الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا"، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا الإِذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، قَالَ:"إِلَّا الإِذْخِرَ"(1). القَيْنُ: الحَدَّادُ.
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1284)، كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش في القبر، و (1736)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا ينفر صيد الحرم، و (1984)، كتاب: البيوع، باب: ما قيل في الصواغ، و (2301)، كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة، و (4059)، كتاب: المغازي، باب: من شهد الفتح، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، وأبو داود (2017)، كتاب: المناسك، باب: تحريم حرم مكة، والنسائي (2874)، كتاب: الحج، باب: حرمة مكة، و (2875)، باب: تحريم القتال فيه، و (2892)، باب: النهي أن ينفر صيد الحرم، وابن ماجه (3108)، كتاب: =
(عن) أبي العبّاسِ (عبدِ اللَّه بنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما، قال) ابن عبّاس: (قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم).
قال الحافظ ابن حجر: كذا رواه منصورُ بنُ المعتمِر، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عبّاسٍ مرفوعًا، وخالفه الأعمش، فرواه عن مجاهد، عن النّبي صلى الله عليه وسلم مرسَلًا، أخرجه سعيدُ بنُ منصور عن أبي معاوية، عنه، وأخرجه أيضًا عن سفيان، عن داود بن سابور مرسَلًا، ومنصور: ثقة حافظٌ، فالحكمُ لوصلِه، انتهى (1).
ولهذا جزم بوصله في "الصّحيحين"، وغيرهما.
(يومَ فتحِ مكة) سنة ثمان من الهجرة، و"يومَ" -بالنّصب- ظرفٌ لقال، ومقولٌ. وقوله صلى الله عليه وسلم:(لا هجرةَ) وافيةً من مكّةَ المشرّفةِ إلى المدينةِ المنوّرة بعدَ الفتح؛ لأنها صارت دار إسلام.
زاد في كتاب: الجهاد: والهجرةُ من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة (2).
= المناسك، باب: فضل مكة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (2/ 221)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 468)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 468)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 123)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 29)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 977)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 205)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 214)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 161)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 93).
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 47).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 307).
قال في "الفتح": قال الخطّابي (1) وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضًا في أوّل الإسلام على مَنْ أسلمَ؛ لقلّةِ المسلمين، وحاجتِهم إلى الدفاع، فلمّا فتح اللَّه مكّة، ودخل النّاسُ في دين اللَّه أفواجًا، سقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد، انتهى (2).
وكان من الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على مَنْ أسلمَ: أن يسلم من الأذى من أعداء الدّين، وما يلقاه من المشركين؛ فإنّهم كانوا يعذّبون المسلمين، ويؤذون المستوطنين؛ ليرجعوا عن الدّين المتين، إلى الشّرك وعبادةِ الأوثان والشّياطين.
ولكن عليكم جهادٌ في سبيل اللَّه؛ لإعلاء كلمة اللَّه، وقتالِ الكفّار من عبدة الأوثان والأحجار، ونيّة صالحة في الخير تحصّلون بهما الفضائل التي في معنى الهجرة التي كانت مفروضة؛ لمفارقة الفريق الباطل، فلا يكثر سوادهم، ولا يعانون على مرادهم.
قال أبو عبد اللَّه الأُبِّي: اختُلف في أصول الفقه في مثل هذا التّركيب يعني: قوله: لا هجرة بعد الفتح (ولكن جهادٌ ونيّة)، هل هو لنفي الحقيقة، أو لنفي صفةٍ من صفاتها؛ كالوجوب وغيره؟
فإن كان لنفي الوجوب، فهو يدلّ على وجوب الجهاد على الأعيان؛ لأنّ المستدرك هو المنفي، والمنفي وجوبُ الهجرة على الأعيان، فيكون المستدركُ وجوبَ الجهاد على الأعيان.
وإن كان المنفي في هذا التركيب الحقيقة، فالمعنى: أنّ الهجرة بعدَ
(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 235).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 38).
الفتح ليستْ بهجرة، وإنّما المطلوبُ الجهاد، والطّلب أعمُّ من كونه على الأعيان، أو على الكفاية.
قال: والمذهب: أنّ الجهادَ اليومَ فرضُ كفاية، إلّا أن يعيّن الإمامُ طائفةً، فيكون عليها فرضَ عين، انتهى (1).
وقوله: "جهاد" بالرّفع مبتدأ، خبره محذوف مقدّمًا تقديره: لكم، أو عليكم جهادٌ.
