الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلَقِينَ"، قَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ! وَالمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "وَالمُقَصرِينَ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1640، 1642)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، و (4148 - 4149)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، ومسلم (1301/ 316 - 319)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير، وأبو داود (1979 - 1980)، كتاب: المناسك، باب: الحلق والتقصير، وابن ماجه (3044)، كتاب: المناسك، باب: الحلق.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 213)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 312)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 145)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 382)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 403)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 83)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1063)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 110)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 562)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 64)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 233)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 210).
(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) في حجة الوداع، أو في الحديبية، أو في الموضعين، جَمعًا بين الأحاديث (1):(اللهمَّ ارْحَمِ المحلِّقين، قالوا)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد، انتهى (2).
وفي رواية ابن سعد في "الطبقات" في غزوة الحديبية: أن عثمان وأبا قتادةَ هما اللذان قَصَّرا ولم يحلِقا في عام الحديبية (3).
قال الجلال البلقيني: فيحتمل أن يكونا هما اللذان قالا: (والمقصرين)؛ (4) أي: قل: وارحم المقصرين (يا رسولَ الله!).
وفي حديث ابن عمر في رواية أخرى في "الصّحيحين"، قال: حلق النّبيُّ صلى الله عليه وسلم وطائفةٌ من أصحابه، وقَصَّرَ بعضهم (5).
قال البلقيني: بين في رواية ابن سعد في "الطبقات" في غزوة الحديبية البعض الذي قَصَّر، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أصحابه حلقوا رؤوسهم عامَ الحديبية غيرَ عثمانَ وأبي قتادةَ، فاستغفرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثَ مرات، وللمقصرين مرة (6).
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 233).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 562).
(3)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(4)
نقله القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 234).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1642)، ومسلم برقم (1301/ 316).
(6)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 104). =
قال صاحب "المصابيح": إن ثبت أن ما أورده البخاري ومسلم في هذا الباب كان في عام الحديبية، حَسُنَ التفسيرُ بذلك، وإلا، فلا، إذ لا يلزم من كون عثمانَ وأبي قتادة قصرا في عام الحديبية أن يكونا قَصَّرا في غيره (1).
(قال) صلى الله عليه وسلم ثانيًا: (اللهمَّ ارحمِ المحلِّقين، قالوا: يا رسول الله!) قل: (و) ارحم (المقصرين)، فـ (قال: و) ارحم (المقصرين) بالعطف على محذوف، ومثلُه يسمى بالعطف التلقيني (2)، كقوله تعالى:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]. قال الزمخشري في "كشَّافه": ومن ذريتي عطفٌ على الكاف، كأنه قال: وجاعلٌ بعضَ ذريتي، كما يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا، انتهى (3).
وتعقبه أبو حيان: بأنه لا يصحُّ العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يُعَدْ؛ لأن "من" لا يمكن تقديرُ الجار مضافًا إليها؛ لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى يقدر "جاعل" مضافًا إليها لا يصح، ثم قال: والذي يقتضيه المعنى أن يكون {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} متعلقًا بمحذوف، والتقدير: واجعل من ذريتي إمامًا؛ لأن إبراهيم عليه السلام فهم من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]
= قلت: وهو في "مسند الإمام أحمد"(3/ 89) من حديث أبي سعيد الخدري أيضًا، فالعزو إليه أولى.
(1)
نقله القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 235).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 234)، نقلًا عن "الفتح" للحافظ ابن حجر (3/ 562).
(3)
انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 184).
الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إمامًا، انتهى (1).
وفي رواية في "الصّحيحين": قال في الرابعة: "والمُقَصِّرين"(2).
وفي حديث أبي هريرة في "الصّحيحين": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ اغفرْ للمُحَلِّقين"، قالوا: وللمقصِّرين، قال:"اللهمَّ اغفرْ للمُحَلِّقين"، قالوا: وللمقصِّرين -قالها ثلاثًا: "اغفر للمحلقين"-، قالوا: وللمقصرين قالها ثلاثًا؛ أي: اغفر للمحلقين ثلاث مرات، وفي الرابعة قال:"وللمقصرين"(3).
