الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الفدية
قال الجوهري: فداه، وفاداه: إذا أعطاه فِداءَهُ، فأنقذه، وفداه بنفسه، وفَدَّاه: إذا قال له: جُعِلْتُ فِداكَ.
والفِدْية والفِداء -بكسر الفاء-، والفَدى -بفتحها-: كلها بمعنى، فإذا كُسر أوّله، يُمَدُّ ويُقصر، وإذا فُتح أوّله، قُصر (1).
وحكى صاحب "المطالع" عن يعقوب: فداءك ممدودًا مهموزًا، مثلث الفاء (2).
وذكر الحافظ في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالقَمْلُ يَتنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ:"مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى"، أوْ:"مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شاةً؟ "،
(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2453)، (مادة: فدى).
(2)
وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 149)، وانظر:"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 177)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.
فَقُلْتُ: لَا، قال:"فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ"(1).
وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1721)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: الإطعام في الفدية نصف صاع، واللفظ له، و (4245)، كتاب: التفسير، باب:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196]، ومسلم (1201/ 85 - 86)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، والترمذي (5/ 212) عَقِبَ حديث (2973)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، وابن ماجه (3079)، كتاب: المناسك، باب: فدية المحصر، من طريق عبد اللَّه بن معقل، عن كعب بن عجرة، به.
(2)
رواه البخاري (1722)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: النسك شاة، واللفظ له، و (1719)، باب: قول اللَّه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} إلى قوله: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، و (3927)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، و (3954 - 3955)، باب: غزوة الحديبية، و (5341)، كتاب: المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول، و (5376)، كتاب: الطب، باب: الحلق من الأذى، و (6330)، في أول كتاب: كفارات الأيمان، ومسلم (1201/ 80 - 83)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، والنسائي (2851)، كتاب: الحج، باب: في المحرم يؤذيه القمل في رأسه، والترمذي (953)، كتاب: المناسك، باب: ما جاء في المحرم يحلق رأسه في إحرامه ما عليه، و (2973 - 2974)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، من طريق مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، به.
وقد رواه مسلم أيضًا (1201/ 84)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، وأبو داود (1856)، كتاب: المناسك، باب: في الفدية، من طريق أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، به. =
(عن عبدِ اللَّه بنِ مَعْقِل) -بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف-، يكنى: أبا الوليد.
ومعقلٌ هو: ابنُ مُقَرِّنٍ -بضم الميم وفتح القاف وكسر الرّاء المشدّدة- المدنيُّ ثمّ الكوفيُّ الرّبعيُّ التّابعيُّ، سمع: ابنَ مسعود، وثابتَ بنَ الضّحاك، وكعبَ بنَ عُجْرَة، وعديَّ بنَ حاتم، وعليَّ بن أبي طالب، وغيرهم.
روى عنه: عبدُ اللَّه بن السّائب، وأبو إسحاق الشّيباني، وزياد بن أبي مريم، وغيرهم.
أخرج له الجماعة (1).
(قال: جلستُ إلى كعبِ بنِ عُجْرَةَ) -بضم العين المهملة وسكون الجيم وبالرّاء-، تقدّمت ترجمته في باب التشهد من كتاب الصّلاة رضي الله عنه؛ أي: انتهى جلوسي إليه.
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 187)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 212)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 287)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 118)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 21)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 962)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 201)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 13)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 155)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 288)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 196)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 77).
(1)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 175)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 195)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 169)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 35)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 169)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 212).
وفي رواية مسلم من طريق غُنْدَرٍ عن شعبةَ: وهو في المسجد (1).
وفي رواية الإمام أحمد عن بَهْزٍ: قعدتُ إلى كعبِ بنِ عُجرةَ في هذا المسجد (2).
وزاد في رواية سليمان بن قرم، [عن ابن الأصبهاني] (3): يعني: مسجد الكوفة (4).
(فسألتُه عن الفديةِ) المذكورة في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196].
(فقال: نزلت)؛ أي: الآيةُ المرخِّصَةُ لحلقِ الرّأس (فِيَّ) -بكسر الفاء وتشديد الياء- (خاصَّةً، وهي)؛ أي: الفدية (لكم) معشرَ المسلمين (عامّةً).
فيه دليلٌ على أنّ العامَّ إذا وردَ على سببٍ خاصٍّ، فهو على عمومه، فالعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوصِ السّبب.
لكن لا يسوّغ إخراج ما نزلت بخصوصه بالتّخصيص؛ ولهذا قال: نزلت فيَّ خاصّة (5).