وقال الطّيبي في "شرح مشكاته": قوله: "ولكن جهاد ونيّة" عطف على محل مدخول "لا".
والمعنى: أنّ الهجرةَ من الأوطان، إمّا هجرة إلى المدينة للفرار من الكفّار، ونصرةِ الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإمّا إلى الجهاد في سبيل اللَّه، وإمّا إلى غير ذلك من تحصيل الفضائل؛ كطلب العلم، فانقطعت الأولى، وبقيت الأخريان، فاغتنموهما، ولا تقاعدوا (2)، (وإذا استنفِرْتُم) -بضم التّاء وكسر الفاء-؛ أي: طُلبتم للجهاد، (فانْفِروا) -بهمزة وصل مع كسر الفاء-؛ يعني: إن دعاكم الإمام إلى الخروج إلى الغزو، فاخرجوا إليه، ومثلُ الإمام نائبُه.
ونقل المروذي -يعني: عن الإمام أحمد-: يجب الجهادُ بلا إمام إذا صاحوا النفير.
وسأله أبو داود: بلادٌ غلب عليها رجلٌ، فنزل البلاد يغزو بأهلها، نغزو معهم؟ قال: نعم، قلت: نشتري [من] سَبْيه، قال: دع هذه المسألة، الغزو
(1) نقله القسطلاني في "إرشاد الساري"(3/ 308)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
ليس مثلَ شراء السبي، الغزو دفعٌ عن المسلمين، لا يترك لشيء (1)، ذكره في "الفروع"(2).
وذكر أنّ مَنْ حضر بلدًا، أو هو عدو، أو استنفره من له استنفاره، تعيّن عليه، ولو لم يكن أهلًا؛ لوجوبه.
وفي "البلغة": يتعيّن في موضعين: إذا التقيا، والثّاني: إذا نزلوا بلده، إلا لحاجة حفظ أهل أو مال (3).
وقال ابن دقيق العيد: ولا شكّ بأنّه قد تتعيّن الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصّور.
فأمّا إذا عيّن الإمامُ بعضَ النّاس لفرض الكفاية، فهل يتعيّن عليه؟
اختلفوا فيه، قالوا: ولعلّه يؤخذ من لفظ الحديث الوجوبُ في حقِّ من عيّن للجهاد، ويؤخذ غيره بالقياس، انتهى (4).
(وقال) صلى الله عليه وسلم في خطبةٍ (يومَ فتحِ مكّة) المشرّفة: (إنّ هذا البلدَ قد حرّمه اللَّه) عز وجل، وفي لفظٍ:"حرّم اللَّه" -بإسقاط الهاء- (5)(يومَ خلق السموات والأرض).
فتحريمُه أمرٌ قديمٌ، وشريعةٌ سالفة مستمرة، وحكمه تعالى قديمٌ لا يتقيّد بزمان، فهو تمثيلٌ في تحريمه بأقرب متَصَوَّر لعموم البشر؛ إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل، وليس تحريمه مما أحدث النّاس.
(1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود"(ص: 316).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 180).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1284).
والخليل عليه الصلاة والسلام إنّما أظهره مبلّغًا عن اللَّه لمّا رفع البيت إلى السّماء زمنَ الطوفان.
وقيل: إنّه كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السّموات والأرض: أنّ الخليل عليه السلام سيحرّم مكّة بأمر اللَّه (1).
قال ابن دقيق العيد: ظاهر هذا الحديث: أنّ إبراهيم عليه السلام أظهرَ حرمتَها بعدما نُسيت، والحرمة ثابتةٌ من يوم خلق السّموات والأرض.
وقيل: إنّ التّحريم في زمن إبراهيم، وحرمتُها يومَ خلق السّموات والأرض: كتابتُها في اللّوح المحفوظ أو غيره حرامًا، وأمّا الظّهور للنّاس، ففي زمن إبراهيم عليه السلام (2).
(فهو)؛ أي: البلد الحرام (حرام)، وفي لفظ:"وهو" -بواو العطف بدل الفاء- (3).
(بحرمةِ اللَّه) تعالى؛ أي: بسبب حرمة اللَّه، ومتعلق الباء محذوف؛ أي: متلبّسًا، ونحو ذلك، وهو تأكيد للتّحريم (4)(إلى يوم القيامة).
(و) يُعلم من هذا: (أنّه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي) بلم الجازمة، والهاء ضمير الشّأن.
وفي لفظ: وأنّه لا يحل، والأوّل أنسب؛ لقوله:"قبلي"(5).
