الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: أَنَّهُ كانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ، فَأعيَا، فَأَرادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسر مِثْلَهُ، قَالَ:"بعْنِيهِ بأُوْقِيَّةٍ"، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ:"بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّهٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُملَانَهُ إَلَى أَهلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ، أَتَيْتُهُ بالجَمَلَ، فَنَقَذَني ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعتُ، فَأَرسَلَ فِي إِثْرِي، فَقَالَ:"أَتُرَاني مَا كَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1991)، كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير، و (2185)، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل رجل أن يعطي شيئًا ولم يبين كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه الناس، و (2275)، كتاب الاستقراض، باب: الشفاعة في وضع الدين، و (2569)، كتاب: الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (715/ 109)، واللفظ له، و (715/ 110 - 117)، (3/ 1221)، كتاب: المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه، وأبو داود (3505)، كتاب: الإجارة، باب: في شرط في بيع، والنسائي (4637 - 4641)، كتاب: البيوع، باب: البيع يكون فيه الشرط، فيصح بيع الشرط.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 140)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 291)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 501)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 30)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 169)، و"العدة في =
(عن جابر بن عبد الله) الأنصاريِّ (رضي الله عنهما: أنه)؛ أي: جابر رضي الله عنه (كان يسير على جمل)، وذلك في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محاربٍ وبني ثعلبةَ، وكانت بعد خيبر في السابعة على ما حققه الإمام ابن القيم (1) وغيره من محققي أهل السير، وبه قال الإمام البخاري (2)، لما صح أن أبا موسى الأشعري حضرها، وإنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عند فراغه من خيبر (3)، وكذا أبو هريرة رضي الله عنه (4)، كما بينت ذلك وحققته في "تحبير الوفا"، و"شرح النونية"(5).
قال جابر رضي الله عنه: (فأَعْيَا)؛ أي: كَلَّ وضَعُفَ.
قال في "القاموس": أَعيا الماشي: كَلَّ، والسَّيرُ البعيرَ: أكلَّهُ، وإبل مَعايا، ومَعايٍ: مُعْيِيَهةٌ (6).
(فأراد) جابر رضي الله عنه (أن يُسيبه)، لإعيائه وعجزه، وعدم لحوقه الركب.
وفي "مسند الإمام أحمد"، و"الصحيحين"، وغيرهما من طرق عن
= شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1156)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 243)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 315)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 214)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 433)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 7)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 282).
(1)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 252).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1512).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
وقد تقدم ذكر هذا عند الشارح رحمه الله.
(6)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1697)، (مادة: عيَّ).
جابر رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني ثعلبة، وخرجتُ على ناضِحٍ لي، فأبطأ عليَّ، وأعياني حتى ذهب الناس، فجعلت أُرقيه -أي: أصعده وأمشيه-، ويهمني شأنه، (فلحقني النبيُّ صلى الله عليه وسلم)، وفي لفظ: فأتى عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"ما شأنك؟ "، فقلت: يا رسول الله! أبطأ عليَّ جملي، فأناخ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعيرَه، فقال:"أمعكَ ماءٌ؟ "، فقلت: نعم، فجئته بقعب من ماء، فنفث فيه، ثم نضح على رأسه وظهره وعلى عجزه، ثم قال:"أعطني عصًا"، فأعطيته عصًا معي، أو قال: قطعت له عصًا من شجرة، (فدعا لي) صلى الله عليه وسلم، (وضربه) بالعصا (1)، وفي لفظ: ثم نخسه نخساتٍ، ثم قرعه بالعصا، ثم قال:"اركب"، فركبت،
(فسار سيرًا لم يسرْ مثلَه)، وفي اللفظ الآخر، قال: فخرج والذي بعثه بالحق! يواهق؛ أي: يباري ناقته صلى الله عليه وسلم، ويماشيها مواهقة ما تفوته الناقة، وجعلت أكُفُّهُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه، وجعلت أتحدث مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، ثم (قال) عليه الصلاة والسلام لجابر:(بعنيه)؛ أي: الجملَ (بأوقية)، وتقدم أنها أربعون درهمًا، قال جابر:(قلت: لا) أبيعُه، (ثم قال) صلى الله عليه وسلم ثانيًا:(بعنيه، فبعته) له صلى الله عليه وسلم (بأوقية) كما دفع أولًا، (واستثنيتُ حملانهُ)؛ أي: أن يحملني ومتاعي (إلى أهلي)؛ أي: اشترطت أن تكون في منفعةُ ظهره، بحيث يحمل متاعي الذي كان معي، وأركبه إلى المدينة -زادها الله تشريفًا-.
قال جابر رضي الله عنه: (فلما بلغتُ) على الجمل إلى أهلي، (أتيتُه) عليه الصلاة والسلام (بالجملِ، فنقدَني ثمنَه)؛ أي: أعطانيه نقدًا
(1) تقدم تخريجه عندهما، ورواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 373).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 375).
مُعَجَّلًا، (ثم رجعتُ) إلى بيتي، (فأرسل فى إِثري) -بفتح الهمزة وكسرها-؛ أي: متبعًا له بعده.
قال في "القاموس": خرج في أَثره وإِثره: بعده (1).
يعني: أرسل خلفَ جابر، فرجع إليه، (فقال) له صلى الله عليه وسلم:(أَتُرانى) -بفتح الهمزة وضم المثناة الفوقية-؛ أي: تظنني (ماكَسْتُكَ لآخذَ جملك؟).
قال في "النهاية": المُماكَسَةُ في البيع: انتقاصُ الثمن واستحطاطُه، والمنابذةُ بين المتابعين (2).
(خذ جملَكَ) باركَ الله لكَ فيه، (ودراهمَكَ [فهو] لك) أيضًا، وفي لفظ:"فخذ جملَك، فهو مالك"(3).
ووقع في رواية أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: "أتراني إنما ماكستُك لآخذ جملَكَ؟ خذ جملك ودراهمَكَ، هما لك"(4)، وهذا من كرمه صلى الله عليه وسلم، ومكارم أخلاقه، وعالي شيمه، وفيه عَلَم من أعلام النبوة، ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم (5).
ومحل موافقة الترجمة من الحديث: بيع الجمل، واستثناء حملانه إلى المدينة، وهذا من الشرط الصحيح في البيع، وهو أن يشترط البائع على مشترٍ نفعًا غيرَ وطء ودواعيه معلومًا في مبيع، كسكنى الدار المبتاعة شهرًا، أو حملان البعير المبيع إلى محل معين، وخدمة العبد المبيع مدة معلومة،
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 435)، (مادة: أثر).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 349).
(3)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (715/ 109).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 317).
(5)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 170).
على الأصح، نص عليه الإمام أحمد، وحجته الحديث المذكور (1).
وفي رواية عند مسلم: فبعتُه بخمس أواق، قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال:"ولك ظهره إلى المدينة"(2).
وقد روي في قصة جابر هذه اختلافٌ في قدر ثمن الجمل المذكور، فروي: أُوقية، وروي: أربعةُ دنانير، وروي: أوقيةُ ذهب، وروي: أربعُ أواق، وروي: خمس أواق، وروي: مئتا درهم، وروي: عشرون دينارًا، وهذا كله في رواية البخاري (3).
وروى الإمام أحمد والبزار من حديث جابر: ثلاثة عشر دينارًا (4)، هذا مع كون الثمن واحدًا، والرواة كلهم عدول (5).
قال الإسماعيلي: ليس اختلافهم في قدر الثمنِ بضارٍّ؛ لأن الغرض بيان كرم المصطفى عليه السلام، وتواضعِه وحنوِّه على أصحابه صلى الله عليه وسلم (6).
وقال القرطبي: اختلفوا في ثمن الجمل اختلافًا لا يقبل التوفيق، وتكلُّف ذلك بعيدٌ عن التحقيق، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكمٌ، وإنما يحصل من مجموع الروايات أنه باعه البعير بثمن معلومٍ بينهما، وزاده عند الوفاء زيادةً معلومة، ولا يضرُّ عدمُ التحقيق بذلك، انتهى (7).
(1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 170 - 171).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (715/ 113).
(3)
وقد تقدم تخريجه برقم (2569).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 362).
(5)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 297).
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 321).
(7)
انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 503 - 504).
تنبيهان:
الأول: تقدم أن الأوقية أربعون درهمًا، هكذا كان عرفهم في ذلك الزمان، وأما في عرف الناس بعد ذلك، فلهم اصطلاحات متباينة:
ففي عرف الحجاز: عشرة دراهم، وفي عرف أهل مصر اليوم: اثنا عشر درهمًا، وفي عرف أهل الشام: خمسون درهمًا، وفي عرف أهل حلب: ستون درهمًا، وفي عرف أهل عيتاب: مئة درهم، وفي عرف بعض أهل الروم: مئة وخمسون درهمًا، وفي مواضع: أكثر من ذلك، حتى إن موضعًا فيه الأوقية: ألف درهم (1).
الثاني: قد اختلف الفقهاء فيما دل عليه هذا الحديث، فقال الإمام أحمد، ومالك، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، وغيرهم: إذا باع من رجل دابة بثمن معلوم على أن يركبها البائع لمحل معين، يصح البيع والشرط، واحتجوا بهذا الحديث.
وقالت طائفة: البيع جائز، والشرط باطل، وهم: ابن أَبي ليلى، وروي عن أحمد في رواية مرجوحة، وأشهب من المالكية.
وقال آخرون: البيع فاسد، وهم: أبو حنيفةَ وصاحباه، والشافعيُّ، والله تعالى الموفق.
(1) وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 44).