الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحمد شلبي
(1)
رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ
" وعندما نؤسس معهدا للدعوة. .
هناك سؤال مهم: كيف نختار طلاب هذا المعهد؟
أرى أن نختار طلابه من بين الحاصلين على درجات جامعية بتقدير جيد على الأقل من كليات تعنى بالدراسات الإسلامية، وبامتحان يثبت فيه الطالب طلاقة لسانه، وإجادة الحوار، وعمق الإيمان بالفكرة، ومعرفة لغة أجنبية واحدة على الأقل، وتقدم للطالب منح مجزية طيلة دراسته التي تستمر سنتين ويمنح الناجح شهادة تعادل الماجستير ".
كان المسجد أول المنشآت التي عني بها المسلمون، فإن المسلمين بعد أن أبعدوا عن مكة وحرموا الالتقاء والعبادة في البيت الحرام فكروا سريعا في أن يعتاضوا به مكانا آخر ولذلك نجد الرسول
(1) د. أحمد شلبي: من علماء الأزهر.
-صلوات الله عليه- وهو في طريقه إلى المدينة مهاجرا أقام بقباء بضعة أيام أسس فيها مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام ويقال إن فيه نزلت الآية الكريمة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (1).
ويروي البلاذري (2) أن هذا المسجد أسسه الذين هاجروا إلى المدينة قبل رسول الله، ثم إن الرسول لما دخل المدينة بنى مسجده بالمربد، وعمل فيه بنفسه ليشجع المهاجرين والأنصار على النشاط في العمل (3)، ويروي البلاذري وابن هشام روايات أخرى تفيد أن الآية السابقة نزلت في هذا المسجد لا في مسجد قباء، وكانت تعقد حلقات العلم في مسجد قباء (4) كما كان من عادة الرسول أن يجلس في مسجده بالمدينة ليعلم أصحابه دينهم (5).
وكثرت بعد ذلك المساجد وزاد انتشارها بتوسع الإسلام، وأصبح من المتبع أن يبنى مسجد أو أكثر في كل مكان فتحه المسلمون أو في كل قرية أو مدينة أسسوها، فلقد روي أن عمر لما فتح البلدان كتب إلى أبي موسى وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك (6) وأسوة برسول الله -صلوات الله عليه- الذي كان يجلس بالمسجد معلما ارتبط تاريخ التربية الإسلامية بالمسجد ارتباطا وثيقا، وجلس بالمساجد خير العلماء يقدمون الفكر الإسلامي للمريدين ولطلاب المعرفة، ومما يدلنا على أن التدريس بالمسجد كان يحتل مكانة سامية في نفوس العلماء أن الخطيب البغدادي لما حج شرب من ماء زمزم وسأل الله أن يحقق له ثلاث حاجات، كان من بينها أن يتاح له أن يملي الحديث بجامع المنصور (7).
وفي مسجد المنصور أيضا أملى أبو عمر الزاهد كتابه الياقوت وقد بدأ يحاضر في موضوع ذلك الكتاب في شهر المحرم سنة 326 هـ. ولما أتمه استعاد قراءته فهذبه وزاد عليه (8).
وكان للخطيب البغدادي في جامع دمشق حلقة كبيرة وكان الناس يجتمعون إليه في بكرة كل يوم فيقرأ لهم وكان إذا قرأ الحديث في جامع دمشق سمع صوته في آخر الجامع.
(1) سورة التوبة الآية 108
(2)
فتوح البلدان: 17.
(3)
ابن هشام 2: 12. الطبري 1: 3: 259. البلاذري وفتوح البلدان: ص 171.
(4)
الإحياء 1: 52.
(5)
البخاري: باب الصلاة.
(6)
الخطاط 2: 246 وحسن المحاضرة 2: 149.
(7)
ياقوت: معجم الأدباء 1: 246.
(8)
الفهرست ص 113.
ولما وفد محمد بن جرير الطبري على مصر بان فضله في القرآن والفقه والحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن بن سراج فوجده فاضلا في كل ما يذاكره به من العلم ويجيب في كل ما يسأل عنه، حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلا بارعا فيه فسأله عن شعر الطرماح فإذا به يحفظه، فسئل أن يمليه فاستجاب وجلس بجامع عمرو لإملائه (1).
