الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّخَعِيِّ: أَنّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسعُودٍ، فَرآهُ يَرْمِي الجَمْرَةَ الكُبْرَى بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَجَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنَى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البقَرَةِ صلى الله عليه وسلم (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1660)، كتاب: الحج، باب: رمي الجمار من بطن الوادي، و (1661)، باب: رمي الجمار بسبع حصيات، و (1662)، باب: من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، و (1663)، باب: يكبر مع كل حصاة، ومسلم (1296/ 305 - 309)، كتاب: الحج، باب: رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وأبو داود (1974)، كتاب: المناسك، باب: في رمي الجمار، والنسائي (3070 - 3073)، كتاب: الحج، باب: رمي الرعاة، والترمذي (901)، كتاب: الحج، باب: ما جاء كيف ترمى الجمار، وابن ماجه (3030)، كتاب: المناسك، باب: من أين ترمى جمرة العقبة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 371)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 398)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 42)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 81)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1060)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 581)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 88)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 247)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 210)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 143).
(عن عبدِ الرحمنِ) بنِ يزيدَ بن قيس، يكنى: أبا بكر، أخو الأسود (النَّخَعِيِّ)، يعدُّ في الطبقة الأولى من تابعي الكوفيين.
روى عن ابن مسعود، وسمع عثمان بن عفان رضي الله عنهما.
وروى عنه: إبراهيم بن مهاجر، وابن إسحاق.
حديثه في الكوفيين، ومات في الجماجم، وهي سنة ثلاث وثمانين على الأرجح -رحمه الله تعالى- (1).
(أنَّه)؛ أي: عبدُ الرحمن بن يزيد النخعي: (حجَّ مع) عبد الله (بنِ مسعود) رضي الله عنه، (فرآه)؛ أي: رأى عبدُ الرحمن بنُ يزيدَ عبدَ الله بن مسعود (يرمي الجمرة الكبرى)، وهي جمرة العقبة.
والجمرة في الأصل: النارُ المتقدة، والحصاة، وواحدة جمرات المناسك (2).
قال القرافي من المالكية: الجِمار: اسمٌ للحصى، لا المكان، والجمرةُ: اسم للحصاة، وإنما سمي الموضع جمرة باسم ما جاوره، وهو اجتماع الحصى فيه (3).
(بسبع حصيات)، فلا يجزىء بخمس، ولا بستٍّ، وهذا قول
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 121)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 363)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 299)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 111)، و"تهذيب الكمال" للمزي (18/ 12)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 78)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 267).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 469)، (مادة: جمر).
(3)
ونقله الزرقاني في "شرح الموطأ"(2/ 490).
الجمهور، خلافًا لعطاء في الإجزاء بالخمس، ومجاهد بالست (1)، وقال به الإمام أحمد في رواية مرجوحة.
قال في "الإنصاف": في عدد الحصى روايتان: إحداهما: سبعٌ، وهي المذهب، وعليها الأصحاب (2).
قلت: وقطع في "الإقناع"(3)، و"المنتهى"(4) بذلك، وهو المذهب الذي لا يعدل عنه، حتى قال في "الإقناع": فإن أخلَّ بحصاة من الأولى، لم يصحَّ رميُ الثانية، وإن جهل محلَّها، بنى على اليقين (5).
واستدل لقول عطاء ومجاهد، ومرجوح روايتي الإمام أحمد بحديث النسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجة مع النّبي صلى الله عليه وسلم، وبعضُنا يقول: رميت بسبع، وبعضُنا يقول: رميتُ بستٍّ، فلم يعبْ بعضهم على بعض، (6) وحديث أبي داود، والنسائي أيضًا عن أبي مجلز، قال: سألتُ ابنَ عباس رضي الله عنهما عن شيء من رمي الجمار، قال: ما أدري رماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بستٍّ أو سبع (7).
وأجيب: بأن حديث سعد ليس بمسند، وحديث ابن عباس ورد على
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 248).
