الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدارس الحنفية
«الحلوية» :
هذه المدرسة [ا] تجاه باب الجامع الكبير الغربي. كانت أولا كنيسة من بناء هيلانة أم قسطنطين.
وهيلانة هي التي بنت القمامة «1» ببيت المقدس على مكان المصلوب «2» وولدها قسطنطين بنى في أيامه بالشام وغيرها من المدائن والقرى أزيد من [ا] ثنتي عشر ألف كنيسة؛ قاله ابن كثير.
وكانت هذه الكنيسة معظمة عندهم. يقال أنه كان بحلب نيف وسبعون هيكلا للنصارى منها هذا الهيكل. وهذه المرأة بنت كنائس الشام كلها والبيت المقدس. وهذا الهيكل كان في هذه الكنيسة ولم يزل على ذلك إلى أن حاصرت الفرنج حلب في سنة ثماني عشرة وخمسمائة وملكها يومئذ ايلغازى بن ارتق صاحب (59 ظ) ف ماردين فهرب منها.
وقام بأمر البلد ومن فيه القاضي أبو الحسن محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن الخشاب فعمد الفرنج إلى قبور المسلمين فنبشوها «3» فلما بلغ القاضي ذلك عمد إلى أربع كنائس من الكنائس التي كانت بها. وصيرها مساجد؛ أحدها هذه. والثانية تأتي الحدادية، والثالثة تأتي في المقدمية، والرابعة على ما يغلب عليه ظني هي المسجد الذي بالقرب من حمام موغان. انتهى.
قلت: وبالقرب من حمام موغان مسجد بينها وبين الجاولية الحنيفة مكتوب على حائطه: أنه عمر في أيام الناصر بن المعز، بتولية محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم ابن العجمي الشافعي في رمضان سنة خمس وخمسين وستماية.
قال ابن شداد: وكان بموضع الدار التي هي الآن دار الزكاة- وهذه الدار والحمام المجاورة لها من إنشاء ذكا؛ وكان متوليا حلب من سنة اثنين وتسعين ومائتين. [وكان موضعهم «1» ] بيت المذبح لكنيسة هيلانة التي هي الحلاوية. وبينهما ساباط معقود البناء تحت الأرض [يخرج «2» ] منها من الكنيسة إلى المذبح [إلى الهيكل] . وكان النصارى يعظمون هذا المذبح ويقصدونه من سائر البلاد. وكانت حمام موغان «3» حماما للهيكل وكان حوله قريبا من مائتي قلاية تنظر إليه، وكان في وسطه كرسي ارتفاعه أحد عشر ذراعا من الرخام الملكي الأبيض.
وذكر ابن شرارة النصراني في تاريخه «4» : أن عيسى عليه السلام جلس عليه. وقيل جلس موضعه لما دخل حلب. وذكر أيضا أن جماعة الحواريين دخلوا هذا الهيكل وكان في ابتداء الزمان معبدا لعبّاد النار. ثم صار إلى اليهود فكانوا يزورونه ثم صار إلى النصارى ثم صار إلى المسلمين. وذكر أيضا أنه كان بهذا الهيكل قس يقال له «برسوما» تعظمه النصارى وتحمل إليه الصدقات من سائر الأقاليم ويذكر في سبب تعظيمهم له أنه أصاب أهل حلب وباقي أيام الروم فلم يسلم منهم غيره. انتهى.
وكانت هذه المدرسة تعرف قديما بمسجد السراجين «5» . ولما ملك نور الدين حلب وقفه مدرسة وجدد فيه مساكن يأوي إليها الفقهاء وإيوانا «6» وكان مبدأ عمارته قال ابن شداد في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ومكتوب على بابها في سنة ثلاث وأربعين «7» .
ومتولى عمارتها القاضي فخر الدين أبو منصور محمد ابن عبد الصمد بن الطرسوسي الحلبي.
وكان ذا همة ومروءة ظاهرة. له أمر نافذ في تصرفه في أعمال حلب، وأثر صالح في الوقوف. ثم انعزل عن ذلك أجل انعزال ومات في وسط سنة تسع وأربعين وخمسمائة. انتهى.
والمحراب الذي في إيوانها منجور فرد في بابه: جدد في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن محمد في سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
وكان بها خزانة كتب فذهبت.
وكان على قبتها طائر من نحاس يدور مع الشمس فذهب. (59 و) ف وجلب إليها نور الدين من أفامية مذبحا من الرخام الملكي الشفاف- وقد تقدم الكلام عليه- كان نور الدين يملأ هذا الجرن في ليلة السابع والعشرين من رمضان قطائف محشوة ويجمع عليها الفقهاء المرتبين بالمدرسة «1» . انتهى.
ورأيت في كلام داود بن علي أحد الفقهاء بها ما لفظه: فاطمة زوجة الطاساني هي التي سنت الفطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية. كان في يدها سواران فاخرجتهما وباعتهما.
وعملت بثمنهما الفطور كل ليلة. فاستمر ذلك الى اليوم. انتهى.
قلت: بل انقطع ذلك بالكلية.
وكانت هذه المدرسة من أعظم المدارس صيتا وأكثر طلبة، وأغزرها جامكية «2»
ومن شرط الواقف أن يحمل في كل شهر رمضان من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدرسة يصنع بها للفقراء طعاما. وفي ليلة النصف من شعبان في كل سنة حلوا معلومة.
