الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، خُوَيْلِدِ بْنِ عَمرٍو الخُزَاعيِّ العَدَوِيِّ: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ بْنِ العَاصِ، وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ايذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، فسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وقد عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ؛ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ"، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لك؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ! إِنَّ الحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، و (1735)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يعضد شجر الحرم، و (4044)، كتاب: المغازي، باب: منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، والنسائي (2876)، كتاب: الحج، باب: تحريم القتال فيه، والترمذي (809)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في حرمة مكة. =
الخَرْبَةُ -بِالخَاء المُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ المُهْمَلَةِ- قِيلَ: التَّهَمَةُ، وَقِيلَ: البَلِيَّةُ، وَقِيلَ: الخِيانَةُ، وَأَصْلُها فِي سَرِقَةِ الإِبِلِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَالخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الخَارِبَا.
* * *
(عن أبي شُرَيْحٍ) -بضم الشين المعجمة وفتح الرّاء وبالحاء المهملة- (خُوَيْلِدِ) -بالتّصغير- (بنِ عمرِو) بنِ صخرِ بنِ عبدِ العزى، وقيل: اسم أبي شريح: عمرُو بنُ خويلد، وقيل: كعبُ بن عمرو. وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانىء بن عمرو.
والأوّل الذي ذكره الحافظ أصحُّ وأكثر.
(الخزاعيِّ) الكعبيِّ نسبةً إلى خُزاعة -بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي-، وهم أولاد عمرو بن ربيعة (العدويِّ).
ليس أبو شريح هذا من بني عَدِيٍّ، لا عديِّ قريشٍ، ولا عديِّ مضر، فيحتمل أن يكون حليفًا لبني عديِّ بن كعب.
وقيل: في خزاعة بطنٌ يقال لهم: بنو عدي.
اشتُهر أبو شريح بكنيته، وهو صحابيّ أسلمَ قبلَ الفتح، كما في "جامع الأصول" لابن الأثير (1).
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 470)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 473)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 127)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 23)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 967)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 198، 4/ 42)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 139)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (1/ 198، 3/ 304)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 191).
(1)
انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 511 - قسم التراجم).
وقال المِزِّيُّ في "الكُنى": أسلم يوم الفتح، فهو صحابي (رضي الله عنه).
مات بالمدينة سنة ثمان وستين، وعِدادُه في أهل الحجاز.
روي له: عشرون حديثًا، اتّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديث (1).
(أنّه)؛ أي: أبا شريح رضي الله عنه (قال لعمرِو بن سعيدِ بنِ العاص) القرشيِّ، المعروفِ بالأشدَقِ، لأنّه صعِدَ المنبرَ، فبالغَ في شتم علي رضي الله عنه، فأصابته لَقْوة، وكان يزيدُ بنُ معاوية ولّاه المدينة.
قال الطّبري: كان قدومُه واليًا على المدينة من قبل يزيد في السّنة التي ولّي فيها يزيد الخلافة سنة ستين.
وكان سعيدٌ والدُ عمرِو بنِ سعيد يومَ الفتح غلامًا، قاله ابن الأثير (2).
ولد عام الهجرة، فيكون ابنَ ثمان سنين، فكساه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جُبَّةً.
قال ابن قتيبة في "المعارف": فبها سُميت الثيابُ السعديةُ (3).
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 295)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 224)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 398)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 110)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1688)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 160)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 400)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 204).
(2)
انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 441 - قسم التراجم).
(3)
انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 296).
فالأشدق هو: عمرو بنُ سعيدِ بنِ العاص بنِ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أميّةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ.
وكان لسعيد بن العاص بنِ أمية ابنٌ اسمه عمرُو بن سعيد قد هاجر الهجرتين إلى الحبشة في المرة الثّانية، ثمّ إلى المدينة، وقدم مع سفينة سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سنة خيبر.
وخالدُ بنُ سعيد بنِ العاص بنِ أميّة أسلمَ قديمًا.
يقال: إنّه أسلمَ بعدَ أبي بكر الصّديق، فكان خامسًا، أو رابعًا، فهو من السّابقين الأوّلين.
وأسلم أخوه عمرٌو، وهاجرا معًا إلى الحبشة، وأقام بها بضعَ عشرةَ سنةً، وولد بها ابنُه سعيدٌ، وبنتهُ أمُّ خالد.
وقدم على النّبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فشهد معه ما بعدها من المشاهد، وبعثه صلى الله عليه وسلم على صدقات اليمن، فتوفي النّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو باليمن.