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1737).
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308).
(5)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(ولم يحلَّ لي) القتالُ فيه (إلّا ساعةً من نهار)، وتقدّم أنّها من طلوع الشّمس إلى صلاة العصر، خصوصيّة له صلى الله عليه وسلم، ولمن أطلق سيفه يومئذٍ من خزاعة في بني بكر.
وفيه إشعار أنّ مكّة فُتحت عَنْوَةً؛ كما في غيره من الأحاديث.
وانتصر له في "الهدي"(1) بما لا مزيد عليه، (فهو)؛ أي: البلد (حرامٌ بحرمة اللَّه) تعالى (إلى يوم القيامة)، أي: بتحريمه.
والفاء في "فهو" جزاءُ لشرط محذوف، تقديره: إذا كان اللَّه كتب في اللّوح المحفوظ تحريمَهُ، ثمّ أمر خليلهُ بتبليغه أو إنهائه، فأنا أيضًا أبلّغ ذلك وأنهيه إليكم، وأقول: فهو حرام بحرمة اللَّه (2).
(لا يُعْضَدُ)؛ أي: يُقطع (شَوْكُه)؛ أي: ولا شجره بطريق الأولى، فدلّ بمنطوقه على امتناع قطع الشّوك كغيره، وهو مذهب الجمهور؛ خلافًا للشّافعي.
قال ابن دقيق العيد: قوله: "لا يُعْضدُ شوكُه" دليلٌ على أنّ قطع الشوك يمتنع كغيره، وذهب إليه بعضُ مصنّفي الشّافعية، والحديثُ معه، وإباحة غيره من حيث إنّ الشّوك مؤذ، انتهى (3).
قلت: لا احتياج إلى القياس مع وجود النّص صريحًا، واللَّه أعلم.
(ولا يُنفَّرُ صيدُه)، فإن نفّرهُ، عصى، سواء تَلِفَ، أم لا (4).
(1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 430).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308 - 309).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30).
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 309).
وفيه دليلٌ على طريق فحوى الخطاب: أنّ قتلَه محرّم، فإنّه إذا حُرِّم تنفيرُه بأن يزعَج من مكانه، فقتلُه أولى (1).
(ولا تلتقط لقَطته) -بفتح القاف من الرّواية-، وهو الذي يقوله المحدّثون (2).
قال القرطبي: وهو غلط عند أهل اللّسان؛ لأنّه -بالسكون-: ما يُلْتَقَط، -وبالفتح-: الأخذ (3).
وفي "القاموس": واللَّقَط -محركة-، وكحُزْمَة، وهُمَزَة، وثُمَامة: ما التُقِط (4).
وقال النّووي: اللغةُ المشهورة فتحُها (5).
وفي "المطلع": اللقطة: اسمٌ لما يُلتقط، وفيها أربعُ لغات نقلَها شيخُنا أبو عبد اللَّه بنُ مالك، فقال:[من الرجز]
لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ ولُقَطَهْ
…
ولَقَطٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ
فالثلاثُ الأُول: بضم اللام، والرّابع: بفتح اللّام والقاف (6).
وروي عن الخليل: اللُّقَطة -بضم اللّام وفتح القاف-: الكثيرُ الالتقاط، و-بسكون القاف-: ما يُلتقط (7).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306).
(3)
انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 471).
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 886)، (مادة: لقط).
(5)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 127).
(6)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 282).
(7)
انظر: "العين" للخليل (5/ 100)، (مادة: لقط).
قال أبو منصور: وهو قياس اللغة؛ لأنّ فُعَلَة -بفتح العين- أكثرُ ما جاء فاعل، و-بسكونها- مفعول؛ كضُحَكَة: لكثير الضّحك، وضُحْكَة: لمن ضُحك منه، انتهى (1).
أي: لا يجوز أن تلتقط لقطة الحرم (إلّا من عرّفها) التّعريف الشّرعي، فإن التقطها وعرفها التّعريفَ الشّرعيَّ، ملكها كسائر اللقط، وهذا معتمدُ مذهبنا؛ كالحنفيّة والمالكيّة، فلا خصوصيّة للقطة الحرم.
وقال الشّافعيّة: لا يملكها، وعليه أن يعرّفها أبدًا، فلا تُلتقط لقطة الحرم إلّا لمجرد التّعريف، مستدلّين بهذا الحديث (2).
قالوا: لأنّ الكلام ورد موردَ الفضائل المختصّة بها؛ كتحريم صيدها، وقطع شجرها.
