الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
وَعَنْهُ، قَالَ: جَاءَ بلالٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَيْنَ هذَا؟ "، قَالَ بلَالٌ: كانَ عِنْدَنَا تَمرٌ رَدِيءٌ، فَبِغتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بصَاعٍ لِيَطْعَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عنْدَ ذَلِكَ:"أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبا! لا تَفْعَل، وَلكن إِذَا أَرَدتَ أَنْ تَشْتَرِيَ، فَبع التمرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ"(1).
* * *
(وعنه)، أَي: عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه (قال: جاء بلالُ) بنُ رباحٍ الحبشيُّ المؤذنُ، القرشيُّ بالولاء، ابنُ حَمامةَ: -بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الميم-، وتقدمت ترجمتُه (إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتمر بَرنيٍّ)،
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2188)، كتاب: الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا، فبيعه مردود، ومسلم (96/ 1594 - 97)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل، والنسائي (4557)، كتاب: البيوع، باب: بيع التمر بالتمر متفاضلًا.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 279)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 481)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 22)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 184)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1170)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 247)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 490)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 148)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 166).
وهو تمر معروف معرَّبٌ، أصله: برنيك؛ أي: الحمل الجيد، كما في "القاموس"(1)، (فقال له)؛ أي: لبلال رضي الله عنه (النبيُّ) بالرفع فاعل؛ أي: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبلال: (من أين هذا؟)؛ أي: من أين لك هذا التمر الجيد؟ فـ (قال) له (بلالٌ: كان عندنا تمرٌ رديءٌ) غيرُ جيد (فبعتُ منه)؛ أي: من الرديء (صاعين بصاع) من الجيد (لـ) أجل أن (يطعم)؛ أي: يأكلَ منه (النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك)؛ أي: قوله له ما قال من ابتياعه صاعًا بصاعين، (أَوَّهْ) -بالقصر، وشدِّ الواو، وسكون الهاء-، وقيل: بمدُّ الهمزة، قالوا: ولا معنى لمدِّها؛ إلا لبعد الصوت، وقيل: -بسكون الواو وكسر الهاء-، ومن العرب من يمدُّ الهمزة، ويجعل بعدها واوين، فيقول: أووه، وكله بمعنى التحزُّن.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75] في قول أكثرهم؛ أي: كثير التأوه، وهو الحزن شفقًا وحزنًا، وقيل: أَوَّاه: دَعَّاء، وهو يرجع إلى قريب منه، وأنشد البخاري:[من الوافر]
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحلُهَا بِلَيْلٍ
…
تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ (2)
-بالمد-، وكلاهما صواب؛ أَي: تَوَجَّعُ [تَوَجُّعَ،] الرجل الحزين (3)، (عين الربا)؛ أي: ما صنعَتُه فهو حقيقة الربا الذي لا شك فيه، (لا تفعل)
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1522)، (مادة: برن).
قلت: والبَرْنِيُّ -بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر النون وتشديد التحتية-، كما ضبطه القسطلاني في "إرشاد الساري"(4/ 166).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1707).
(3)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 52)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 82).
ذلك، فإنه محرم، ثم أَرشده صلى الله عليه وسلم إلى فعل ما يحل، ولا محظور فيه، فقال:(ولكن إذا أردتَ أن تشتريَ) تمرًا جيدًا، (فبعِ التمرَ) الرديء (بِبَيْعٍ آخرَ)؛ أي: بثمن معلوم، (ثم اشترِ به)؛ أي: بالثمن الذي بعتَه تمرًا جيدًا، وقد حصل المقصود، وخلصت من إثم الربا.
وفي لفظ آخر عندهما من حديثٌ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتمر، فقال:"ما هذا التمر من تمرنا"، فقال الرجل: يارسول الله! بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا الربا، فردوه، ثم بيعوا تمرنا، فاشتروا لنا من هذا"(1).
وعنه: قال: كنا نُرزق تمرَ الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخلطُ من التمر، فكنّا نبيع صاعين بصاع، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا"(2)، وفي لفظ:"بع الجمعَ بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيبًا"(3)، والجنيبُ: تمر جيد.
وفي "المطالع": التمر الجنيب: قال مالك: الكَيِّسُ، وقال غيره: هو كلُّ تمر ليس بمختلط، خلاف الجَمْع، وقال الطحاوي، وابن السكن: هو الطيب (4).
(1) قلت: هو لفظ مسلم فقط، وقد تقدم تخريجه عنده برقم (1594/ 97).
(2)
رواه البخاري (1974)، كتاب: البيوع، باب: بيع الخلط من التمر.
(3)
رواه البخاري (2089)، كتاب: البيوع، باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، ومسلم (1593)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(4)
وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 155).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إبطال التحليل": إذا كان مقصود الرجل نفس الملك المباح بالبيع، وما هو من توابعه، وحصَّله بالبيع، فقد قصد بالسبب ما شرعه الله سبحانه له، وأتى بالسبب حقيقة، وسواء كان مقصوده يحصل بعقد، أو عقود، مثل: أن يكون بيده سلعة، وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع بسلعته لمانع شرعي أو عرفي أو غير ذلك، فيبيع بسلعته ما ليملك ثمنها، والبيع لملك الثمن مقصود مشروع، ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى، وابتياعُ السلع بالأثمان مقصود مشروع.
قال: وهذه قصة بلال رضي الله عنه بخيبر سواء، فإنه إذا باع الجمع بالدراهم، فقد أراد بالبيع ملك الثمن، وهذا مشروع مقصود، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبًا، فقد أراد بالابتياع ملكَ سلعة، وهذا مقصود مشروع، فلما كان بائعًا، قصد ملك الثمن حقيقةً، ولما كان مبتاعًا، قصد ملك السلعة حقيقةً، فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه، فهنا لا محذور فيه، إذ كل واحد من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك، وأما إذا ابتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه، فيخاف ألَّا يكون العقد الأول مقصودًا منهما، بل قصدُهما بيعُ السلعة الأولى بالثانية، فيكون رِبًا، ويظهر هذا القصد بأن يكون إذا باعه التمر مثلًا بدراهم لم يحرر وزنها ولا نقدها ولا قبضها، فيعلم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك الثمن بذلك التمر، ولا قصدَ المشتري ملكَ التمر بتلك الدراهم التي هي الثمن، بل قصد العقد الأول على أن يعيد إليه الثمن، ويأخذ التمر الآخر، وهذا تواطؤ منهما حين عقده على فسخه، والعقدُ إذا قُصد به فسخه، لم يكن مقصودًا، وإذا لم يكن الأول مقصودًا، كان وجوده كعدمه، فيكونان قد اتفقا على أن يباع بالتمر تمر، ويحقق أن هذا العقد
المقصود أنه إذا جاء بدراهم أو دنانير، أو حنطة أو تمر أو زبيب، ليبتاع به من جنسه أكثرَ منه أو أقل، فإنهما غالبًا يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر، ثم يقول بعد ذلك: بعتك هذه الدراهم بكذا وكذا دينارًا، ثم يقول: اصْرف لي بها كذا وكذا درهمًا كما اتفقا عليه أولًا، ويقول: بعتك هذا التمر بكذا وكذا درهمًا، ثم يقول: بعني به كذا وكذا تمرًا، فيكونان قد اتفقا على الثمن المذكور صورةً لا حقيقةً، ليس للبائع غرض في أن يُمَلِّكه، ولا للمشتري غرض في أن يَمْلِكه، وقد تعاقدا على أن يملكه البائع، ثم يعيده للمشتري، والعقد لا يعقد، لفسخ من غير غرض يتعلق بنفس وجوده، فإن هذا باطل.
والحاصل: أن المقاصد في العقود معتبرة، والأعمال بالنيات، فلا اعتبار بمن أخذ من هذا الحديث تجويزَ الحيل، وفتحَ باب الذرائع، وذلك أن كلام الشارع إنما يُحمل على البيع الحقيقي، لا على صورة بيع لا حقيقة لها في نفس الأمر، كما أشار إليها شيخ الإسلام -قدس الله روحه-، فإن هذا لو كان مشروعًا، لم يكن في تحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان، وإتعاب النفوس بلا فائدة، فإنه لايشاءُ شاءٍ أن يبتاع ربويًا بأكثر منه من جنسه إلا قال: بعتُك هذا بكذا، وابتعت منك هذا بهذا التمر، فلا يعجز أحدٌ عن استحلال ربًا حرَّمه الله سبحانه قط، فإن الربا في البيع نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة.
فأمَّا ربا الفضل: فيمكنه في كل ميكل ربوي أن يقول: بعتك هذا المال بكذا، ويسمي ما شاء، ثم يقول: ابتعت هذا المال الذي هو من جنسه.
وأمَّا ربا النسيئة: فيمكنه أن يقول: بعتك هذه الحريرة بألف درهم، أَو عشرين صاعًا إلى سنة، فابتعتها منك بسبع مئة حالَّة، أو خمسة عشر صاعًا،
أو نحو ذلك، كما أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، ولا يخفى على ذي فطنة فساد ذلك، فيا سبحان الله! أَيعود الربا الذي قد عظَّمَ الله شأنه في القرآن، وأوجبَ محاربةَ مستَحِلِّهِ، ولعنَ أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجىء في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلًا، إِلا بصورة عقد هي عبث ولعب يُضحك منها ويُستهزأ بها؟!
وكيف يستحسن مؤمن أن ينسب نبيًا من الأنبياء -فضلًا عن سيد المرسلين-، بل أن ينسب ربَّ العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم العظيمة، ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد، ولم يكن له حقيقة، وليس فيه مقصود لمتعاقدين قط (1)؟!
تنبيه: دلَّ هذا الحديث على تحريم ربا الفضل في التمر، وعلى الإرشاد إلى التخلص من إثم الربا.
فأما الثاني: فقد ذكرنا منه ما يكفي ويشفي.
وأمَّا الأول: وهو ربا الفضل، فجمهور الأمة وسائر الأئمة على تحريمه.
وخالف ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك، فلم يحرم ربا الفضل، وكُلِّمَ في ذلك، فقيل: إنه رجع عنه (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما ربا الفضل بلا نَساء، فقد أشكل على السلف والخلف، فروي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية: أنه لا ربا
(1) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 219 - 221)،
وعنه ابن القيم في "إعلام الموقعين"(3/ 227).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 184).
إلا في النَّساء، كما ثبت ذلك عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا ربا إلا في النسيئة"(1).
والحاصل: أن الربا من أكبر الكبائر، سواء في ربا الفضل، أو ربا النسيئة، والله تعالى الموفق.
(1) رواه البخاري (2069)، كتاب: البيوع، باب: بيع الدينار بالدينار نساء، ومسلم (1596)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل. وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 22).