ودرس في المساجد الطب والميقات، يروي السيوطي (2) أن دروسا مختلفة رتبت في الجامع الطولوني وقد شملت التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب والميقات، ويقول عبد اللطيف البغدادي إن درسا في الطب كان يلقى في الأزهر في منتصف النهار من كل يوم (3).
ولم تكن المساجد مكانا للعبادة والعلم فحسب بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل فيها السفراء، وكانت أمكنة تعقد فيها مجالس القضاء، وساحات تجتمع فيها الجيوش قبل أن تندفع نحو هدفها، وفي غزوة الأحزاب كان مسجد المدينة مستشفى يعالج فيه الجرحى والمصابون في المعارك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تقام بالمسجد خيمة تخصص لجرحى المعركة، وعين لعلاج الجرحى من لهم خبرة بالطب، ويقول ابن حجر: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليكون من السهل عليه أن يعود الجرحى من حين إلى آخر، وهو يدير المعركة (4).
من أجل هذا نريد أن نهتدي بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نفكر في مساجد العصر الحاضر نريد أن يكون مسجد اليوم " مجمعا " به مكان للعبادة، وبه مكتبة إسلامية وثقافية، وبه قاعة للمحاضرات والاجتماعات، وبه استعداد للإسعافات الصحية السريعة، وحوله مكان للشبان يمارسون به أحيانا بعض الرياضات المباحة حتى إذا أذن المؤذن للصلاة هرعوا إليها، ونريد أن يكون بكل مسجد مكان مخصص للنساء يصلين به ويتدارسن فيه شئونهن، ونحن بهذا نخلق مركزا دينيا سيكون واسع الأثر في خدمة الإسلام والمسلمين كما كان مسجد الصدر الأول للإسلام.
ونريد كذلك أن نهتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وبجماعات الصدر الإسلامي الأول فنجعل بناء
(1) ياقوت: معجم الأدباء 6: 432.
(2)
الأصفهاني: محاضرات الأدباء 1: 20.
(3)
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2: 207.
(4)
الإصابة: ترجمة سعد بن معاذ.
المسجد جزءا رئيسيا في كل مدينة أو عمارة تمتد أو قرية تنشأ، وبلغة أخرى أن يوجد المسجد في أي تجمع يضم جماعة من المسلمين، ليكون بيت الله منارة بينهم، ومكانا يلتقون فيه للعبادة ولكل الأغراض التي أوردناها.
إعداد الأئمة والدعاة
نحب أن نقول بدقة أن العالم العربي والإسلامي به مئات المعاهد والكليات لأنواع من الدراسات الإسلامية وغيرها. . ولكن ليس به معهد واحد ذو بال لتخريج الدعاة والأئمة، ولو اتخذنا مصر مثالا لنا نجد أنه ليس بمصر معهد واحد للدعوة ضمن مئات المعاهد والكليات في جامعاتنا، حتى الأزهر الذي حمل عبء الثقافة الإسلامية طيلة ألف عام والذي يشمل عددا كبيرا من المعاهد النظرية والعملية لا يوجد به معهد للدعوة اللهم إلا قسم صغير بكلية أصول الدين يعرض الطلاب عنه، أو يكرهون على الالتحاق به، وعندما يتخرجون يفرون من الاشتغال بنشر الدعوة الإسلامية، لأنهم في الحقيقة غير مؤهلين لذلك أو غير راغبين فيه.
ونحب أن نوضح أن هناك فرقا كبيرا بين المدرس والداعية، وأن المسجد في حاجة إلى داعية، والبلاد الأجنبية في قلب أفريقية وفي جنوب شرقي آسيا تحتاج للدعاة أكثر من حاجتها للمدرسين. فالمدرسون يبدأ عملهم بعد نجاح الدعاة، فإذا قدم الداعية الإسلام للضال واستطاع أن يجذبه لحوزة الإسلام، بدأ بعد ذلك عمل المدرسين ليعلموا هذا المسلم كيف يصلي، وكيف يصوم وكيف يؤدي مبادئ الإسلام ويلتزم بتوجيهاته. أما الداعية فيعرف علوم المدرس معرفة تامة من فقه وتفسير وحديث وغيرها من العلوم الإسلامية ولكن ينبغي أن يضيف لها الدعوة وهي بالإجمال:
إجادة لغة من اللغات العالمية على الأقل، ثم معرفة لغة القوم الذين سيقدم لهم الإسلام ويدعوهم إليه، ويمكن أن تكون معرفة الداعي بهذه اللغة معرفة محدودة؛ لأن حياة الداعية بين القوم ستجعله يطور معرفته بهذه اللغة بسرعة.