(2)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 46).
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 27).
(4)
انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 166).
(5)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 27).
(6)
رواه النسائي (3077)، كتاب: المناسك، باب: عدد الحصى التي يرمي بها الجمار.
(7)
رواه أبو داود (1977)، كتاب: المناسك، باب: في رمي الجمار، والنسائي (3078)، كتاب: المناسك، باب: عدد الحصى التي يرمي بها الجمار.
الشك، وشكُّ الشاكِّ لا يقدح في جزم الجازم (1).
(فجعل) عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه (البيتَ) الحرام (عن يساره، و) جعل (منى)، وهي ما بين وادي مُحَسِّر وجمرة العقبة (عن يمينه)، فرماها من بطن الوادي مستقبلَ الجمرة.
وفي لفظ الترمذي: لما أتى عبدُ الله جمرةَ العقبة، استبطنَ الوادي (2)، فقال عبدُ الرحمن بن يزيد لابن مسعود رضي الله عنه: يا أبا عبد الرحمن! إن ناسًا يرمونها -أي: جمرةَ العقبة- يومَ النحر من فوقها، فقال (3)، وفي رواية في "الصّحيحين":(ثم قال)، وفي لفظ: وقال (4): (هذا مقامُ الذي أُنزلَتْ عليه سورة البقرة)؛ أي: النّبي (صلى الله عليه وسلم).
وفي لفظ: هذا رمي الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم (5).
وفي لفظ: فقال ابن مسعود: والذي لا إله غيرُهُ! هذا مَقامُ الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم (6) -بفتح ميم مَقام-: اسمُ مكان من قام يقوم؛ أي: هذا موضعُ قيامِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخصَّ سورة البقرة، لمناسبتها للحال؛ لأن معظم المناسك مذكور فيها، خصوصًا ما يتعلق بوقت الرمي، وهو قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وهو من باب التلميح، فكأنه قال: من هنا رمى مَنْ أُنزلت عليه أمور المناسك، وأُخذ عنه
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 248).
(2)
تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (901).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1660).
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1296/ 307).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1661) إلا أنه قال: "هكذا رمى" بدل "هذا رمي".
(6)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1660)، ومسلم برقم (1296/ 305).
أحكامها، فهو أولى وأحق بالاتباع ممن رمى الجمرة من فوقها (1).
تنبيهات:
أحدها: يأخذ الحاج حصى الجمار من مُزْدَلفة، أو من طريقه قبل أن يصل إلى منى، ومِنْ حيثُ أخذه جازَ، ويُكره من منى، ويكره تكسيره، ويكون أكبرَ من حِمِّص، ودونَ البندق، كحصى الخذف، فلا يجزىء صغير جدًا، ولا كبير، ويجزىء مع الكراهة نجس، فإن غسله، زالت الكراهةُ، وعدده سبعون حصاة على معتمد المذهب، وعليه أئمة علمائنا.
فإذا وصل إلى منى، بدأ بجمرة العقبة راكبًا إن كان، وإلا ماشيًا؛ لأنها تحيةُ منى، فيرجمها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، وذلك بعد طلوع الشمس ندبًا، فإن رمى بعد نصف ليلة النحر، أجزأ، وفاقا للشافعي، وإن غربت الشمس، فبعد الزوال من الغد، فإن رماها دفعة واحدة، لم تجزئه إلا عن حصاة واحدة، ويؤدَّب، نص عليه الإمام أحمد.
ويشترط العلمُ بحصول الحصاة في المرمى في سائر الجمرات، ولا يجزىء وضعها، بل طرحها، ويكبر مع كل حصاة، ويقول: اللهم اجعَلْه حَجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملًا مشكورًا، ويرفع الرامي يُمناه حتى يُرى بياضُ إبطه، ويرميها على حاجبه الأيمن، وله رميها من فوقها، ولا يقف عندها، ويقطع التلبية مع أول حصاة (2).