وإذا سوّينا بينَ لقطةِ الحرم ولقطةِ غيره من البلاد، بقي ذكرُ اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة، وهذا رواية عن إمامنا الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة، وجماعة من متأخري علمائنا (3).
(ولا يُخْتَلى خَلاها)؛ أي: ولا يُقطع الرّطبُ بَآلة، والخلا -بفتح الخاء المعجمة، والقصر-: الحشيشُ إذا كان رطبًا، واختلاؤه: قطُعُه (4).
قال الزمخشري في "الفائق" وحقُّ خَلاها أن يكتب بالياء، وتثنيته خليان، انتهى (5).
(1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 264).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 430).
(4)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 75).
(5)
انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (1/ 391).
أي: لأنّه من خليت -بالياء-، أما النبات اليابس، فيسمى حشيشًا (1).
لكن حكى البطليوسي عن أبي حاتم: أنّه سأل أبا عبيدةَ عن الحشيش، فقال: يكون في الرّطب واليابس، وحكاه الأزهري أيضًا (2)، ويقوّيه: أنّ في بعض طرق حديث أبي هريرة في هذا الباب: "ولا يُحْتَشُّ حَشيشُها"(3).
وقد سأل الفضلُ بنُ زياد الإمامَ أحمد عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يُخْتَلَى خَلاها"، فقال: لا يحتش من حشيش الحرم، ولا يعضد شجره (4).
قال في "الفروع": يحرم قلعُ شجرِ الحرم إجماعًا، ونباته، حتّى الشّوك والورق، خلافًا للشّافعي، إلّا اليابس؛ لأنّه كميتٍ.
ولا بأس بالانتفاع بما زال بغير فعل، نصّ عليه.
قال الإمام الموفّق: لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّ الخبر في القطع (5).
ويجوز رعيُ حشيش الحرم، لا الاحتشاشُ، على معتمد المذهب؛ وفاقًا للشّافعي، وأبي يوسف؛ لأنّ الهدايا كانت تدخل الحرم، فتكثر فيه، فلم يُنقل سدُّ أفواهها.
وللحاجة إليه كالإذخر.
وقيل: لا يجوز رعيُ حشيشه؛ وفاقًا لأبي حنيفةَ، ومالك؛ لأنّ ما حرم
(1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 309).
(2)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (3/ 394)، (مادة: حشش).
(3)
كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(4/ 48)، ولم أقف عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 353).
(5)
انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 426).
إتلافهُ بنفسهِ، حرم أن يرسل إليه ما يتلفُه؛ كالصّيد (1).
(فقال العبّاس) بنُ عبدِ المطلب رضي الله عنه لما قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال: (يا رسول اللَّه! إلّا الِإذْخِرَ) -بالنّصب-، (2) ويجوز -الرّفع- على البدليّة، وهو -بالهمزة المكسورة والذّال السّاكنة والخاء المكسورة المعجمتين-: نبت معروف طيّب الرائحة، الواحدة: إِذْخِرَةٌ (3)
قال القسطلاني في "شرح البخاري": وهو حَلْفاءُ مكةَ؛ (4)(فإنّه)؛ أي: الإذخر (لِقَيْنِهم) -بفتح القاف وسكون التحتيّة وياء فنون-: حَدَّادِهم، أو القين: كلُّ صاحب صناعة يعالجها بنفسه (5)، ومعناه: يحتاج إليه القَيْنُ في وقد النّار، (و) لـ (بيوتهم) في سقوفها، يُجعل فوقَ الخشب، أو للوقود؛ كالحلفاء (6).
وفي رواية من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقال رجل من قريش: إلّا الإذخرَ؛ فإنّا نجعله في بيوتنا وقبورنا (7).
ولفظ ابن عبد المطّلب: إلّا الإذخرَ يا رسولَ اللَّه، فإنّه لابدَّ منه للقَيْنِ والبيوت، فسكتَ، ثمّ قال، (8) وفي هذه الرّواية:(فقال) صلى الله عليه وسلم: (إلّا الإذخرَ)
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 351، 353).
(2)
وهو المختار، كما قاله ابن مالك. انظر:"شواهد التوضيح والتصحيح"(ص: 94).
(3)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (2/ 164).
(4)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306).
(5)
قاله الطبري، كما في "تهذيب الآثار"(1/ 47).
(6)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 309).
(7)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (112)، ومسلم برقم (1355).
(8)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4059).
