الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لا شَرِيْكَ لَكَ".
قَالَ: وَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالعَمَلُ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1474)، كتاب: الحج، باب: التلبية، و (5571)، كتاب: اللباس، باب: التلبية، ومسلم (1184/ 19 - 21)، كتاب: الحج، باب: التلبية وصفتها ووقتها، واللفظ له، وأبو داود (1812 - 1813)، كتاب: المناسك، باب: كيف التلبية، والنسائي (2747 - 2750)، كتاب: الحج، باب: كيف التلبية، والترمذي (825 - 826)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في التلبية، وابن ماجه (2918)، كتاب: المناسك، باب: التلبية.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 173)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 43)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 41)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 176)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 266)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 88)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 15)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 925)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 198)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 88)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 409)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 172)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني =
(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أميرِ المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (رضي الله عنهما)، قال:(إن تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم).
اعلم أن التليبةَ مصدر لَبَّى تلبيةً؛ كزكَّى تزكيةً، وهو بغير همز على الأصل.
ولَبَّأ -بالهمز- لغة، والتلبيةُ: قولك لمن دعاك: لَبَّيْكَ، وفي الحج قولك:(لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ)، وهو اسم مثنى عند سيبويه وجماعة (1)؛ بقلب ألفه ياء مع المظهر، وليست تثنية حقيقة، بل هو من المثناة لفظًا، ومعناها التكثيرُ والمبالغة؛ كما في قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]؛ أي: نعمتاه عند من أَوَّلَ اليدَ بالنعمة؛ إذ نعمه تعالى لا تحصى.
وقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]؛ أي: كَرَّاتٍ كثيرةً.
وقال يونس بن حبيب النحويُّ: ليس بمثنى، إنما هو اسم مفرد، وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير؛ كَلَدَيَّ وعَلَيَّ (2)، نقول عند اتصالها بالضمير: لَدَيْكَ، وعَلَيْكَ. انتهى.
وهو منصوب على المصدر بعامل مضمَرٍ؛ أي: أجيبُ إجابة بعدَ إجابة إلى ما لا نهايةَ له (3).
وقال في "المطلع": حكى أبو عُبيد عن الخليل: أن أصل التلبية:
= (3/ 114)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 52).
(1)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 168).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114)، نقلًا عن "طرح الثثريب" للعراقي (5/ 89 - 90).
(3)
انظر: "طرح التثريب" للعراقي (5/ 90)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 409).
الإقامةُ بالمكان، يقال: ألبيت ولبيت به: إذا أقمت به، أي: إقامةً على إجابتك بعدَ إقامة (1).
والكاف للإضافة، وقيل: ليس هنا إضافة، والكافُ حرفُ خطاب، (2) ومعناه كما في "القاموس"، أي: أنا مقيم على طاعتك إلبابًا بعدَ إلباب، وإجابة بعدَ إجابة، أو معناه: اتجاهي وقصدي لك؛ من: داري تَلُبُّ داره؛ أي: تواجهها، أو معناه: محبتي لك؛ من قولهم: امرأة لَبَّةٌ: مُحِبَّةٌ لزوجِها (3).
وقال ابن عبد البر: معنى التلبية: إجابة للَّه فيما فرض عليهم من حَجِّ بيته، والإقامةِ على طاعته، فالمحرمُ بتلبيته مستجيبٌ لدعاء اللَّه إياه في إيجاب الحجِّ عليه.
قيل: هي إجابة لقوله تعالى للخليل إبراهيم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]؛ أي: بدعوة الحج، والأمر به (4).
قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": أصلُ التلبية: الإجابةُ لنداء الخليل عليه السلام، ثم ذكر بسنده عن مجاهد، قال: لما قيل لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، قال: يا رب! كيف أقول؟ [قال:] قل: يا أيها الناس! أجيبوا ربكم، فصعِد الجبل، فنادى: يا أيها الناس! أجيبوا ربكم، فأجابوه: لبيك اللهمَّ لبيك، فكان هذا أولَ التلبية (5).
(1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 169).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 170)، (مادة: لبب).
(4)
انظر: "الاستذكار"(4/ 45)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (15/ 130).
(5)
انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 81 - 82).
وفي "صحيح مسلم": أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا استوَتْ به راحلتهُ قائمةً عند مسجدِ ذي الحليفة، أَهَلَّ، فقالَ:"لبيكَ اللهمَّ لبيكَ"(1)؛ أي: يا اللَّه! أجبناك فيما دعوتنا.
وروى ابنُ أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما فرغَ إبراهيمُ من بناء البيت، قيل له:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، قال: يا ربِّ! وما يبلغ صوتي؟ قال: أَذِّنْ، ومِنِّي البلاغ، قال: فنادى إبراهيم عليه السلام: يا أيها الناس! كتب اللَّهُ عليكم الحجَّ إلى البيت العتيق، فسمعَه ما بينَ السماءِ والأرض، ألا ترونَ الناسَ يجيئون من أقصى الأرض يُلَبُّون؟ (2)
ومن طريق ابنِ جريجٍ، عن عطاء، عن ابن عباس، وفيه: فأجابوه بالتلبية من أصلابِ الرجال، وأرحامِ النساء. وأولُ مَنْ أجابه أهلُ اليمن، فليسَ حاجٌّ يحجُّ من يومِئِذٍ إلى أن تقومَ الساعةُ إلا من كان أجابَ إبراهيم عليه السلام يومئذٍ (3).
زاد غيره: فمن لَبَّى مرةً، حجَّ مرةً، ومن لبى مرتين، حَجَّ مرتين، ومن لبى أكثر، بقدر تلبيته (4).
وقد وقع في حديث مرفوع تكريرُ لفظة: "لبيك" ثلاثَ مرات.
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1184/ 20).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(14711). وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف"(31818)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(17/ 144)، والحاكم في "المستدرك"(3464)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 176).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(14712).
(4)
رَواه الديلمي في "مسند الفردوس"(5303)، من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا بسند واه كما قال السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 33).
وكذا في الموقوف، إلا أن في المرفوع الفصل بين الأولى والثانية بقوله:"اللهم"، وقد نقل اتفاق الأدباء على أن التكرير اللفظي لا يُزاد على ثلاث مرات (1).
(لَبَّيْكَ لا شريكَ لك لبيك إن الحمدَ) -بكسر الهمزة على الاستئناف-، كأنه لما قال: لبيكَ، استأنف كلامًا آخر، فقال: إن الحمدَ، و-بالفتح- على التعليل، كأنه قال: أجبتك لأن الحمد (والنعمةَ لكَ)، (2) والكسر هو منصوص الإمام أحمد رضي الله عنه، وهو أجود عند الجمهور، وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة (3)، والموفق عن الإمام أحمد (4)، وابن عبد البر عن اختيار أهل العربية (5).
وفي "المطلع": قال ثعلب من قال: "أنَّ" -بفتحها-، فقد خص، ومن قال: بكسر الألف، فقد عمَّ؛ يعني: أن من كسر، جعل الحمدَ للَّه على كلِّ حال، ومن فتحَ، فمعناه: لبيكَ لأن الحمدَ لك؛ أي: لهذا السبب، انتهى (6).
"والنعمة لك" -بكسر النون-: الإحسانُ والمِنَّةُ مطلقًا (7).
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114)، نقلًا عن طرح التثريب للعراقي (5/ 91).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114).
(3)
انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 29).
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 130)، وقال: والفتح جائز، إلا أن الكسر أجود.
(5)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 127)، وانظر:"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114)، نقلًا عن "طرح التثريب" للعراقي (5/ 91).
(6)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 169).
(7)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114).
ويجوز في "النعمة" النصبُ، وهو الأشهر؛ عطفًا على الحمد، والرفعُ على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة خبر إن، تقديره: إن الحمدَ لك، والنعمةُ مستقرةٌ لذلك.
وجَوَّزَ ابنُ الأنباري أن يكون الموجودُ خبرَ المبتدأ، وخبر إن هو المحذوف (1).
(والمُلكَ) لك -بضم الميم والنصب- عطفًا على اسم إن، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الخبر المتقدم.
ويحتمل أن يكون تقديره: والملكُ كذلك (2).
(لا شريكَ لك) في ملكك.
قال الطحاوي، (3) والقرطبي:(4) أَجمعَ العلماءُ على هذه التلبية (5).
قال في "الفروع": ولا تُستحب الزيادةُ عليها؛ خلافًا لأبي حنيفة.
ولا تكره -يعني: الزيادة-، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-؛ وفاقًا للشافعي؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد على ذلك.
وفي "الإفصاح" لابن هبيرة: تُكره الزيادةُ.
وقيل: له الزيادةُ بعدها؛ يعني: التلبية، لا فيها (6).
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه، نقلًا عن "طرح التثريب" للعراقي (5/ 91).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه، نقلًا عن المرجع نفسه.
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (2/ 125).
(4)
انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 269).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 410).
(6)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 268).
وللبخاري التلبيةُ من حديث عائشة: كابن عمر رضي الله عنهم، وليس فيه:"والملك لا شريك لك"(1).
وقد نقل المروذيُّ: كان في حديث ابن عمر: "والملك لا شريك لك"، فتركه؛ لأن الناس تركوه، وليس في حديث عائشة (2).
(قال) -يعني: نافعًا-: (وكان عبدُ اللَّه بنُ) أمير المؤمنين (عمرَ) رضي الله عنهما (يزيدُ فيها)؛ أي: في دُبُر التلبيةِ على تلبية رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم المتقدمةِ لبيك: (لبيك لبيك) ثلاثة متوالية.
وفي "الفروع": مرتين، وعزاه "للصحيحين"، ثم قال: وفي "الموطأ"، وأبي داود في زيادته لبيك ثلاث مرات، (3) ثم قال: وزاد عمر رضي الله عنه ما زاده ابنه، متفق عليه، كذا قال (4).
(وسعديك) هو من باب لبيك، فيأتي فيه ما سبق من التثنية والإفراد، ومعناه: أسعدني إسعادًا بعدَ إسعاد، فالمصدر فيه مضاف للفاعل، وإن كان الأصل في معناه: أسعدك بالإجابة إسعادًا بعد إسعاد، على أن المصدر فيه مضاف للمفعول؛ لاستحالة ذلك هنا.
وقيل: المعنى: مساعدة على طاعتك بعد مساعدة، فيكون من المضاف
(1) رواه البخاري (1475)، كتاب: الحج، باب: التلبية.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 251 - 252).
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 331)، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1812).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 251). وما ذكره العلامة ابن مفلح: أن عمر رضي الله عنه زاد في التلبية ما زاده ابنه، وعدّ ذلك من متفق الشيخين، فليس مسلّمًا؛ إذ انفرد مسلم برواية هذه الزيادة عن البخاري، وقد تقدم تخريجها برقم (1184/ 21).
للمنصوب، (1)(والخيرُ) كلُّه بأنواعه الدينية والدنيوية؛ من خيري الدنيا والآخرة على كثرة تنوعه (بيديكَ) لا يصلُ منه شيء لأحد إلا بإعطائك، فلا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ.
(والرَّغْباءُ) -بفتح الراء والمد، وبضمها مع القصر-؛ كالعَلاء، والعُلا، و-بالفتح مع القصر (2) - (إليكَ) لا إلى غيرك.
ومعناه: الطلب والمسألة؛ يعني: أنه تعالى هو المسؤول منه، فبيدِه جميعُ الأمور (والعملُ)، أي: إليك القصدُ به، والانتهاء به إليك؛ أي: لتجازي عليه (3).
تنبيهات:
الأول: زيادةُ ابنِ عمر رضي الله عنهما ليس من المتفق عليه؛ خلافًا لما تُوهمه عبارةُ المصنف، و"الفروع"، (4) ولما توهمه عبارة "جامع الأصول" لابن الأثير (5)، والحافظ المنذري في "مختصر السنن"(6)، والنووي في "شرح المهذب"(7)، والمجد ابن تيمية في "المنتقى"(8)، وغيرهم.
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115)، نقلًا عن "طرح التثريب" للعراقي (5/ 91).
(2)
قاله المازري فيما نقله عنه القاضي عياض في "إكمال المعلم"(4/ 78). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115)، نقلًا عن "شرح مسلم" للنووي (8/ 88).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 251).
(5)
انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (3/ 88 - 90).
(6)
انظر: "مختصر السنن" للمنذري (2/ 335 - 337).
(7)
انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (7/ 217).
(8)
انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد ابن تيمية (2/ 132 - 133).
وفي "مسلم": كان ابن عمر يقول: كان عمرُ بنُ الخطاب يُهلُّ بإهلالِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذكر الزيادة من قول عمر رضي الله عنه (1).
قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "جمعه بين الصحيحين": لم يذكر البخاريُّ زيادة عمر، ولا ابنِ عمر (2).
وقال [القسطلاني] في "شرح البخاري": لم يذكر البخاريُّ هذه الزيادة، فهي من أفراد مسلم (3).
ولم ينبه ابنُ دقيق العيد على ذلك (4).
الثاني: التلبيةُ سنةٌ عند الإمام أحمد، والشافعي.
قال في "الفروع": لأن الحجَّ عبادةٌ بدنية، ليس في آخرها نطقٌ واجب، فكذا أولها؛ كصوم؛ بخلاف الصلاة.
قال: ويتوجَّهُ احتمالٌ: تجبُ التلبية، والاعتبار بما نواه، لا بما سبق لسانه [إليه](5).
وعند الشافعي: أنها واجبةٌ في وجه حكاه الماوردي عن ابن خيران، وابن أبي هريرة، وأنه يجب بتركها دمٌ.
وقال الحنفية: إذا اقتصر على النية، ولم يُلَبِّ، لا يفقد إحرامه؛ لأن الحج تضمن أمورًا مختلفة فعلًا وتركًا، فأشبهَ الصلاة، فلا يحصل إلا بالذكر في أوله.
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1184/ 21).
(2)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 199)، حديث رقم (1838).
(3)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115).
(4)
في "شرح عمدة الأحكام"(3/ 15).
(5)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 217).
وقال المالكية: ولا ينعقد إلا بنية مقرونة بقول أو فعل متعلقينِ به؛ كالتلبية، والتوجُّه إلى الطريق، فلا ينعقد بمجرد النية، وقيل: ينعقد، قاله سند، وهو مروي عن مالك (1).
قال في "الفروع": الإحرام لا ينعقد إلا بنية، وللشافعي قولٌ ضعيف: ينعقد بالتلبيةِ، ونيةُ النسك كافية، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-؛ وفاقًا لمالك، والشافعي.
وفي "الانتصار" رواية: مع تلبية، أو سوق هدي؛ وفاقًا لأبي حنيفة، قال: واختارها شيخنا؛ يعني: شيخَ الإسلام ابنَ تيمية، وقاله جماعة من المالكية، وحكي قولًا للشافعي، وبعضهم حكى قولًا: يجب، وحكي عن مالك وجماعة من الشافعية: يعتبر مع النيةِ التلبيةُ (2).
والمعتمد: أن التلبيةَ سنةٌ لا تجب، ويُسن ابتداؤها عقبَ إحرامه، وذكرُ نسكه فيها، وذكرُ العمرة قبل الحج للقارن، فيقول:"لبيك عمرةً وحجًا"، والإكثارُ منها، ورفعُ الصوت بها.
ولكن لا يجهد نفسَه في رفعه زيادة على الطاقة، ولا يُندب إظهارُها في مساجد الحِلِّ وأمصارِه، ولا في طواف قدوم وسعي بعده، ويكرهُ رفعُ الصوت بها حول البيت؛ لئلا يشغلَ الطائفين عن طوافهم وأذكارهم، ويُسن الدعاءُ بعدها، فيسألُ اللَّه الجنةَ، ويعوذ به من النار؛ لما يأتي من الأخبار، ويدعو بما أحبَّ، والصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم (3).
وتتأكد التلبية إذا علا نشزًا، أو هبطَ واديًا، أو لقي رفقة، أو سمع ملبيًا،
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 113).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 217).
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 565 - 566).
وعقبَ مكتوبة، أو أتى محظورًا ناسيًا، وأولَ الليل والنهار، أو ركب، زاد في "الرعاية": أو نزل، وقاله الشافعية، ولم يقيدوا الصلاة بمكتوبة.
وفي "المستوعب": يستحب عند تنقل الأحوال به (1).
الثالث: تقدَّمَ أن معتمدَ المذهب: جوازُ الزيادةِ على تلبيةِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من غيرِ استحبابٍ ولا كراهةٍ.
لكن ينبغي أن يُفرد ما روي عنها، ثم يقرن الموقوف على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع.
قال الإمام الشافعي فيما حكاه عنه البيهقي في "المعرفة": ولا ضيقَ على أحد في مثل ما قال ابن عمر ولا غيره من تعظيم اللَّه ودعائه مع التلبية، غير أن الاختيار عندي أن يُفرد ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من التلبية (2).
إذا علمت ذلك، فقد روى الأثرم، وابن المنذر، وابن أبي شيبة: أنّه كانَ من تلبية عمر رضي الله عنه: لبيك ذا النّعماء والفضل الحسن، لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك (3).
ولمسلم، وأبي داود من حديث جابر كخبر ابن عمر: والنّاس ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئًا، ولزم تلبيته (4).
(1) انظر: "المستوعب" للسامري (4/ 72)، وانظر:"الفروع" لابن مفلح (3/ 252).
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2922).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(13472).
(4)
رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1813).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في تلبيته: "لبيكَ إلهَ الحقِّ لبيكَ"، رواه الإمام أحمد، والنّسائي، وابن ماجه، وصححه ابنُ حبّان والحاكم (1).
واستحبَّ الشّافعيّةُ إذا رأى ما يعجبه [أن يقول]: لبيك إنّ العيشَ عيشُ الآخرة؛ لرواية الإمام الشّافعي عن مجاهد مرسلًا تلبيةَ ابن عمر: حتّى إذا كان ذات يومٍ، والنّاسُ يصرفون عنه، كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيه ذلك (2).
وكذا ذكر الآجريُّ منّا: إذا رأى ما يُعجبه، قال: اللهمَّ لا عيشَ إلّا عيشُ الآخرة (3).
ويستحبُّ رفعُ صوته بالتّلبية؛ لخبر السّائبِ بنِ خلّاد: "أتاني جبريلُ، فأمرني أن آمرَ أصحابي أن يرفعوا أصواتَهم بالإهلال والتّلبية" أسانيده جيدة، رواه الخمسة، وصحّحه التّرمذي (4).
وللإمام أحمد من رواية ابن إسحاق: أنّ جبريل قال له: كُنْ عَجَّاجًا
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 341)، والنسائي (2752)، كتاب: الحج، باب: كيف التلبية، وابن ماجه (2920)، كتاب: المناسك، باب: التلبية، وابن حبان في "صحيحه"(3800)، والحاكم في "المستدرك"(1650).
(2)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده "(ص: 122)، وفي "الأم"(2/ 156).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 252).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 55)، وأبو داود (1814)، كتاب: المناسك، باب: كيف التلبية، والنسائي (2753)، كتاب: الحج، باب: رفع الصوت بالإهلال، والترمذي (829)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، وابن ماجه (2922)، كتاب: المناسك، باب: رفع الصوت بالتلبية.
ثَجَّاجًا. والعجُّ: التّلبيةُ. والثَّجُّ: نحرُ البُدْنِ (1).
وفي حديث الصّدِّيقِ الأعظمِ -رضوانُ اللَّه عليه-: أنّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل: أَيُّ الحجِّ أفضلُ؟ قال: "العَجُّ والثَّجُّ"(2).
قال الإمام أحمدُ في رواية مهنّا، وابن معين: أصلُ الحديث معروف (3).
وحديث خزيمة: أنه كان يسأل اللَّه رضوانَه والجنّةَ، ويستعيذ برحمته من النّار، إسناده ضعيف، رواه الإمام الشّافعي، والدّارقطني (4).
والصّلاةُ على النّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ التّلبية مستحبّةٌ؛ كما قدّمنا؛ خلافًا للإمام مالك؛ لقول القاسم بن محمد: كان يستحبُّ فيه ذلك صالحُ بنُ محمدِ بنِ زائدة، قوّاه الإمام أحمد، وضعّفه الجماعة، رواه الدّارقطني (5).
وكانت تلبيةُ يونُسَ بنِ مَتَّى عليه السلام: لبيكَ تفريج الكروب.
وتلبية موسى: لبيك أنا عبدُك لديكَ لبيكَ.
وتلبيةُ عيسى: أنا عبدُك وابنُ أَمَتِكَ بنتِ عبديك (6).
الرابع: يقطع المتمتّعُ والمعتمرُ التّلبيةَ إذا شرعَ في الطّواف؛ فقد روى أبو داود عن عطاء، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا: أنّه كان
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 56)، والطبراني في "المعجم الكبير"(6638)، وغيرهما.
(2)
رواه الترمذي (827)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في فضل التلبية والنحر، وابن ماجه (2924)، كتاب: المناسك، باب: رفع الصوت بالتلبية.
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 253).
(4)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 123)، والدارقطني في "سننه"(2/ 238).
(5)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 238).
(6)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115).
يمسك التّلبية في العمرة إذا استلمَ الحجرَ؛ (1) وفاقًا لأبي حنيفةَ، والشّافعيِّ.
ويقطعُها المفرِدُ أو القارِنُ إذا رمى جمرةَ العقبةَ؛ فقد روى الجماعةُ عن الفضل بنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما، قال: كنتُ رديفَ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم من جَمْعٍ إلى مِنًى، فلم يزل يُلبّي حتّى رمى جمرةَ العقبة (2).
قال علماؤنا: يقطع التّلبيةَ بأوّل حَصاةٍ.
قال الإمام أحمد: يُلبّي حتّى يرميَ جمرةَ العقبة، يقطعُ عندَ أوّل حصاة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشّافعي؛ لحديث الفضلِ في "الصّحيحين"، وغيرهما، وفي النّسائي: فلمّا رمى، قطع التّلبية (3).
ورواه حنبل: قطعَ عندَ أوّلِ حصاةٍ.
وكان ابن عبّاس بعرفةَ، فقال: مالي لا أسمع النّاس يلبّون؟ فقال سعيد بن جبير: يخافون من معاويةَ، فخرج ابنُ عبّاس من فُسطاطه، فقال: لَبَّيْكَ؛ فإنَّهم تركوا السنَّةَ من بغض علي، رواه النّسائي بإسناد جيد (4).
* * *
(1) رواه أبو داود (1817)، كتاب: المناسك، باب: متى يقطع المعتمر التلبية، والترمذي (919)، كتاب: الحج، باب: ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة.
(2)
رواه البخاري (1601)، كتاب: الحج، باب: التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة، ومسلم (1281)، كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، عن ابن عباس: أن الفضل بن عباس أخبره. .، الحديث.
(3)
رواه النسائي (3080)، كتاب: المناسك، باب: قطع المحرم التلبية إذا رمى جمرة العقبة.
(4)
رواه النسائي (3006)، كتاب: المناسك، باب: التلبية بعرفة. وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 256).