ونقل النووي في "شرح مسلم" عن الإمام أحمد: أنه لا يقطع التلبية حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة (3).
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 247).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 22 - 23).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 27).
الثاني: قال القرافي: الأُولى من الجمرات هي التي تسمى: الجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد الخَيْف، ومن بابه الكبير إليها ألفُ ذراع، ومئتا ذراع، وأربعة وخمسون ذراعًا، وسدس ذراع، ومنها إلى الجمرة الوسطى مئتا ذراع، وخمسة وسبعون ذراعًا، ومن الوسطى إلى جمرة العقبة مئتا ذراع، وثمانية أذرع، كل ذلك بذراع الحديد، انتهى (1).
وقد امتازت جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأنها لا يوقف عندها، وترمى ضحًى، ومن أسفلها استحبابا (2).
وقد اتفقوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه أو يساره، أو من فوقها أو من أسفلها، وإنما الاختلاف في الأفضل (3).
الثالث: رميُ الجمرات الثلاث في أيام منى، وهي أيام التشريق، كلَّ يوم بعدَ الزوال، إلا السقاة والرعاة، فلهم الرميُ ليلًا ونهارًا كما يأتي.
فإن رمى غيرُهم قبلَ الزوال، لم يجزئه، فيعيده.
وآخرُ وقتِ رمي كلِّ يوم إلى المغرب، ويستحب قبل صلاة الظهر، وأَلَّا يدع الصلاة مع الإمام في مسجد منى، وهو مسجد الخَيف، فيرمي كل جمرة بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، فيبدأ بالجمرة الأولى، فيجعلها عن يساره ويرميها، ثم يتقدم قليلًا لئلا يصيبه الحصى، فيقف فيدعو الله
(1) نقله القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 246)، والزرقاني في "شرح الموطأ"(2/ 490).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 580).
(3)
المرجع السابق، (3/ 582).
رافعًا يديه، ويطيل، ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها، ويستقبل القبلة في الجمرات.
وترتيبُها شرط، بأن يرمي الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم العقبة، فإن نَكَسه، لم يجزئه، وإن أخلَّ بحصاة من الأولى، لم يصح رميُ الثانية، ثم يرمي في اليوم الثاني والثالث كذلك.
وإذا أخر الرمي كلَّه مع رمي يوم النحر، فرماه آخرَ أيام التشريق، أجزأه أداءً؛ لأن أيامَ الرمي كلَّها بمثابة اليوم الواحد، وكان تاركًا الأفضل، ويجب ترتيبه بنية، وكذا لو أخر رمي يوم أو يومين.
وإن أخره كله، أو جمرة واحدة عن أيام التشريق، أو تركَ المبيت بمنى ليلة أو أكثرَ، فعليه دم، ولا يأتي به كالبيتونة.
وفي ترك حصاة ما في شَعْرة، وفي حصاتين ما في شَعْرتين، وثلاثٍ دمٌ.
ولكل حاج -ولو أراد الإقامة بمكة- التعجيلُ إن أحبَّ، إلا الإمامَ المقيمَ للمناسك، فليس له التعجيلُ، لأجل من يتأخر، فإن أحبَّ أن يتعجَّل في ثاني التشريق، وهو النفرُ الأول، خرج قبل غروب الشمس، ولا يضر رجوعه، وليس عليه في اليوم الثالث رمي.
قال علماؤنا: ويدفن بقية الحصى في المرمى (1).
قال في "الفروع": ويدفن بقية الحصى في الأشهر، زاد بعضهم: في المرمى.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 27 - 29).
وفي "منسك ابن الزاغوني"(1) أحدِ أئمة المذهب: أو يرمي بهن، كفعله في اللواتي قبلهن (2).
وقال علماء الشافعية: فإن نفرَ في اليوم الثاني قبلَ الغروب، سقطَ رميُ اليوم الثالث، وهو إحدى وعشرون حصاة، ولا دمَ عليه ولا إثمَ، فيطرحها.
قالوا: وما يفعله الناس من دفنها لا أصلَ له.
قال القسطلاني: وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وعليه أصحاب أحمد (3).
وفي قولهم في دفن الحصى: لا أصل له، فيه ما تقدم.
فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت والرمي من الغد بعد الزوال، ثم ينفر، وهو النفر الثاني.
ويُسن إذا نفر من منى نزولُه بالأبطح، وهو المحصَّب، وحدُّه ما بين الجبلين إلى المقبرة، فيصلي به الظهرين والعشاءين، ويَهْجَع يسيرًا، ثم يدخل مكة -شرفها الله تعالى- (4).
الرابع: حدُّ منى من جمرة العقبة إلى وادي مُحَسِّر.
(1) هو كتاب: "مناسك الحج" للإمام الفقيه المحدث أبي الحسن علي بن عبيد الله بن نصر الزاغوني، المتوفى سنة (527 هـ)، أحد أعيان المذهب الحنبلي. انظر:"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (1/ 180)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 974).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 383).
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 248).
(4)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 29).
وذكر الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا سأله: لمَ سُميت منى؟ فقال: لِما يقع فيها من دماء الذبائح وشعورِ الناس، تقرُّبًا إلى الله تعالى، وتمنيًا للأمان من عذابه.
وقال ابنُ فارس اللغويُّ: مِنَى: من قولك: منى الشيءَ وقدَّره؛ أي: قدَّر فيها النحر (1).
وفي "المطلع": مِنَى -بكسر الميم وفتح النون مخففة بوزن رِبَا-.
قال أبو عبيد البكري: تُذكر وتؤنث، فمن أنث، لم يُجْرِهِ؛ أي: لم يصرفه.
وقال الفَرَّاء: الأغلبُ عليه التذكير، وقال العرجي في تأنيثه:[من البسيط]
لَيَوْمُنَا بِمَنًى إِذْ نَحْنُ نَنْزِلُهَا
…
أَشَدُّ مِنْ يَوْمِنا بالعَرْجِ أَوْ مِلْك
وقال أبو دَهْبَل في تذكيره: [من البسيط]
سَقَى مِنًى ثُمَّ رَوَّاهُ وَسَاكِنَهُ
…
وَمَا ثَوى فِيهِ وَاهِي الوَدْقِ مُنْبَعِقُ (2)
وقال الحازمي في "أسماء الأماكن": مِنَّى -بكسر الميم وتشديد النون-: الصُّقْعُ قربَ مكة.
قال صاحب "المطلع": ولم أرَ هذا لغيره، والصوابُ الأول، انتهى (3).
وفي "القاموس": ومِنَى؛ كإلى: قريةٌ بمكة، ويُصرف، سُميت بمنى: لِما يُمْنى بها من الدماء.
(1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 115).
(2)
انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (4/ 1263).
(3)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 194 - 195).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها سميت بمنى؛ لأن جبريل عليه السلام لما أراد أن يفارق آدمَ، قال له: تَمَنَّ، قال: أتمنى الجنة، فسميت منى لأمنية آدم عليه السلام (1).
وتقدم في الحديث الأول من هذا الباب لها ذكر، والله أعلم.
الخامس: في أصل رمي الجمار.
قال ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": قال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من البيت، أتاه جبريل، فأراه الطوافَ، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطانُ، فأخذ جبريلُ سبعَ حَصيات، وأعطى إبراهيمَ سبعًا، وقال له: ارم وكَبِّرْ، فرميا وكَبَّرا مع كل رمية حتى غابَ الشيطانُ، ثم أتى به الجمرةَ القصْوى، ففعلا كذلك.
قال ابن الجوزي: هذا الأصلُ في شروع الرمي، كما أن الأصل في شروع السعي سعيُ هاجرَ بين الصفا والمروة، وذكرَ أصلَ الرمل، ثم قال: ثم زالت تلك الأشياء، وبقيت آثارها وأحكامها.