ففيه تفضيلُ الحلق للرجال على التقصير الذي هو أخذُ أطرافِ الشعر، لقوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، إذ العربُ تبدأ بالأهم والأفضل، (4) نعم، إن أحرم متمتِّعًا، فالتقصير له أفضلُ، ليوفِّرَ شعره ليحلقه عند التحلل من حجه.
فيحلق رأسه، ويبدأ بأيمنه، ويستقبل القبلة فيه، ويكبر وقتَ الحلق، والأولى أَلَّا يشارط الحلاقَ على أجرة، وإن قصر، فمن جميع شعر رأسه، لا من كل شعرة بعينها.
والمرأة تقصر من شعرها على أي صفة كان، من ضَفْر وعَقْصٍ وغيرِهما قدرَ أنملةٍ فأقلَّ من رؤوس الضفائر.
(1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 376 - 377).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1640)، ومسلم برقم (1301/ 319).
(3)
رواه البخاري (1641)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، ومسلم (1302)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير.
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 234).
وكذا عبدٌ، ولا يحلق إلا بإذن سيده؛ لأن الحلق يُنقص قيمته.
ويسن أخذُ أظفاره وشاربه ونحوه، ومن عدم الشعر، استحب أن يُمِرَّ الموسى على رأسه (1).
وفي "مثير العزم الساكن": روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا من الأنصار سأله عن الحج، فذكر الحديث، إلى أن قال:"وأَمَّا حَلْقُ رأسِكَ، فإن لكَ بكلِّ شعرةٍ نورًا"(2).
وفي لفظ: "فإذا حَلَقْتَ رأسَكَ، تناثَرَتِ الذنوبُ كما يتناثرُ الشعرُ، بكلِّ شعرةٍ ذنبٌ"(3).
قلت: رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، قال: وقد روي هذا الحديث من وجوه (4).
قال الحافظ المنذري: رواته موثقون، ورواه ابن حبان في "صحيحه"(5).
فائدة: ذكر الحافظُ ابنُ الجوزيِّ في "مثير العزم الساكن" بسنده إلى وكيع، قال: قال لي أبو حنيفةَ النعمانُ بنُ ثابتٍ الإمامُ: الحلقُ فيه خمسة أبواب من المناسك، فعلَّمنيها حَجَّامٌ، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي، وقفت على حجام، فقلت له: بكم تحلقُ رأسي؟ فقال: أعراقيٌّ
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 24).
(2)
ورواه بهذا اللفظ عبد الرزاق في "المصنف"(8828)، عن كعب الأحبار.
(3)
انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 127).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13566)، والبزار في "مسنده"(3/ 274 "مجمع الزوائد" للهيثمي)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
تقدم تخريجه عند ابن حبان. وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 111).
أنت؟ قلت: نعم، قال: النسكُ لا يُشارَط عليه، اجلس، فجلست منحرفًا عن القبلة، فقال لي: حَوِّلْ وجهَكَ إلى القبلة، فحوَّلته، وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر، فقال: أَدِرِ الشقَّ الأيمنَ من رأسك، فأدرتُه، وجعل يحلق وأنا ساكتٌ، فقال لي: كَبِّرْ، فجعلتُ أكبر حتى قمتُ لأذهبَ، فقال لي: أين تريد؟ قلت: رحلي، قال: صلِّ ركعتين، ثم امضِ، فقلت: ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام، فقلت له: من أين لكَ ما أمرتني به؟ فقال لي: رأيتُ عطاءَ بنَ أبي رباحٍ يفعل ذلك (1).
تنبيهات:
الأول: حديثُ أبي هريرة يدلُّ على أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين بالمغفرة كان في حجة الوداع؛ لأنه لم يكن قدم على النّبي صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية؛ لأن الحديبية في السادسة، وهو إنما قَدِمَ على النّبيِّ صلى الله عليه وسلم في السابعة، لكنْ لم يصرح أبو هريرة بسماعه من النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاحتمل الأمرين، لإمكان سماعه مِمَّنْ حضرَ الحديبية، وحذفه له، ولو صرح بالسماع، لتعين كونه في حجة الوداع (2).