استثناءُ بعضٍ من كُلٍّ لدخول الإذخر في عموم ما يُخْتَلى.
استدل بهذا الحديث: على جواز اجتهاد النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو تفويض الحكم إليه.
ويجوز أن يكون قولُه ذلك بوحيٍ بواسطة جبريل عليه السلام نزل بذلك في طرفة عين (1).
واعتقادُ أنَّ نزول جبريلَ يحتاج إلى أمدٍ متَّسع وَهْمٌ وزَلَلٌ، أو أَنَّ اللَّه نفثَ في رُوعه، وبه يندفع ما قاله المهلَّب: إنّ ما ذُكر في الحديث من تحريمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه لو كان من تحريم اللَّه، ما استُبيح منه إذخر ولا غيرُه.
ولا ريبَ أنّ كلَّ تحريم وتحليل فإلى اللَّه تعالى حقيقةً، والنّبي صلى الله عليه وسلم لا ينطِقُ عن الهوى، فلا فرقَ بينَ إضافة التّحريم إلى اللَّه، وإضافتهِ إلى رسوله؛ لأنّه المبلِّغ عنه.
فالتّحريمُ إلى اللَّه حتمًا، وإلى الرّسول بلاغًا (2).
قال الحافظ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: (القينُ: الحدَّاد)، وجمعه: قِيان، وقُيون (3).
وفي "النّهاية": القين: الحداد، والصّائِغُ، (4) وتقدم.
تنبيهات:
الأوّل: من خصائص الحرم المكّي: أَلَّا يحارَب أهلُه، ولا يُسفكَ في مكّةَ وحرمِها دمٌ.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306 - 307).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1582)، (مادة: قين).
(4)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 135).
قال القفّال من الشّافعية في "شرح التّلخيص" في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكّة، حتّى قالوا: لو تحصّن جماعة من الكفّار فيها، لم يجزْ لنا قتالُهم فيها (1).
وحكى الماوردي أيضًا: أنّ من خصائص الحرم: أَلَّا يُحارَبُ أهلُه إن بغوا على أهل العدل (2).
قال علماؤنا -رحمهم اللَّه تعالى-: من قَتَلَ، أو قطعَ طرفًا، أو أتى حَدًّا خارج مكّة، ثمّ لجأ إليه، أو لجأ إليه حربيٌّ، أو مرتدّ، لم يُستوفَ منه فيه (3).
قال في "الفروع": من فعل ذلك خارجَ الحرم، ثمّ لجأ إليه، أو لجأَ إليه حربيٌّ، أو مرتدٌّ، لم يجز أخذُه به فيه؛ كحيوان صائل مأكول، ذكره الشّيخ -يعني: الموفّق- (4) لكن لا يُبايَع ولا يُشارى، ولا يُطعم ولا يُسقى، ولا يؤاكَل ولا يُشارَب، ولا يجالَسُ ولا يؤوَى، ويُهْجَرُ، فلا يكلِّمه أحد حتّى يخرج، لكن يقال له: اتَّقِ اللَّه، واخرجْ إلى الحلّ ليستَوْفَى منك الحقُّ الذي قِبَلَك، فإذا خرج، أُقيم عليه الحدُّ (5).
وفي "الهدي" للإمام ابن القيّم: أن الطّائفة الممتنعة بالحرم من مبايعة الإمام، لا تُقاتلَ، لاسيّما إن كان لها تأويلٌ؛ كما امتنع أهلُ مكّةَ من بيعة
(1) نقله النووي في "شرح مسلم"(9/ 125)، وغلطه في ذلك.
(2)
انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260)، وفيه: فلو بغى أهله على أهل العدل، فإن أمكن ردهم عن البغي بغير قتال، لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون. . . إلخ.
(3)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 88).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 69).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 91).
يزيدَ، وبايعوا ابنَ الزُّبير، فلم يكن قتالُهم ونصبُ المنجنيق عليهم، وإحلالُ حرم اللَّه جائزًا بالنّص والإجماع، وإنّما خالف في ذلك عمرُو بنُ سعيد بنِ العاص -يعني: الأشدق وشيعته-، وعارض نصَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه، فقال: إنّ الحرمَ لا يُعيذُ عاصيًا.
قال: والخبرُ صريحٌ في أنّ الدّم الحلالَ في غيرها، حرامٌ فيها، عدا تلكَ السّاعةَ، انتهى (1).