وفي الشتاء ثمن كسوة فقيه شيء معلوم. وفي أيام شرب الدواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يحتاج إليه من دواء وفاكهة. وفي المواليد أيضا الحلو أو في الأعياد ما يرتفقون به دراهم معلومة وفي أيام الفاكهة ما يشترون به من أنواعها.
ولما فرغ من بنائها استدعى لها من دمشق الفقيه الإمام برهان أبا الحسن علي بن الحسن بن محمد بن أبي جعفر؛ وقيل جعفر البلخي. فولاه تدريسها واستدعى الفقيه برهان الدين أبا العباس أحمد بن علي الأصواتي السلفي من دمشق ليجعله نائبا عن برهان الدين فامتنع من القدوم فسير إليه برهان الدين كتابا ثانيا يستدعيه فيه، ويشدد عليه في الطلب.
فأجابه على كتابه بكتاب استفتحه بعد البسملة:
ولو قلت طأفي النّار أعلم أنّه
…
رضّى لك أو مدن لنا من وصالك
لقدّمت رجلي نحوها فوطئتها
…
هدى منك لي أو ضلّة من ضلالك
ثم قدم حلب بعد كتابه فاستنابه برهان الدين ولم يزل نائبا عنه إلى أن مات فحزن عليه برهان الدين حزنا غلب عليه. ولما فرغ من الصلاة عليه التفت إلى الناس وقال: شمت الأعداء بعلي لموت أحمد (!) .
ولم يزل برهان الدين مدرسا إلى أن خرج من حلب لأمر جرى بينه وبين مجد الدين أبي بكر محمد بن توسيكين «1» بن الداية لما كان نائبا عن السلطان بحلب وقصد دمشق فأقام بها إلى أن توفي يوم الخميس سلخ شعبان سنة ثمان وأربعين (59 و) م وخمسمائة. وتولى المدرسة بعد خروجه الفقيه الإمام عبد الرحمن بن محمود بن محمد ابن جعفر الغزنوي أبو الفتح وقيل أبو محمد الحنفي الملقب علاء الدين فأقام بها مدرسا إلى أن توفي بحلب لسبع بقين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة. (59 ظ) ف
وولى بعده ولده محمود وكان صغيرا فتولى تدبيره الحسام علي بن أحمد بن مكي الرازي الوردي.
ثم ولى بعده الإمام رضي الدين محمد بن محمد بن محمد أبو عبد الله السرخي «1» . وكان في لسانه لكنة. فتعصب عليه جماعة من الفقهاء الحنيفة وصغروا أمره عند نور الدين وكانت وفاته يوم الجمعة آخر جمعة في رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. فكتب نور الدين إلى عالي بن إبراهيم بن إسماعيل بن علي الغزنوي. وكان بالموصل ليقدم إلى حلب ليوليه تدريس المدرسة.
وأتفق أن أبا بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الملقب علاء الدين سير رسولا من الروم إلى نور الدين فعرض عليه المقام بحلب والتدريس بالحلوية، فأجابه إلى ذلك ووعده أن يعود إلى حلب بعد رد جواب «2» الرسالة فعاد إلى الروم. ثم قدم حلب. فولى عالي تدريس الحلوية يوما واحدا.
ثم أن نور الدين استحيا من علاء الدين الكاساني فاستدعى بابن الحكيم مدرس مدرسة الحدادين إلى دمشق وولى عالي الغزنوي وكان ابن الحكيم. ثم ولى علاء الدين الحلوية. ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الأحد بعد الظهر عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
وولى بعده عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب بن الحسين بن أحمد بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن عبد الرحمن بن الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس
ولم يزل مدرسا إلى أن توفي في جمادى الآخرة سنة ست عشرة وستمائة. فولى بعده ولده تاج الدين أبو المعالي الفضل وخلع في يوم تدريسه عشرين حلقة على من حضر درسه من متميزي الفقهاء.
واستمر مدرسا إلى أن توفي فجأة في أواخر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة فولي بعده كمال الدين أبو القاسم عمر بن قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة المعروف بابن العديم «1» .
ولم يزل مستمرا على تدريسها إلى أن قصد دمشق في خدمة الملك الناصر فولي تدريسها استقلالا ولده مجد الدين أبو المجد عبد الرحمن.
وتدريسها بيد بني العديم إلى الآن صورة. انتهى.
وكانت هذه المدرسة أخيرا في أيامي يستحي الشخص أن يمر على بابها من الفضلاء والعلماء الجالسين على دككها كالشيخ عز الدين الحاضري وجماعته، وقد حضرت بها الدرس في أيام السيفي قصروه درس بها الشيخ أبو بكر بن اسحاق الحنفي القاضي درسا حافلا في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ....
ورتبه على علوم وحضر قضاة البلد وشيخنا وفضلاء البلد إذ ذاك والكافل فلما أخذ في الدرس سأله شيخنا مسألة فارتج عليه بقية الدرس، ودرس بعده في المجلس (61 و) ف مدرسها عز الدين ابن العديم.
قلت: والبرهان الميلخي المتقدم ذكره هو الذي قام في إبطال: حيّ على خير العمل من الأذان بحلب.