الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العاشر
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: استَأذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيالِيَ مِنَى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ (1).
* * *
(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) الفاروقِ (رضي الله عنهما، قال: استأذن العباسُ بنُ عبدِ المطلب) رضي الله عنه (رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: طلب منه الإذن بأن يرخِّصَ له في تركِ المبيتِ بمنى
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1553)، كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج، و (1656 - 1658)، باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى، ومسلم (1315)، كتاب: الحج، باب: وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية، وأبو داود (1959)، كتاب: المناسك، باب: يبيت بمكة ليالي منى، وابن ماجه (3065)، كتاب: المناسك، باب: البيتوتة بمكة ليالي منى.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 209)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 396)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 414)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 62)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 88)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1068)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 578)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 274)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 179)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 213)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 160).
لياليها (ليبيتَ بمكةَ) المشرفة (لياليَ مِنَى) الثلاثةَ (من أجل سِقايته) المعروفةِ بالمسجد الحرام، (فأذنَ له) صلى الله عليه وسلم.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب المبيت ليالي التشريق بمنى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للعباس عَمِّه في تركِ المبيت لأجل سقايته، فدل على أنه: لا يجوزُ لغيره؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة (1).
ففي حديث ابن عمر في "الصّحيحين": رخص النّبيُّ صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيامَ منى من أجل سقايته (2)، وفي لفظٍ آخر: أذن (3).
وعند الإمام أحمد في "المسند": أذنَ للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية (4).
فدل على أن الإذن إنما وقع للعلة المذكورة، فإذا لم توجد العلة المذكورة، أو ما في معناها، لم يحصل الإذنُ (5)، وهذا مذهبنا كالشافعية.
واتجه العلامة الشيخ مرعي في "غايته": أن المراد من البيتوتة بمنى لياليها معظم الليل (6).
وفي "شرح المنتهى" للشيخ منصور: ولعل المراد: لا يجب استيعابُ الليلة بالمبيت، بل كمزدلفة (7).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 579).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1553، 1658)، ومسلم برقم (1315).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1657).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 88).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 579).
(6)
انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (2/ 430).
(7)
انظر: "شرح المنتهى" للشيخ منصور البهوتي (1/ 590).
وفي "شرحه على الإقناع" عند قوله: أو ترك المبيت بمنى ليلة أو أكثر، علم منه: أنه لو ترك دونَ ليلة، فلا شيء عليه، وظاهرُه: ولو أكثرها (1)، وبين كلاميه في الشرحين مدافعة (2).
وفي "الفروع" في عدة واجبات الحج: والمبيت بمزدلفة على الأصح، ولو غلبه نوم بعرفة، نقله المروذي.
وفي "الواضح" فيه: وفي مبيت منى ولا عذر إلى بعد النصف، كذا هو في نسخة صحيحة (3).
وصرح الشافعية كما في "شرح البخاري" للقسطلاني بأن المراد: مبيتُ معظمِ الليل، قالوا: كما لو حلف لا يبيتُ بمكان لا يحنث إلا بمبيته معظمَ الليل، كذا قال (4).
تنبيهات:
أحدها: المبيتُ بمزدلفة إلى ما بعدَ نصفِ الليل لمن وافاها قبلَ النصف واجبٌ، وله الدفعُ بعد النصف، ولو قبلَ الإمام، وليس له الدفعُ قبل النصف، ويُباح بعدَه، ولا شيء عليه، كما لو وافاها بعده، فإن جاء بعد الفجر، فعليه دم؛ كما لو دفع قبلَ النصف، غيرَ رعاةٍ وسقاة (5).
(1) انظر: "حاشية العلامة النجدي على منتهى الإرادات"(2/ 167)، وعنه نقل الشارح رحمه الله كلام البهوتي.
(2)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 510).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 388).
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 245).
(5)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 31).
الثاني: اختلف الأئمة في المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل وليالي منى: هل يجب عليه دم؟
فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه، ولو تركه، مع كونه واجبًا عنده، يعني: المبيت بمزدلفة، وأما المبيت بمنى، فعنده سنة لا شيء في تركه.
وقال مالك: يجب في تركها الدمُ مع كونها سنةً عنده.
وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدمُ، مع كونها واجبةً عندهما.
وأجمعوا على أن المبيت بمنى لياليها مشروع إلا في حق السقاية والرعاء، لكن أبو حنيفة ومالكٌ يقولان: هو من سنن الحج، وفي تركه عند مالك دمٌ، وليس عنده بواجب، وقد تقدم أن عند الإمام مالك في ترك المسنون دمًا (1).