وفي "الأحكام السّلطانيّة" -يعني: للقاضي أبي يعلى-: تُقاتَلُ البغاةُ إذا لم يندفعْ بغيُهم إلّا به؛ لأنّه من حقوق اللَّه، وحفظُها في حَرَمِه أولى من إضاعتها.
وذكره الماوردي من الشّافعيّة عن جمهور الفقهاء، (2) ونصّ عليه الشّافعي، وحمل الخبرَ على ما يعم إتلافُه؛ كالمنجنيق، إذا أمكن إصلاحٌ بدون ذلك (3).
قال في "الفروع": فيقال: وغيرُ مكّة كذلك.
واحتجّ في "الخلاف"، "وعيون المسائل"، وغيرهما: على أنّه لا يجوز دخولُ مكّةَ لحاجة لا تتكرر إلا بإحرام، للخبر:"وإنّما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار".
قالوا: فلمّا اتّفق الجميع على جواز القتال فيها متى عرض مثلُ تلك الحال، علمنا أنّ التّخصيص وقعَ لدخولها بغير إحرام، كذا قالوا.
(1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 443، 446).
(2)
انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 125).
قال في "الفروع": ولمّا كان هذا ضعيفًا، فإن الأكثر حكمًا واستنباطًا لم يعرّجوا عليه، وذُكر منهم أبو بكر ابن العربي في "العارضة"، وقال: لو تغلّب فيها كفّار أو بُغاةٌ، وجبَ قتالُهم فيها بالإجماع (1).
وقال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيميّة-: إن تعدَّى أهلُ مكّة أو غيرُهم على الرَّكْب، دفع الرَّكْب كما يدفع الصّائل، وللإنسان أن يدفع مع الرّكب، بل يجب إن احتيج إليه (2).
قال ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": قال اللَّه عز وجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
لفظُ هذه الآية لفظُ الخبر، ومعناها الأمرُ.
والتّقدير: من دخله، فَأَمِّنوه، وهو لفظ عام فيمن جَنَى قبل دخوله، أو بعدَ دخوله؛ إلّا أنّ الإجماع انعقد على أنّ من جنى فيه، لا يؤمَّنُ؛ لأنه هتكَ حرمةَ الحرم، وردَّ الأمانَ، فبقي حكمُ الآية فيمن جنى خارجًا منه، ثمّ لجأ إليه.
قال: وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال الإمام أحمد في رواية المَرُّوذي: إذا قَتل، أو قَطع يدًا، أو أتى حدًّا في غير الحرم، ثمّ دخله، لم يُقَم عليه الحدُّ، ولم يُقتصَّ منه، ولكن لا يُبايع، ولا يُشارى، ولا يؤاكَل حتّى يخرج.
وقال في رواية حنبل: إذا قتل، ثمّ لجأ إلى الحرم، لم يُقتل، وإن كانت
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 25).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 70).
الجنايةُ فيما دون النّفس، (1) فإنّه يُقام عليه الحدّ، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، والشّافعيّ: يُقام عليه الحدُّ في النَّفْس وفيما دون النَّفْس؛ فالحرمُ عندهما كغيره، فيقام فيه الحدُّ، ويستوفى فيه القصاصُ، سواءً كانت الجناية في الحرم، أو في الحلّ، ثمّ لجأ إلى الحرم؛ لأنّ العاصي هتكَ حرمةَ نفسِه، فأبطلَ ما جعل اللَّه له من الأمن (2).
قال ابن الجوزي: وفي الآية دليلٌ على صحّة مذهبنا (3).
قلت: والأحاديث صحيحةٌ صريحةٌ بالتّفرقة بين الحرم وغيره -كما ترى-.
قال ابن الجوزيّ: وقد ألهم اللَّه عز وجل الحيوانَ البهيمَ تعظيمَ الحرم؛ فإنَّ الظَّبي يجتمع مع الكلب في الحرم، فإذا خرجا منه، تنافرا، وإنّ الطيرَ لا يعلو على البيت، إلّا أن يستشفي مريضها به، انتهى (4).
الثّاني: الحرمُ: ما أحاطَ بمكّة المشرّفةِ، وأطاف بها من جوانبها، جعل اللَّه له حكمَها في الحرمة؛ تشريفًا لها.
وسُمِّي حَرَمًا؛ لتحريم اللَّه تعالى [فيه] كثيرًا ممّا ليس بمحرّمٍ في غيره من المواضع.
وحَدُّه من طريق المدينة عندَ التّنعيم على ثلاثة أميال من مكّة.
قال ابن الجوزي: حدودُ الحَرَمِ من طريق المدينةِ دونَ التّنعيم عندَ بيوتِ غفار على ثلاثة أميال.