وأمّا العاص جدُّ عمرٍو الأشدقِ، فُقتل مشركًا يَومَ بدر، والقاتلُ له عليٌّ -رضوان اللَّه عليه-.
واستُشهد كُلٌّ من خالدِ بنِ سعيد، وعمرِو بنِ سعيد يومَ وقعة مَرْجِ الصُّفَّرِ بالشّام، سنة أربعَ عشرةَ في صدر خلافة عمر.
وقيل: قُتل خالد يومَ أجنادين، سنةَ ثلاثَ عشرةَ في خلافة الصّدِّيق قبلَ وفاتِه بأربعٍ وعشرين ليلةً، وهو ابنُ خمسين سنة، وكذلك عمرٌو استُشهد يومَ أجنادين.
وقيل: يوم مَرْج الصُّفَّرِ.
وأمّا سعيدٌ والدُ عمرٍو الأشدقِ، فمات سنة تسع وخمسين.
وأمّا عمرُو بنُ سعيدٍ الأشدقُ، فقتله عبدُ الملك بن مروان.
ولمّا ماتَ سعيدٌ والدُ عمرٍو، دخل عمرو على معاويةَ، فاستنطقه معاويةُ، فقال عمرو: إنّ أوّل مركبٍ صعب، وإنّ مع اليوم غدًا، فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنّ أبي أوصاني، ولم يوص بي، فقال: فأيّ شيءٍ أوصاك؟ قال: أَلَّا يفقد منه أصحابُه غيرَ شخصه.
قال البرماوي: لمّا قُتل الحسينُ بنُ عليٍّ -رضوان اللَّه عليهما-، كان عمرٌو واليًا على المدينة، فبعث إليه يزيدُ برأس الحسين، فكفنَه، ودفنه بالبقيع بجنب قبرِ أمّه عليهما السلام.
وكان عمرٌو هذا أحبَّ الناسِ إلى أهل الشّام، وكانوا يسمعون له، ويطيعون.
فلمّا وُلي عبدُ الملك بنُ مروان الخلافة، خافه، وقد كان عمرو غالطه، وتحصّن بدمشق، ثمّ فتحها له، وبايعه بالخلافة، فلم يزل عبد الملك رصدًا له لا يأمنه حتّى بعث إليه يومًا خاليًا، فعاتبه على أشياء قد عفاها عنه، ثمّ وثب عليه فقتله، في قصّة مطوّلة.
وكان عمرٌو جبّارًا شديدَ البأس، وكان يسمى: لطيمَ الشّيطان.
وهو الذي خطب على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرعفَ حتّى سالَ الدّم إلى أسفله، فعرف لأجل ذلك معنى حديث النّبي صلى الله عليه وسلم الذي يروى عنه:"كأنّي بجبارٍ من بني أميّة يَرْعَفُ على منبري حتّى يسيلَ الدَّمُ إلى أسفله"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم (1).
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 522)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(617)، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"ليرعفنَّ على منبري جبار من جبابرة بني أمية يسيل رعافه".
وكان قتلُ عبدِ الملك بن مروان لعمرٍو هذا: سنة اثنتين وسبعين.
وملك عبد الملك بعد قتله أربعَ عشرةَ سنةً (1).
وإنّما أَطَلْتُ هذه التّرجمة؛ لأنّي رأيتها في عدّة نسخ على خلاف الصّواب، وكان ذلك من النّساخ لعدم معرفتهم، وكثرةِ وجود الجهل بالتّاريخ وبالأنساب، واللَّه الملهم للصّواب.
فقال أبو شريح لعمرو الأشدق: (وهو يبعث البعوث إلى مكّة) -جملة حالية-.
والبعوث: جمعُ بَعْث، وهو الجيش، يعني: مبعوث، وهو من تسمية المفعول بالمصدر (2).
والمراد به: الجيشُ المجهّز لقتال عبد اللَّه بن الزّبير رضي الله عنهما؛ لأنّه لمّا امتنع من بيعة يزيد، وأقام بمكة، كتب يزيدُ إلى عمرِو بنِ سعيد أن يوجّه إلى ابن الزّبير جيشًا، فجهّز إليه جيشًا، وأَمَّر عليهم عمرَو بنَ الزّبير أخا عبدِ اللَّه، وكان معادِيًا لأخيه.
فجاء مروانُ إلى عمرِو بن سعيد، فنهاه عن ذلك، فامتنع (3).