ثمّ بيّنَ كعبٌ رضي الله عنه سببَ النزول، فقال:(حُمِلْتُ) -بضم الحاء المهملة وكسر الميم المخفّفة، مبنيًّا للمفعول- (إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1201/ 85).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 242).
(3)
في الأصل: "الأعرابي"، والصواب ما أثبت.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 243). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 17).
(5)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 288).
والقملُ) جمع قَمْلَة، وقد قَمِلَ رأسُه -بالكسر- قملًا (1)، وكنية القملة: أُمُّ عُقبة، وأُمُّ طلحة.
والقمل المعروف يتولّد من العرق والوسخ.
قال الجاحظ: وربّما كان الإنسان قَمِلَ الطّباع، وإن تنظَّفَ وتعطَّر وبدَّل الثيابَ؛ كما عرض لعبدِ الرحمن بنِ عوف، والزّبير بنِ العوّام رضي الله عنهما حينَ استأذنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير، فأذن لهما فيه (2)، إذ لولا الضّرورةُ، ما أذنَ لهما في ذلك؛ لما جاء في لبسِه من الوعيد الشّديد (3).
(يتناثر) من رأسي (على وجهي) جملة حاليّة، (فقال) صلى الله عليه وسلم لما رآني على تلك الحالة:(ما كنتُ أُرى) -بضم الهمزة-؛ أي: ما كنت أظنّ (الوجعَ بلغَ بك ما أَرى) -بفتح الهمزة-، أي: أُبصر بعيني.
(أو) قال: (ما كنتُ أرى) -بضم الهمزة-؛ أي: أظنّ (الجَهْدَ) -بفتح الجيم-؛ أي: المشقّة.
قال النّووي؛ (4) كالقاضي عياض (5) عن أبي بكر بن دريد: ضَمُّ الجيم لغةٌ من المشقّة أيضًا.
(1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 282).
(2)
رواه البخاري (2762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحرير في الحرب، ومسلم (2076)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
انظر: "الحيوان" للجاحظ (5/ 372).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 199).
(5)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 161).
وقال صاحب "العين": -بالضم-: الطّاقة، -وبالفتح-: المشقّة (1).
(بلغَ بكَ ما أَرى) -بالفتح-.
والشّكُّ من الرّاوي: هل قال: الوجع، أو الجهد؟
وفي رواية: "يبلغ" -بصيغة المضارع- (2).
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم لكعب: (أتجدُ)؛ أي: هل تجد (شاة؟)، وهي الواحدةُ من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضّأن والمعز (3)، قال كعب:(فقلتُ: لا) أجدُها، (قال). وفي لفظٍ: فقال -بفاء قبل القاف- (4)؛ يعني: النّبيَّ صلى الله عليه وسلم: (فصمْ ثلاثةَ أيّام) بيانٌ لقوله: {مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196]، (أو أَطْعِم ستة مساكين) -بكسر عين أطعِم-، وهو بيان لقوله تعالى:{أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196](لكل مسكين) من السّتة (نصفَ صاع) بنصب نصف.
زاد مسلم: نصفَ صاع، كرّرها مرّتين (5).
والصّاع: أربعةُ أمداد. والمدُّ: رطلٌ وثلثٌ.
(وفي رواية) في "الصّحيحين": عن كعب بن عجرة رضي الله عنه:
(1) انظر: "العين" للخليل (3/ 386)، (مادة: جهد). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 288).
(2)
هي رواية الحموي والمستملي، كما ذكر القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 288).
(3)
وقد تقدم التعريف بها فيما سبق.
(4)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(5)
كذا نقله الشارح رحمه الله عن القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 288). ولم أقف عليه مكررًا في "صحيح مسلم"، واللَّه أعلم.
أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رآه ورأسُه يتهافَتُ قملًا، فقال:"أيؤذيك هوامك؟ "، قال: نعم، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وهو بالحديبية. ولم يتبيّنْ لهم أنّهم يحلُّون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل اللَّه الفدية (1)، (فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يطعم فَرَقًا) -بفتح الرّاء-، والمحدّثون يسكنونها، وهو ستة عشر رطلًا، وهو ثلاثة آصُعٍ (2)(بين ستّة) مساكين.
(أو يُهْدِيَ شاةً) -بضم أوّله منصوبًا- عطفًا على: أن يطعم، (أو يصومَ ثلاثةَ أيام).