الثالث: قال الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" في شرح السقاية والرفادة، قال: كان أصلَ السقاية حياضٌ من أَدَمٍ توضع على عهد قُصَيٍّ بفِناء الكعبة، ويستقى فيها الماء للحاج.
والرفادة: خَرجٌ كانت قريشٌ تخرجه من أموالها إلى قُصَيٍّ يصنع به طعامًا للحاج يأكله مَنْ ليس له سَعَة، وسبب ذلك أن قصيَّ بنَ كلاب استولى على الحرم، وجمعَ إليه بني كنانة، وقال: أرى أن تجتمعوا في الحرم، ولا تتفرقوا في الشعاب والأودية، وكان من عادتهم إذا جاء الليل، خرجوا عن الحرم، لا يستحلون أن يبيتوا فيه، فقالوا: هذا عظيم، فقال: والله! لا أخرج منه، فثبت فيه مع قريش، فلما جاء الموسم، قام خطيبًا،
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 245 - 246).
فقال: يا معشر قريش! إنكم جيرانُ الله، وأهلُ حَرَمه، وإن الحجاج زوارُ الله وأضيافُه، فترافدوا، واجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيامَ الحج حتى يَصْدُروا، ولو كان مالي يسعُ ذلك، لقمتُ به، ففرض عليهم فرضًا تخرجه قريش من أموالها، فجمع ذلك، ونحر على كل طريق من طرق مكة جزورًا، ونحر بمكة جُزُرًا كثيرة، وأطعم الناسَ، وسقى اللبنَ المحضَ، والماءَ والزبيبَ، وكان قصي يحمل راجل الحاج، ويكسو عاريَهم، وما زال ذلك الأمر حتى قام به هاشمٌ، ثم أخوه المطلب، ثم عبد المطلب، ثم قام به العباس رضي الله عنه.
قال ابن الجوزي: أولُ مَنْ أطعم الحاجَّ الفالوذجَ بمكةَ عبدُ الله بن جُدْعان.
قال أبو عبيدة: وفد ابنُ جدعانَ على كسرى، فأكل عنده الفالوذَجَ، قال: فسأل عنه، فقالوا: لُبابُ البُرِّ مع العَسَل، فقال: أبغوني غلامًا يصنعه، فأتوه بغلام، فابتاعه، وقدم به مكةَ، وأمره فصنعه للحاج، ووضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أرادَ الفالوذجَ، فليحضرْ، فحضر الناسُ.
قال: وما زال إطعامُ الحاجِّ في الجاهلية وفي الإسلام، وكانت الخلفاء تُقيمه، ولا يكلفون أحدًا من مالِهِ شيئًا، وكان معاويةُ قد اشترى دارًا بمكة، وسماها:"دار المراجل"، وجعل فيها قُدورًا، ورسم لها من ماله، فكانت الجزر والغنم تُنحر، ويطبخ فيها، ويطعم الحاج أيام الموسم، ثم يفعل ذلك في شهر رمضان.
وقد أتى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم زمزمَ وإن آلَ العباس يسقون ويعملون فيها، فقال صلى الله عليه وسلم:"اعملوا، فإنَّكم على عملٍ صالحٍ"، ثم قال: "لولا أن تُغْلَبُوا،
لنزلْتُ حتى أَضَع الحَبْلَ على هَذِه" -يعني: عاتقه-. رواه البخاري من حديث ابن عباس (1).
وفي أفراد مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: أن النّبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عبدِ المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال:"انْزِعوا بَني عبدِ المطلبِ، فلولا أنْ يَغْلِبَكُمُ الناسُ على سِقايتِكم، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"(2).
الرابع: المرادُ بسقاية العباس رضي الله عنه في الحديث المذكور: زمزم، فإنهم كانوا ينبذون الزبيبَ في ماء زمزم، ويسقونه الحجاج، وكان الذي وليَ ذلك العباس بن عبد المطلب بعد أبيه في الجاهلية، فأقرها النّبيُّ صلى الله عليه وسلم له في الإسلام، فهي حقٌّ لآلِ العباس أبدًا (3).
تتمة: في الكلام على زمزم، وفيها مقاصد:
الأول: زمزم -بفتح الزايين وسكون الميم الأولى-، سميت بذلك لكثرة مائها، والماء الزمزمُ: هو الكثير، وقيل: لزمِّ هاجرَ ماءها حين انفجرت، وقيل: لزمزمةِ جبريلِ، وكلامِه (4).