(1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 75).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308).
(3)
انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 75).
(4)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
وفي القسطلاني: وقيل: أربعة.
ومن طريق اليمن: طرفُ أَضَاة لِبْن -بفتح الهمزة والضاد المعجمة-، ولِبْن -بكسر اللام وسكون الموحّدة-: على سبعة أميال من مكّة.
وقيل: ستَّة، وقدَّمه القسطلاني.
ومن طريق الجعرانة: على تِسْعة أميال -بتقديم المثنّاة الفوقيّة على السّين-، في شِعْبٍ يُنسب إلى عبدِ اللَّه بنِ خالدِ بنِ أسيد.
ومن طريق الطّائف إلى عرفات، من بطن نَمِرَةَ: سبعة أميال، عند طرف عرفة.
وقال الأزرقي: على أحدَ عشرَ ميلًا (1).
وقيل: ثمانيةُ أميال.
والأصحُّ: الأوّل.
ومن طريق جدّة: عشرةُ أميال عند منقطع الأعشاش.
ومن طريق العراق: على سبعة أميال على ثنية رجل، وهو جبل بالمنقطع.
ونظمَ بعضُهم ذلك، فقال:[من الطويل]
ولِلْحَرَمِ التَّحْدِيدُ مِنْ أَرْضِ طَيْبَةٍ
…
ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ إِذَا رُمْتَ إِتْقَانَهْ
وَسَبْعَةُ أَمْيَالٍ عِرَاقٌ وَطَائِفٌ
…
وَجَدَّةُ عَشْر ثُمَّ تِسْعٌ جِعِرَّانَهْ
وزاد أبو الفضل البربري هنا بيتين، فقال:[من الطويل]
وَمِنْ يَمَنٍ سَبْعٌ بِتَقْدِيمِ سِينِهَا
…
فَسَلْ رَبَّكَ الْوَهَّابَ يَرْزُقْكَ غُفْرَانَهْ
(1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 130).
وَقَالُوا: وَفي حَدٍّ لطائِفِ أَرْبَعٌ
…
وَلَمْ يَرْضَ جُمْهُورٌ لِذَا القَوْلِ رُجْحَانَهْ
وقال ابن سراقة في كتاب "الأعداد"(1): والحرمُ في الأرض موضعٌ واحد، وهو مَكَّةُ وما حولها.
ومساحةُ ذلك: ستّةَ عشرَ ميلًا في مثلِها، وذلك بريد واحد، وثلثٌ في بريدٍ واحد، وثلث على التّرتيب.
والسّبب في بُعْد بعضِ الحدود وقربِ بعضها؛ ما قيل: إنّ اللَّه تعالى لمّا أهبطَ على آدم بيتًا من ياقوتة، أضاءَ له ما بينَ المشرق والمغرب، فنفرت الجنّ والشّياطين ليقربوا منها، فاستعاذ منهم باللَّه، وخافَ على نفسِه منهم، فبعث اللَّه تعالى ملائكةً، فحفّوا بمكّة، فوقفوا مكان الحرم.
قال القسطلاني في "شرح البخاري": وذكر بعضُ أهل الكشف والمشاهَدات: أنّهم يشاهدون تلك الأنوارَ واصلةً إلى حدود الحرم، فحدودُ الحرم موضعُ وقوف الملائكة، انتهى (2).
قال ابن الجوزي في "مثير العزم السَّاكن": إن قيل: ما الحكمةُ في أنّ بعضَ حدود الحرم يقرب من مكّة، وبعضَها يبعد، ولو لم تُجعل على قانونٍ واحد؟.
فعنه: أربعة أجوبة:
* أحدُها: ما رواه سعيدُ بنُ جبير عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: لمّا هبطَ آدمُ، خَرَّ ساجدًا يعتذرُ، فأرسل اللَّه تعالى إليه جبريلَ بعد
(1) كتاب: "الأعداد والحساب" لمحمد بن محمد الأنصاري أبي بكر الشاطبي المالكي الأندلسي، المعروف بابن سراقة، توفي سنة (662 هـ) بمصر. انظر:"هدية العارفين" للبغدادي (2/ 12).
(2)
انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 150 - 151).