وفي هذا الحديث: أنّ السّنة مبيِّنة لمجمَلِ القرآن، لإطلاق الفدية فيه، وتقييدها بالسّنة.
وتحريمُ حلقِ الرّأس على المحرم، والرّخصةُ له في [حلقه](3) إذا آذاه القملُ، أو غيره من الأوجاع.
واستنبط منه بعضُ المالكيّة: إيجابَ الفدية على من تعمَّدَ حلقَ رأسه بغير عذر؛ فإنّ إيجابها على المعذور من التّنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزمُ من ذلك التّسويةُ بين المعذور وغيره (4).
قلت: معتمد المذهب: التخييرُ بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستّة مساكين، لكلِّ مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعِ تمرٍ أو زبيبٍ أو شعير، أو ذبحُ
(1) تقدم تخريجه عندهما، وهذا لفظ البخاري.
(2)
قاله الأزهري في "تهذيب اللغة"(9/ 108)، (مادة: فرق).
(3)
في الأصل: "حلقها"، وكذا في "إرشاد الساري"(3/ 290)، والصواب ما أثبت.
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 290).
شاةٍ لمن حلق ثلاثَ شعراتٍ فأكثرَ، أو قلّم ثلاثة أظفارٍ فصاعدًا، أو غطّى رأسه، أو لبس المَخِيطَ، أو تعمّد شَمَّ الطّيبِ.
ولا فرقَ بين كونه حلقَ رأسه، ونحوه، لعذرٍ أو غيره -يعني: إلّا في الإثم- (1).
وقال الشّافعي: لا يتخيَّرُ العامدُ، بل يلزمُه الدّم، كذا نقله القسطلاني عن الشّافعي (2).
قال في "الفروع": وغيرُ المعذور مثلُه في التخيير.
نقل جعفر وغيره: كلُّ ما في القرآن (أو) فهو مخيّر، ذكره الشّيخ -يعني: الموفّق- (3).
ظاهرُ المذهب: وفاقًا لمالك والشّافعي، لأنّه تبع للمعذور، ولا يخالف أصله؛ لأنّ كلَّ كفارة خُيِّرَ فيها لعذر، خُيّر بدونه؛ كجزاء الصّيد.
ولم يخيّر اللَّه بشرط العذر، بل الشّرط لجواز الحلق.
وعن الإمام أحمد رواية مرجوحة: من غير عذر يتعيّن الدّم، فإن عدمه، أطعمَ، فإن تعذّر، صام، جزم به القاضي أبو يعلى وأصحابُه في كتب الخلاف؛ وفاقًا لأبي حنيفة، لأنّه دم يتعلق بمحظور يختص الإحرام كدم يجب بتركه رمي ومجاوزة (4).
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 569).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 290).
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 275).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 259).
تنبيهات:
الأوّل: معتمد المذهب: أنّ قدر إطعام المسكين مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعٍ من غيره، هذا المشهور في المذهب.
وفي رواية: نصفُ صاعٍ من البر؛ وفاقًا لمالك والشّافعي؛ كغير البر؛ لأنّه ليس بمنصوص عليه، فيعتبر بالتّمر والزبيب المنصوص عليهما؛ كالشّعير.
وعند الحنفية: من البر نصفُ صاع، ومن غيره صاع.
واختار شيخ الإسلام ابن تيميّة: يجزىء خبزٌ رِطلانِ عراقيّةٌ.
وينبغي أن يكونَ بأُدمٍ، وإن مما يأكله، أفضل من برٍّ وشعير (1).
الثّاني: استشكل قولُه صلى الله عليه وسلم: "أتجدُ شاة؟ "، فقلت: لا، فقال:"فصم ثلاثة أيّام"؛ لأنّ ظاهر ذلك يدلّ على التّرتيب، مع ورود الآية الشّريفة للتّخيير.
والجواب عن الحديث: بأنّ التّخييرَ هو المعمولُ به، والمعولُ عليه، والسؤالُ محمول على أنّه صلى الله عليه وسلم سأل عن النُّسك، فإن وجده، أخبره بأنّه مخيّر بين الثلاث، وإن عدمه، فهو مخيّر بين الاثنين (2).
وتقدّم أنّ مذهب أبي حنيفة: أنّه بلا عذر يتعيّن الدّم، فإن عدمه، أطعم، فإن تعذّر، صام؛ وأنّه جزم بذلك القاضي وأصحابه في كتب الخلاف من أئمة مذهبنا، واللَّه أعلم.
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 289)، نقلًا عن "شرح مسلم" للنووي (8/ 121).
الثالث: معتمد المذهب: تعلُّقُ كونِ الفدية دمًا ثلاثُ شعرات فصاعدًا؛ وفاقًا للشافعي؛ لأنّ الثّلاث جمع، واعتبرت في مواضع، كمحل الوفاق؛ بخلاف ربع الرّأس وما يماط به الأذى.
وعن الإمام أحمد: تعلّق ذلك بأربع، نقلها جماعة.
اختاره الخرقي؛ لأنّ الأربع كثير.
وذكر ابن أبي موسى رواية: في خمس، اختارها أبو بكر في "التّنبيه".
قال في "الفروع": ولا وجهَ لها.
وعند أبي حنيفة: في ربع الرّأس دمٌ، وكذا في الرّقبة كلِّها، أو الإبطِ الواحدِ، أو العانة؛ لأنّه مقصود.
وقال صاحباه: إذا حلق عضوًا، لزمه دمٌ، وإن كان أقلَّ، فطعامٌ -أي: الصّدر والسّاق، وشبهه-، وإن أخذَ من شاربه، نُسب، فيجب في ربعه قيمةُ ربعِ دمٍ.
وإن حلقَ موضعَ المحاجم، لزمه دمٌ عنده، وقالا: صدقةٌ.
وعند مالك: فيما يماط به الأذى دمٌ.
قال في "الفروع": ويتوجّه بمثله احتمال، ولم يعتبر مالكٌ العددَ، إلّا أنّه قال: إن حلق موضعَ المحاجمِ من رقبته، فعليه دمٌ؛ كمذهب أبي حنيفة.
وفي مذهب أبي حنيفة: عليه فيما دون ربع الرّأس صدقةٌ (1).
الرابع: له تقديمُ الكفّارة على الحلق؛ ككفارة اليمين قبلَ الحنث؛ (2) لوجود أحد سببي ذلك.
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 258 - 259).
(2)
المرجع السابق، (3/ 259).
وإن كرر المحظور في الإحرام؛ بأن حلق مرارًا، ونحوه، فكفارةٌ واحدة ما لم يكفّر عن الأولى.
وقال أبو حنيفة: عليه كفّارة واحدة ما دامَ في المجلس، فإن كان في مجالسَ، فكفّاراتٌ.
وقال مالك: يتداخل الوطْءُ، وما عداه لا يتداخل.
وجديدُ قولَي الشّافعي: لا تداخُل، وفي القديم: تتداخل.
وله قوله: عليه للوطْء الثّاني شاة؛ كقول أبي حنيفة.
قال في "الفروع": من كرّر محظورًا من جنسٍ؛ مثل: أن حلق، ثمّ حلقَ، أو قلّم، ثمّ قلّم، أو لبس، ثمّ لبس، ولو بمخيطٍ في رأسه، أو بدواء مطيّب فيه، أو تطيّب، ثم تطيب، أو وطىء، ثمّ وطئها، أو غيرها، ولم يكفّر عن الأوّل، فكفّارة واحدة، نصّ عليه الإمام أحمد، وعليه الأصحاب، تابعه أو فرقه.
فظاهره: لو قلّم خمسةَ أظفار في خمسة أوقات، لزمه دم، وإن كفّر للأوّل، فعليه للثّاني كفّارة (1).
فائدة:
شعر الرّأس والبدن واحد في وجوب الفدية؛ لأنّه جنس واحد كسائر البدن، وكلبسه قميصًا وسراويل، وشعر البدن كالرّأس في الفدية؛ خلافًا لداود؛ لحصول التّرفُّه به، بل أولى؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه.
وفي كل شعرة إطعامُ مسكين، نصّ عليه الإمام أحمد، وهو المذهب المعتمد عند الأصحاب.
(1) المرجع السابق، (3/ 338).
وبعضُ شعرةٍ كهي؛ لأنّه غيرُ مقدَّر بمساحة، بل كموضحة يستوي صغيرها وكبيرها.
وعند الشّافعي: في نحو الشّعرة ثلاثة أقوال:
أحدُها: ثلثُ دم.
الثّاني: إطعامُ مسكين؛ كقولنا.
الثّالث: عليه درهمٌ.
قال في "الفروع": ويتوجّه تخريجُ -يعني: لنا- كقوله الأوّل؛ لأنّ ما ضُمنت به الجملةُ، ضُمِنَ بعضُه بنسبته كصيد، واللَّه أعلم (1).
* * *
(1) المرجع السابق، (3/ 260).