قال ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": سميت بزمزم؛ لأن الماء لمَّا فاضَ، زَمَّتْهُ هاجر، قال ابن فارس اللغوي: وزمزم من قولك: زممتُ الناقةَ: إذا جعلتَ لها زمامًا تحبسها به، انتهى (5).
(1) رواه البخاري (1554)، كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج.
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1218)، في حديث جابر رضي الله عنه الطويل. وانظر:"مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 179 - 180).
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 179).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 194).
(5)
انظر: "مثير العزم السكن" لابن الجوزي (ص: 177).
وقال العلامة الشيخ مرعي في كتابه "تشويق الأنام في الحج إلى بيت الله الحرام"(1): قال الحربي: سميت زمزم، لزمه الماء، وهي صونه، وقال المسعودي: لأن الفُرسَ كانت تحجُّ إليها في الزمن الأول، فتزمزم عندها، والزمزمةُ: صوتٌ تخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب الماء.
الثاني: في بدو شأنها:
قد ثبت في الصحاح من البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء إبراهيمُ بأم إسماعيل وابنِها إسماعيلَ وهي تُرضعه حتى وضعَها عند دَوْحَةٍ فوقَ زمزم، وليس بمكة أحدٌ، وليس بها ماء، ووضع عندهما جِرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قَفَّى منطلقًا، فتبعته أمُّ إسماعيل، فقالت: أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفتُ إليها، فقالت له: اللهُ أمركَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يُضيعنا اللهُ، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عندَ الثنية حيث لا يرونه، استقبلَ بوجهه البيتَ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وجعلت أم إسماعيل تُرضع إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماء، حتى إذا نَفِدَ، عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظرُ إليه يتلوَّى، أو قال: يَتَلَبَّطُ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبلٍ في الأرض يَليها، فقامت عليه، فاستقبلت الواديَ تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الواديَ، رفعتْ طرفَ ذراعها، ثم سعت سعيَ
(1) له نسخة خطية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، تحت رقم (9018 / خ)، وتقع في (41) ورقة.
الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتمت المروةَ، فقامت عليها ونظرت، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبعَ مرات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ولذلك سَعَى الناسُ بيْنَهما"، فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتًا، فقالت: صَهْ -تريد نفسها-، ثم تسمَّعَتْ فسمعت، فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملَكِ عندَ موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "يرحمُ اللهُ أُمَّ إسماعيلَ، لو تركَتْ زَمزمَ"، أو قال:"لو لم تغرفْ من الماء، لكانت زمزمُ عينًا معينًا"، فشربت وأرضعت ابنها، فقال لها الملَكُ: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيتًا لله عز وجل يبنيه هذا الغلام وأبوه، فإن الله لا يضيع أهله (1).
قال العلامة الشيخ مرعي في "تشويق الأنام": واستمرت زمزم على ذلك إلى أن سكن الحرمَ قوم عصوا الله، وتهاونوا بحرمة الكعبة، فأخذ الله ماء زمزم منهم، ونضب ماؤها وانقطع، فلم يزل موضعها يدرُس، وتمر عليه السيول عصرًا بعد عصر إلى زمن عبد المطلب جدِّ سيدِ العالم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام عبدُ المطلب، فولي سقاية البيت ورفادتَه، أُتي في منامه، فقيل له: احفرْ طيبة، فقال: وما طَيْبَةُ؟ فأتي من الغد فقيل له: احفرْ بَرَّةَ، قال: وما بَرَّةُ؟ فأتي من الغد، فقيل له: احفرِ المضنونةَ، فقال: وما المضنونةُ؟ فأُتي فقيل: احفر زمزم، قال: وما زمزم؟ قال: لا تنزح
(1) رواه البخاري (3184)، كتاب: الأنبياء، باب:"يزفون" ولم أقف عليه في "صحيح مسلم"، والله أعلم.