أربعين سنة، فقال: ارفعْ رأسَكَ، فقد قبلتُ توبتَك، فقال: يا رب! إنّما أتَلَهَّفُ على ما فاتني من الطَّواف بعرشِكَ مع ملائكتِكَ، فأوحى اللَّه تعالى إليه: أنّي سأُنزلُ إليك بيتًا أجعلُه قبلةً، فأهبطَ إليه البيتَ، وكان ياقوتةً حمراءَ تلتهب التهابًا، وله بابان: شرقيٌّ وغربيٌّ، وقد نُظِمتْ حيطانُه بكواكبَ بِيضٍ من ياقوتِ الجنّة، فلمّا استقرَّ البيتُ في الأرض، أضاء نورُه ما بينَ المشرق والمغرب، فنفرت لذلك الجنُّ والشّياطين، وفزعوا، فارتَقَوا في الجو ينظرون من أين ذلك النّورُ، فلمّا رأوه من مكّة، أقبلوا يريدون الاقترابَ إليه، فأرسل اللَّه تعالى ملائكةً، فقاموا حولَ الحرم في مكان الأعلام اليوم، فمنعَتْهم، فمن ثمّ ابتدىء اسم الحرم.
* الثّاني: ما رواه وهبُ بنُ منبه: أنّ آدم عليه السلام لمّا نزلَ إلى الأرض، اشتدَّ بكاؤه، فوضع اللَّه تعالى له خيمةً بمكّةَ موضعَ الكعبة قبل الكعبة، فكانت الخيمة ياقوتةً حمراءَ من الجنّة، وفيها ثلاثُ قناديل فيها نورٌ يلتهب من الجنّة، فكان ضوء نوره ينتهي إلى مواضع الحرم، وحرسَ اللَّه تعالى تلك الخيمةَ بملائكة، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه، ويذودون عنه سكانَ الأرض من الجنِّ، فلمّا قبضَ اللَّه تعالى آدمَ، رفعها إليه.
* والثّالث: أنّ إبراهيمَ الخليلَ عليه السلام لما بنى البيتَ، قال لإسماعيل: أبغني حجرًا أجعلُه للنّاس آيةً، فذهب إسماعيلُ ورجعَ ولم يأتِه بشيء، ووجدَ الرُّكْنَ عندَهُ، فقال: من أين لك هذا؟ قال: جاء به مَنْ لم يَكِلْني إلى حَجَرِك، جاء به جبريلُ، فوضعه إبراهيمُ في موضعه هذا، فأنار شرقًا وغربًا، ويمينًا وشمالًا، فحرّم اللَّه الحرم حيث انتهى نورُ الرُّكن وإشراقُه من كُلِّ جانب.
* الرّابع: أنّ آدمَ عليه السلام لمّا أُهبط إلى الأرض، خاف على نفسه من الشّياطين، فاستعاذ باللَّه تعالى، فأرسل اللَّه تعالى ملائكةً حَفُّوا بمكّةَ من كُلِّ جانب، ووقفوا حَوالَيْها، فحرّم اللَّه تعالى الحرمَ من حيثُ كانتِ الملائكة وقفت.
قال عبدُ اللَّه بنُ عمر [و]رضي الله عنهما: الحرمُ حرامٌ إلى السّماء السّابعة (1).
الثّالث: تحريمُ صيدِ المدينة، نقلَه الجماعةُ، وشجرِها وحشيشِها؛ خلافًا لأبي حنيفة، لما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري، ومسلم، وغيرِهما: أنّه حَرَّمَ ما بَيْنَ لابَتَيْها (2).
وحَدُّ حَرَمِها: ما بينَ ثورٍ إلى عَيْرٍ، (3) وقدرُه بريدٌ في بريدٍ نصًّا (4).
وثورٌ وعَيْرٌ: جبلان بالمدينة، فثور: جبلٌ صغيرٌ إلى الحُمرة بتدوير، خلفَ أُحد من جهة الشّمال. وعَيْرٌ: مشهور بها (5).
(1) رواه الفاكهي في "أخبار مكة"(2/ 276 - 277). وانظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 74).
(2)
رواه البخاري (3187)، كتاب: الأنبياء، باب: قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، ومسلم (1365)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6374)، كتاب: الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه، ومسلم (1370)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 358، 362).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 83)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 611).
فلو صاد من صيدها، وذبح، صَحَّتْ ذبيحتُه، ويجوز أخذُ ما تدعو الحاجة إليه من شجرها ومن حشيشها للعلف.
ومن أدخلَ إليها صيدًا، فله إمساكُه وذبحُه، ولا جزاءَ في صيدها وحشيشِها، ونحوه، (1) واللَّه سبحانه الموفّق.
* * *
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 609).