وجاءه أبو شريح، فقال له:(ايذن لي) أصله: ائْذَنْ -بهمزتين-، فقلبت الثّانية [ياء] لسكونها وانكسار ما قبلها (أيها الأميرُ أحدّثْكَ) -بالجزم في جواب الأمر- (قولًا قام به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) جملة في موضع نصب صفة
(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 388)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 236)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 249)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 33).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 42).
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 304).
"قولًا" المنصوب على المفعوليّة (الغد) -بالنّصب على الظرفيّة-؛ أي: اليوم الثّاني (من يوم الفتح) بمكة.
وفي رواية: "للغد" بلام الجر (1).
(فسمعَتْه أُذناي) منه صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، (ووعاه قلبي)؛ أي: حفظه، ولم يضيّعه؛ إشارة إلى تحقيقه وتثبيته فيه، (وأبصرَتْه عيناي) زيادة في مبالغة التّأكيد لتحقيقه (حين تكلّم به)؛ أي: بالقول المذكور، وأشار بذلك أنّ سماعه منه لم يكن مقتصرًا على مجرّد الصوت، بل كان مع المشاهدة والتّحقيق لما قاله (2).
(إنّه) صلى الله عليه وسلم (حَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه) بيان لقوله: تكلّم، وهمزة "إنّه" مكسورة، (ثمّ قال) صلى الله عليه وسلم:(إنّ مكَّةَ حَرَّمها اللَّه)؛ أيْ حَكَم بتحريمها، وقَضَى به.
وهل المراد مطلقُ التّحريم، فيتناول كلَّ محرّماتها، أو خصوصُ ما ذكره بعدُ من سفك الدّم وقطع الشّجر؟ (ولم يُحَرِّمْها النّاس) نفي لما كان تعتقده الجاهلية، وغيرُهم من أنّهم حرّموا وحلّلوا من قبل أنفسهم.
ولا منافاة بين هذا وبين حديثِ جابرٍ في "صحيح مسلم": "إنّ إبراهيم حَرَّمَ مَكَّةَ، وإنّي حَرَّمْتُ المدينةَ، لا يُقْطَع عِضَاهُها، ولا يُصادُ صَيْدُها"(3).
وما في "الصّحيحين" عن عبّاد بن تميم، عن عمّه: أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1735).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).
(3)
رواه مسلم (1362)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.
قال: "إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مَكَّةَ ودَعا لها، وإنّي حَرَّمْتُ المدينةَ كما حَرَّمَ إبراهيمُ مَكَّةَ"(1).
وفيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أشرفَ على المدينة، فقال:"اللهمَّ إِنّي أُحَرِّمُ ما بينَ جَبَلَيْها كما حَرَّمَ إبراهيمُ مَكَّةَ"، الحديث (2).
وما في نحو ذلك من الأحاديث.
لأنّ إضافة التّحريم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام من حيثُ إنّه ضيافة، فإنّ الحاكم بالشّرائع والأحكام كلّها هو اللَّه تعالى، والأنبياء -عليهم الصّلاة والسّلام- يبلغونها.
ثمّ إنّها كما تضاف إلى اللَّه تعالى من حيث إنّه الحاكمُ بها، فتُضاف إلى الرسل؛ لأنّها تُسمع منهم، وتظهر على ألسنتهم.
فلعلّه لمّا ارتفعَ البيتُ المعمور إلى السّماء وقت الطّوفان، اندرسَتْ حرمتُها، وصارت شريعةً متروكةً مَنْسِيَّةً إلى أن أحياها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فرفعَ قواعدَ البيت، ودعا النّاسَ إلى حجّه، وحدّد الحرمَ، وبيَّنَ حرمتَه، (3) ثمّ بينَ التّحريم بقوله:(فلا يحلُّ لامرىءٍ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخر).
(1) رواه البخاري (2022)، كتاب: البيوع، باب: بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومدهم، ومسلم (1360)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.
(2)
رواه البخاري (5109)، كتاب: الأطعمة، باب: الحيس، ومسلم (1365)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).
قال ابن دقيق العيد: هذا الكلام من باب خطاب التَّهييج، وإنَّ مقتضاه: أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليقُ بمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر، بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، لا أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشّريعة.
ولو قيل: لا يحلّ لأحدٍ مطلقًا، لم يحصل به الغرض، وخطابُ التّهييج مفهوم عند علماء البيان.
ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، إلى غير ذلك (1).
(أن يَسْفِكَ فيها) -بكسر الفاء، ويجوز ضمها-؛ أي: أن يصيب بمكة (دمًا) بالقتل.
(ولا يَعْضُد) -بضم الضاد-. وفي رواية: -بكسرها-؛ أي: يقطع بالمِعْضَد، وهو آلة كالفأس (2).
(بها)؛ أي: مكة (شجرةً).
وفي رواية: "ولا يَخْضِدَ" -بالخاء المعجمة بدل العين المهملة-، وهو يرجع إلى معنى العضد؛ لأنّ الخضد -بالكسر- يستعمل في القطع (3).
ولفظة "لا" في "ولا يعضد" زائدة لتأكيد النّفي، كما في قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الآية [الأنعام: 151].
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 27).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198).
(3)
المرجع السابق، (4/ 44).
وفي قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95].
كما نبّه عليه القسطلاني (1)، وفيه نظر.
بل الظّاهر عدمُ الزيادة، والتقدير: ولا يحل لامرىءٍ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يعضد بها شجرة.
يؤيد هذا عدمُ تنبيه الحافظ ابن حجر في كتاب "العلم" على زيادة "لا"(2)، واللَّه أعلم.
ويؤخذ من هذا الحديث: حرمةُ قطع شجر الحرم الرَّطْب غيرِ المؤذي، مباحًا أو مملوكًا، حتّى ما يستنبت منه، وإذا حرم القطع، فالقلعُ أولى (3).
ومعتمد مذهبنا: حرمةُ قطع شجر الحرم، حتّى ما فيه مضرّة؛ كشوكٍ وعَوْسَج وحشيشٍ، حتى شوكٌ وورقٌ؛ خلافًا للشافعي، وسواكٍ ونحوِه، ويضمنه، لا اليابس.
وما زال بغير فعلِ آدميٍّ، أو انكسرَ ولم يَبِنْ، والإذخرُ والكمأةُ والفَقْعُ والثمرةُ، وما زرعه آدميٌّ من بقلةٍ، وريحانٍ وزرعٍ وشجرٍ غُرس من غير شجرِ الحرم، فيباح أخذُه، والانتفاعُ به، وبما انكسر من الأغصان، وانقلع من الشّجر بغير فعل آدمي، وكذا الورق الساقط.
ويجوز رعيُ حشيشٍ، لا الاحتشاش للبهائم.
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198).
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).
وإذا قطع ما يحرم قطعه، حرم انتفاعُه وانتفاعُ غيره به (1).
وعند الشّافعية: ما أنبتَ الآدميُّ من شجرٍ في الحرم، ولو كان الغراس من غير الحرم، ثمّ قطعه، أو قلعه، حرم عليه، وعليه الجزاء.
وعندهم: ما فيه مضرّةٌ من شوكٍ وعَوْسَج لا يحرمُ قطعه (2).
(فإن أحد تَرَخَّصَ) بوزن تَفَعَّل من الرّخصة.
و"أحدٌ" مرفوع بفعل مضمر يفسّره ما بعدَه؛ أي: فإن ترخّص أحدٌ (3)(لقتالِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم) متعلّق بترخَّصَ؛ أي: لأجلِ قتالِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ يعني: مستدلًا به، (فقولوا) له؛ أي: لذلك المترخّص؛ يعني: الذي يريد القتالَ ونحوَه، مستندًا لفعل النّبي صلى الله عليه وسلم:(إنّ اللَّه) عز وجل (أَذِنَ لرسوله صلى الله عليه وسلم) خصوصية له، (ولم يأذن لكم، وإنّما أذن [لي]) اللَّه سبحانه وتعالى بالقتال فيها (ساعةً من نهار).
ويروى: بضم همزة أُذِنَ (4).
وفي قوله: لي، التفاتٌ؛ لأنّ نسق الكلام: وإنّما أذن له -أي: لرسوله-.
والسّاعةُ: مقدارٌ من الزمان، والمراد به: يوم الفتح (5).
وفي "مسند الإمام أحمد" من طريق عمرِو بنِ شعيب عن أبيه، عن
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 606).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 352).
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 44).
(5)
المرجع السابق، (1/ 198).
جدّه: أنّ ذلك كان من طلوع الشّمس إلى العصر (1).