ولا تُذَمّ، تسقي الحجيجَ الأعظم، وهي بين الفَرْثِ والدم، عندَ نُقْرَةِ الغرابِ الأعصم، وكان غرابٌ أعصمُ لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم، فغدا عبدُ المطلب بمعوله ومِسْحاته، معه ابنُه الحارث، وليس له يومئذ ولدٌ غيره، فجعل يحفر ثلاثةَ أيام حتى بدا له الطَّوِيُّ، فكبَّرَ وقال: هذا طويُّ إسماعيل، فقالت له قريش: أَشْرِكْنا فيه، قال: ما أنا بفاعل، شيءٌ خُصصت به دونكم، فاجعلوا بيني وبينكم مَنْ شئتم أحاكمْكُم إليه، فقالوا: كاهنةُ بني سعد، فخرجوا إليها، فعطشوا في الطريق حتى أيقنوا بالموت، فقال عبد المطلب: والله! لا يلقانا بأيدينا هكذا، العجزُ ألا نضرب في الأرض، فعسى الله أن يرزقنا ماء، فارتحلوا، وقام عبدُ المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت تحت خفها عينُ ماء عذبٍ، فكَبَّرَ عبدُ المطلب، وكَبَّرَ أصحابُه، وشربوا جميعًا، وقالوا له: قد قَضَى لكَ علينا الذي سقاك، فوالله! لا نخاصمك فيها أبدًا، فرجعوا، وخلوا بينه وبين زمزم (1).
ولم تزل ظاهرة إلى الآن.
الثالث: في فضائلها والشرب منها:
قال في "الفروع": ثم يشرب -يعني: الحاجَّ- من ماء زمزم لِما أحبَّ، ويتضَلَّع.
وفي "التبصرة": ويرشُّ على بدنه وثوبه.
وفي "الصّحيحين": قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنها مباركةٌ، إنها طعام
(1) وانظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 83)، و"نوادر الأصول" للحكيم الترمذي (3/ 270)، و"أخبار مكة" للأزرقي (2/ 44).
طعم" (1)؛ أي: تشبع شاربَها كالطعام (2).
قال ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": يُستحب لمن شربَ من ماء زمزم أن يُكثر منه، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما، عن النّبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "التَّضَلُّعُ من ماءِ زمزمَ براءةٌ من النفاقِ"(3).
وفي "تشويق الأنام": عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: من أين جئتَ؟ فقال: من زمزم، قال: فشربتَ منها كما ينبغي؟ قال: فكيف؟ قال: إذا شربتَ منها، فاستقبل القبلةَ، واذكرِ اسمَ الله تعالى، وتنفس ثلاثًا، وتَضَلَّعْ منها، فإذا فرغتَ، فاحْمَدِ الله عز وجل، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ آيةَ ما بيننا وبينَ المنافقين: لا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زمزمَ" رواه ابن ماجه، وهذا لفظه، والدارقطني، والحاكم في "المستدرك"، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين (4).
قال الطبري: والتَّضَلُّع: الامتلاءُ حتى تمتدَّ الأضلاعُ.
والمرادُ من النفس ثلاثًا: أن يفصلَ فاه عن الإناء ثلاثَ مرات، يبتدىء كل مرة باسم الله، ويختم بالحمد لله، وهكذا جاء مفسرًا في بعض الطرق.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنا مع النّبي صلى الله عليه وسلم في صفة
(1) رواه مسلم (2473)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر رضي الله عنه. ولم أقف عليه في "صحيح البخاري"، والله أعلم.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 382).
(3)
رواه الأزرقي في "أخبار مكة"(2/ 52). وانظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 178).
(4)
رواه ابن ماجه (3061)، كتاب: المناسك، باب: الشرب من زمزم، والدارقطني في "سننه"(2/ 288)، والحاكم في "المستدرك"(1738).
زمزم، فأمرَ بدلوٍ، فنزعت له من البئر، فوضعها على شفة البئر، ثم وضع يده من تحت عراقي الدلو، ثم قال:"باسم الله"، ثم كرع فيها (1).
مع النّبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم صلَّوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ثم لم يفعلوا خلاف ذلك، ولم ينقل أحد قط عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، لا بعرفة ولا مزدلفة ولا منى: يا أهل مكة! أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة، كما رواه أهل السنن، وقول ذلك داخل مكة دون عرفة ومزدلفة، وقيل على الفرق، انتهى ملخصًا، والله أعلم.
(1) هنا خرم واضح في الأصل المخطوط بمقدار ورقة كاملة، فيها تتمة أثر ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه الأزرقي في "أخبار مكة"(2/ 57)، وهو بعد قوله:"ثم كرع فيها": "فأطال، ثم أطال، فرفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم عاد فقال: باسم الله، ثم كرع فيها فأطال، وهو دون الأول، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم كرع فيها فقال: باسم الله، فأطال، وهو دون الثاني، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم قال: "علامة ما بيننا وبين المنافقين لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا". وفي الورقة المفقودة أيضًا شرح آخر حديث من أحاديث باب: فسخ الحج إلى العمرة، وهو الحديث الحادي عشر، وهو: ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، لكل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما.