258).
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 441).
تنبيه:
الذي جزم علماؤنا في باب الاعتكاف إلى اعتبار كونه مسلمًا عاقلًا مميِّزًا طاهرًا مما يوجب غُسلًا.
قال في "الفروع": ولا يصحُّ من كافر، ومجنون، وطفل؛ كصلاة وصوم.
قال صاحب "المحرر": لا أعلم فيه خلافًا، وكذا ذكر غيرُه، لخروجه بالجنون عن كونه من أهل المسجد، ثم قال: ويأتي في النذر نذرُ الكافر، انتهى (1).
وحاصل المذهب: انعقاد نذر الاعتكاف من الكافر، إلا أنه لا يتأتَّى صحته منه إلا بعد إسلامه، واللَّه أعلم.
وفي الحديث: دليلٌ على لزوم نذرِ القُربة.
وربما استَدل بعمومه: مَنْ يرى وجوبَ الوفاء بكلِّ منذور (2)، ويأتي الكلام عليه في بابه -إن شاء اللَّه تعالى-.
* * *
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 110).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258).