هناك صفات شخصية يتحتم أن تكون بارزة في الداعية وفي قمتها: الإيمان العميق بالعمل الذي يزاوله، وإحساس أنه يريد أن يعطي من فكره وجهده لخدمة دينه ووطنه، ثم وضوح الفكرة وطلاقة اللسان وإجادة الحوار والمناظرة، ثم سماحة النفس واتساع الأفق وحسن العشرة، ثم الكرم وسمو الخلق والتطور الفكري وسعة الاطلاع، وقبل هذا وبعده: أن يكون قدوة حسنة للناس، وأن يجعل الآية الكريمة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) نبراسا له وضوءا يهتدي به.
(1) سورة النحل الآية 125
الدراسة العميقة لعلم مقارنة الأديان ودراسة مقارنة الأديان، ستضع أيدينا على جمال الإسلام وعلى الدور الذي يحمله ليكمل به محاولات الأديان لهداية البشر، وسيستفيد الداعية من مقارنة الأديان في مواجهة المبشرين بالمسيحية أو البوذية، فهؤلاء يعرفون الإسلام ويتلمسون ما يعتقدونه نقاط ضعف فيه ليهاجموه عن طريقها، كتعدد الزوجات والطلاق وانتشار الإسلام بالقوة، ولا يجوز أن يقف الداعية موقف المدافع فقط بل يجب أن يعرف كيف يهاجم أحيانا، ولن يكون ذلك إلا إذا تعرف على هذه الأديان ودرسها وأدرك ما حدث بها من تحريف على مر السنين.
الدراسة العميقة للحضارة الإسلامية بنوعيها، أي دراسة الحضارة التجريبية وهي إبراز دور الإسلام في العلوم التي كانت موجودة قبل الإسلام. . كترقية العمران وتطوير ما عرفه الناس في جوانب الفكر البشري من طب ورياضة وفلك وغيرها، ثم دراسة الحضارة الإسلامية الأصيلة التي جاء بها الإسلام ولم تكن معروفة قبل الإسلام، كاتجاهات الإسلام في السياسة والاقتصاد وفي المجال التربوي والاجتماعي والعسكري. تلك الجوانب الحضارية التي تعد منحة الإسلام لهداية البشرية.
التعرف التام على تاريخ المسلمين منذ مطلع الإسلام حتى الآن في كل البلاد الإسلامية مع تصحيح ما ازدحم به التاريخ الإسلامي من أخطاء.
وعندما نؤسس معهدا للدعوة ستكون مهمته أن يخرج الأئمة لمساجد العالم الإسلامي، ويخرج الدعاة الذين يحملون الإسلام إلى مختلف المناطق، ويقدمونه للملايين التي تتطلع إليه في مختلف الأرجاء. وهناك سؤال مهم هو: كيف نختار طلاب هذا المعهد؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال، تختلف الاتجاهات، ولكن أقربها للصواب فيما أرى: أن نختار لهذا المعهد طلابه من بين الحاصلين على درجات جامعية بتقدير جيد على الأقل من كليات تعنى بالدراسات الإسلامية، ويكون اختيارهم من بين هؤلاء بامتحان يثبت فيه الطالب طلاقة اللسان، وإجادة الحوار، وعمق الإيمان بالفكرة، ومعرفة لغة أجنبية واحدة على الأقل، وتقدم للطلاب منح مجزية طيلة دراستهم التي تستمر سنتين، ويمنح الناجح في الامتحان بعد هاتين السنتين شهادة تعادل درجة الماجستير، بعد أن يدرس منهاجا يشمل الدراسات التي قدمناها وسواها مما يراه الخبراء والمتخصصون ضروريا لمثل هذه الحالة.
إن كل جهد يبذل لخدمة المسجد ورفع شأنه وتطويره، وكل جهد يبذل لتقديم الداعية الناجح. . . سيكون جهدا نافعا في الدنيا والآخرة.
والله ولي التوفيق. . .