قال في "الهدي" للإمام ابن القيّم؛ كغيره من أهل السِّيَر والمغازي: وكان صلى الله عليه وسلم قد حكم لخزاعةَ أن يبذلوا سيوفهم في بني بكر إلى صلاة العصر من يوم الفتح، ثمّ قال لهم:"يا معشرَ خُزاعَةَ! ارفعوا أيديَكُم عن القتلِ"(2).
والقصّة صحيحةٌ ثابتة، وأصلُها في "الصّحيحين"، (3) وغيرهما، فكانت مكّةُ المشرَّفَةُ في حقِّه وحقِّ مَنْ يقطنُ بمزدلفةَ من بني خزاعة في بني بكر في تلك السّاعة بمنزلة الحِل (4).
(وقد عادت حُرْمَتُها اليومَ)، وهو في يوم الفتح (كحرمتها بالأمسِ)؛ يعني: اليومَ الذي قبلَ يومِ الفتح؛ أي: عاد تحريمها كما كانت بالأمس قبل أن أحلّها اللَّه لنبيّه.
زاد في حديث ابن عبّاس الآتي: "إلى يوم القيامة"، (5) (فليبلِّغِ الشّاهدُ)؛ أي: الحاضرُ في المجلس (الغائبَ) بالنّصب على المفعوليّة-، وهو على صيغة الأمر.
وظاهرُ الأمر: الوجوبُ، فعلم منه أنّ التّبليغ واجبٌ.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 179).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 32)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 185). وانظر:"زاد المعاد" لابن القيم (5/ 68).
(3)
رواه البخاري (112)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، ومسلم (1355)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).
(5)
سيأتي تخريجه قريبًا.
والمراد هنا: تبليغُ حرمةِ مكّة، وعدمِ إباحة القتال فيها، ويشمل بعمومه تبليغَ الأحكام الشّرعية.
والظاهر: أنّ لفظة "إلى" مقدّرة؛ أي: فليبلّغ الشّاهد إلى الغائب ما شرعه اللَّه على لسان نبيّه.
وفيه من الفقه: أنّ العالم واجب عليه تبليغُ العلم بلسانه، أو بقلمه بالكتابة لمن لم يبلغه، وتفهيمه من لا يفهمه، وحفظُ الكتاب والسّنة من التّحريف والتّصحيف، واستنباطُ الأحكام الشّرعية لمن بلغه، وإظهارُهُ لمن لا يدركه (1).
(فقيل لأبي شريح) المذكورِ: (ما قالَ لكَ) عمرو المذكور، وهو أنّ مكّة حرّمها اللَّه إلى آخره في الجواب؟ فقال:(قال) عمرو الأشدق: (أنا أعلمُ بذلك)؛ يعني: بحرمة مكّة وتحريمها (منك يا أبا شريح)؛ يعني: إنك والٍ صحَّ سماعُك، وعلمت محبتك، فلم تفهم المراد من الحديث (إنّ الحرمَ لا يُعيذُ) -بضم المثنّاة تحت وبالذال المعجمة-؛ أي: لا يجير (عاصيًا) يشير إلى عبد اللَّه بن الزّبير رضي الله عنهما؛ لأنّ عمرَو بنَ سعيد الأشدق كان يعتقد أنّه عاصٍ بامتناعه عن امتثال أمرِ يزيد؛ لأنّه كان يرى وجوبَ طاعته، لكنها دعوى من عمرٍو مجردّة عن الدّليل؛ لأنَّ ابنَ الزّبير رضي الله عنه لم يفعلْ ما يوجبُ استحلالَ دمه، وذلك أنّ ابنَ الزّبير رضي الله عنهما امتنعَ من مبايعة يزيدَ بنِ معاوية، واعتصمَ بالحرم.
وكان عمرو واليَ يزيدَ على المدينة -كما تقدّم-.
والقصة مشهورة، وملخَّصُها كما في "الفتح": أَنّ معاويةَ عهدَ بالخلافة
(1) انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 349).
بعدَه ليزيدَ ابنِه، فبايعه النّاسُ إلا سيدَنا الحسينَ بنَ علي، وابنَ الزّبير، وعبدَ الرّحمن بنَ أبي بكر، وعبدَ اللَّه بنَ عمرَ -رضوان اللَّه عليهم-.
فأمّا ابنُ أبي بكرٍ، فمات قبل موتِ معاوية.
وأمّا ابنُ عمر: فبايع ليزيدَ عقبَ موتِ أبيه.
وأمّا الحسينُ بنُ علي -رضوان اللَّه عليهما-، فسار إلى الكوفة؛ لاستدعائهم إيّاه ليبايعوه، فكان ذلك سبب قتله.