قال: وربما أشكلت هذه الأمور على من يرى صورها ولا يعرف أسبابها، فيقول: هذا لا معنى له.
قال: فقد بينتُ لكَ الأسباب من حيث النقل.
قال: وها أنا أُمهد لك من المعنى قاعدةً تُمِرُّ عليها ما جاءك من هذا:
اعلم أن أصل العبادة معقول، وهو ذل العبد لمولاه بطاعته، فإن الصلاة فيها من التواضع والذل ما يفهم منه التعبُّد، وفي الزكاة إرفاقٌ ومواساةٌ يفهم
(1) رواه الأزرقي في "أخبار مكة"(2/ 180). وانظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1721)، (مادة: مني).
معناه، وفي الصوم: كسرُ شهوة النفس، لتنقاد طائعةً إلى مخدومها، وفي تشريف البيت، ونصبه مقصدًا، وجعلِ ما حواليه حرمًا تفخيمًا له، وإقبالِ الخلق شعثًا غبرًا كإقبال العبد إلى مولاه ذليلًا معتذرًا أمر مفهوم، والنفس تأنس من التعبد بما تفهمه، فيكون ميلُ الطبع إليه مُعينًا على فعله، وباعثًا، فوظفت لها وظائف لا تفهمها ليتم انقيادها، كالسعي والرمي، فإنه لا حظَّ للنفس في ذلك، ولا أنسَ فيه للطبع، ولا يهتدي العقل إلى معناه، فلا يكون الباعث إلى امتثال الأمر فيه سوى مجردِ الأمر، والانقيادِ المحض، وبهذا الإيضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة، انتهى (1).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رمي الجمار: فالشيطانَ ترجمون، وملةَ أبيكم تتبعون، رواه البيهقي (2).
فائدة:
قال ابن الجوزي: ربما قال قائل: نحن نعلم أن الحاج خلق كثير، ويحتاج كلُّ واحد منهم أن يرمي سبعين حصاة، وهذا من زمن إبراهيم عليه السلام، والمرمى مكان صغيرٍ، ثم لا يجوز أن يرمي بحصاة قد رُمي بها، وترى الحصى في المرمى قليلًا، فما وجه ذلك؟
فالجواب: ما روي عن سعيد بن جبير: أنه قال: الحصى قُربان، فما قُبل منه، رُفع، وما لم يُقبل، بقي (3).
(1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 117 - 118).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 153). وكذا الحاكم في "المستدرك"(1713)، وغيرهما.
(3)
انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 118 - 119). والأثر: رواه الأزرقي في "أخبار مكة"(2/ 177). وكذا ابن الجوزي في: "التحقيق في أحاديث الخلاف"(2/ 153).
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: أنَّ راميَ الجِمار لا يدري أحدٌ مالَهُ حتى يُوفَّاه يومَ القيامة، رواه ابن حبان في حديث طويل (1).
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه كان قاعدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف، وأن رجلًا من الأنصار سأله عن مخرجه من بيته يؤُمُّ البيتَ الحرام، وعَدَّ المشاعرَ، فأجابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال:"إنه يُغفر له بكلِّ حصاةٍ رماها كبيرةً من الكبائرِ الموبقاتِ" رواه سعيد بن منصور (2).
ورواه ابن الجوزي عن عطاء الخراساني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا (3).
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمار، وما له فيه، فسمعتُه يقول:"تجدُ ذلكَ عندَ ربك أحوجَ ما تكونُ إليه"(4)، والله تعالى الموفق.
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(1887).
(2)
ورواه مسدد في "مسنده"(6/ 262 - "المطالب العالية" لابن حجر).
(3)
رواه ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن"(ص: 118). وكذا الفاكهي في "أخبار مكة"(4/ 295).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13479)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 28).