الثاني: تقدم أن الحلق أو التقصير نسكٌ، لا استباحةُ محظور، ويرشد لهذا الدعاءُ لفاعله بالرحمة، والدعاءُ ثواب، والثوابُ إنما يكون على العبادات، لا على المباحات، ولتفضيله أيضًا على التقصير، إذ المباحات لا تتفاضل، ولا تحلُّلَ للحج والعمرة بدونه كسائر أركانها إلا لمن لا شعر برأسه، فيتحلل منهما بدونه، فلا يؤمر به بعد نبات شعره.
وهو عندنا كالحنفية واجبٌ، وعند الشافعية من الفروض، وأقلُّ
(1) انظر: "مثير العزم السكن" لابن الجوزي (ص: 127).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 563).
ما يجزىء عند الشافعية: ثلاثُ شعرات، وعند أبي حنيفة: ربعُ الرأس، وعند أبي يوسف: النصف، وعند الإمام أحمد والمالكية: الجميع، كما أشرنا إليه سابقًا.
قال العلامةُ الكمالُ بنُ الهمام: اتفق الأئمةُ الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: أن قال كل منهم بأنه يجزىء في الحلق القدرُ الذي قال: إنه يجزىء في الوضوء.
قال: ولا يصح أن يكون هذا منهم بطريقة القياس؛ لأنه لا يكون قياسًا بلا جامع يظهر أثره، وذلك لأن حكم الأصل على تقدير القياس وجوبُ المسح، ومحله المسح، وحكمُ الفرع وجوبُ الحلق، ومحله الحلق للتحلل، ولا يظن أن محل الحكم الرأس، إذ لا يتحد الأصل والفرع، وذلك أن الأصل والفرع هما محلا الحكم المشبه به والمشبه، والحكم هو الوجوب مثلًا، ولا قياس يُتصور عند اتحاد محله، إذ لا اثنينية، وحينئذٍ فحكم الأصل، [و] هو وجوبُ المسح ليس فيه معنى يوجب جواز قَصْره
على الربع، وإنما فيه نفسُ النص الوارد فيه، وهو قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]،، بناء، إما على الإجمال والتحاق حديث المغيرة بيانًا، أو على عدمه، والمفاد بسبب الباء إلصاقُ اليد كلِّها بالرأس؛ لأن الفعل حينئذ يصير متعديًا إلى الآلة بنفسه، فيشملها، وتمام اليد يستوعب الربع عادة، فتعين قدرُه، لا أنَّ فيه معنًى ظهر أثرُه من الاكتفاء بالربع، أو بالنقص مطلقًا، أو تعين الكل، وهو متحقق في وجوب حلقها عند التحلل من الإحرام، ليتعدى الاكتفاء بالربع من المسح إلى الحلق، وكذا الآخران، وإذا انتفت صحةُ القياس، فالمرجعُ في كل من المسح وحلق التحلل ما يفيده نصه الواردُ فيه، والواردُ في المسح دخلت فيه الباء على الرأس التي
هي المحل، فأوجب عند الشافعي التبعيض، وعند غيره الإلصاق، غير أن الحنفية لاحظوا تعدِّيَ الفعل للآلة، فيجب قدرُها من الرأس، ولم يلاحظها مالكٌ، ولا أحمدُ -رحمهما الله تعالى-، فاستوعبا الكلَّ، أو جعلاها صلة، كما في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] في آية التيمم، فاقتضى وجوب استيعاب المسح.
وأما الوارد في الحلق، فمن الكتاب قولُه تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] من غير باء، ففيها إشارة إلى تحليق الرؤوس أو تقصيرها، وليس فيها ما هو الموجب لطريق التبعيض على اختلافه عند الحنفية والشافعية، وهو دخول الباء على المحل.
ومن السنة: فعلُه صلى الله عليه وسلم، وهو الاستيعاب كما هو قول مالك، وكذا أحمد.
قال ابن الهمام: وهو -يعني: القول بوجوب استيعاب الحلق أو التقصير- هو الذي أدين الله به، والله أعلم (1).
(1) نقله الشارح رحمه الله عن القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 233)، الذي نقله عن الكمال بن الهمام في "فتح القدير"(2/ 490 - 491).