وأمّا ابنُ الزّبير، فاعتصمَ بالحرم، وتَسَمَّى: عائذَ البيت، وغلب على أمر أهل مكّة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهّزوا إليه الجيوش.
فكان آخر ذلك أنّ أهل المدينة أجمعوا على خلع يزيد من الخلافة (1).
قال عمرٌو الأشدق: (ولا) يعيِذُ الحرمُ (فارًّا) -بالفاء-؛ من الفرار؛ أي: ولا هاربًا (بدمٍ، ولا فارًا بخُرْبةٍ) -بضم الخاء المعجمة وفتحها، وسكون الرّاء وفتح الموحدة-؛ أي: بسبب خربة.
ثمّ قال الحافظ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: (الخربة بـ) بفتح (الخاء المعجمة)(و) إسكان (الرّاء المهملة) وموحدة (قيل:) هي (التُّهمة).
(وقيل): هي (البليّة).
(وقيل): هي (الخيانة).
وفي بعض نسخ البخاري: قال أبو عبد اللَّه -يعني: نفسه-: خربة: بليّة (2).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(2/ 651)، عقب حديث (1735).
وفي "الفتح": الخربة: السّرقة، كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي.
قال ابن بطّال: الخُربة -بالضّم-: الفساد، و-بالفتح-: السّرقة (1).
قال الحافظ المصنّف رحمه الله، ورضي عنه-:(وأصلها) يعني: هذه اللفظة التي هي الخربة (في سرقة الإبل، قال الشّاعر: والخاربُ اللِّصُّ يحبُّ الخاربا)، (2) انتهى.
وفي "المطالع": قوله: ولا فارًا بخربة -بضم الخاء- ضبطه الأصيلي، وضبطه غيره -بالفتح-، وكذا قيدناه في "صحيح مسلم" بلا خلاف. وصوّب بعضُهم الفتح.
وفي كتاب: الحج من "البخاري": الخربة: البليّة، ومثله في رواية الهمداني.
وفي رواية المستملي: يعني: السّرقة.
وفي روايته في كتاب "المغازي": البليّة.
وقال الخليل: الخربةُ -بالضّم-: الفساد في الدّين (3)، وهو من الخارب، وهو اللصُّ المفسد في الأرض، ولا يكاد يُستعمل إلّا في سارق الإبل.
وقال غيره: الخَربة -بالفتح-: السرقة، وقيل: العيب.
وأمّا الخِرابة -بخاء معجمة-: فهي سرقةُ الإبل خاصة، وبالحاء
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198).
(2)
ذكره الخطابي في "غريب الحديث"(2/ 266)، والمبرد في "الكامل"(2/ 937).
(3)
انظر: "العين" للخليل (4/ 256)، (مادة: خرب).
المهملة: في كل شيء، انتهى (1). واللَّه تعالى الموفّق.
قال في "الفتح": وقد تصرّف عمرٌو في الجواب، وأتى بكلامٍ ظاهرُه حقٌّ، لكن أراد به الباطلَ؛ فإنَّ الصَّحابيَّ أنكرَ عليه نصب الحرب على مكّة، فأجابه: بأنّها لا تمنع من إقامة القصاص، مع أنّ ابن الزّبير لم يرتكب أمرًا يجب عليه فيه شيءٌ من ذلك، انتهى (2).
وفي رواية الإمام أحمد في آخر هذا الحديث: قال أبو شريح: فقلت لعمرٍو: قد كنتُ شاهدًا، وكنتَ غائبًا، وقد أُمرنا أن يبلِّغَ شاهدُنا غائبنا، وقد بلغتك (3).
وهو يشعر بأنّه لم يوافقه، فيندفع قول ابن بطّال: إنّ سكوتَ أبي شريحٍ عن جواب عمرٍو دليلٌ على أنّه رجع إليه في التّفصيل المذكور، بل إنّما ترك أبو شريح مشاققته؛ لعجزه عنه؛ لما كان فيه من قوّة الشّوكة (4).
وليس كلام عمرٍو الأشدقِ لطيمِ الشّيطان بحديثٍ يحتجُّ به.
قال في "الفتح" في عمرو الأشدق: وليست له صحبة، ولا كان من التّابعين بإحسان، انتهى (5). أي: بل هو من سيىء التّابعين، واللَّه أعلم.
* * *
(1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 231).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198 - 199).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 32).
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198).