الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي محمد جريشة
شبهات وشعارات
حول
تطبيق الشريعة
ما يمارى مسلم في وجوب تطبيق شريعة الله. . لكنهم. . . يمارون بالشبهات ويجزئون في التطبيق. . . ويسرفون في الوعود. . .
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (1)
(1) سورة البقرة الآية 9
شبهات
فأما الشبهة الأولى: فقول البعض ببعد الشريعة الإسلامية
فعمر الشريعة الإسلامية يقترب من أربعة عشر قرنا. . .
لكن ذلك ليس بالنقد " الموضوعي "؛ لأن المعدن الأصيل لا يفقد ميزاته بالقدم. . . بل إن القدم مع الأصالة تشكلان أسباب نفاسته.
وشريعة الله - مع قدمها - لها هذه الأصالة. . . فلها من الثبات ما عجزت عنه أية شريعة أخرى. . . وثباتها راجع إلى ثبات مصدريها " القرآن والسنة " وهو أمر قدري قد تقرر لهما بقول الله سبحانه {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (1) وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2)» .
* * *
كما أن هذا الثبات راجع إلى ما حوته الشريعة من نصوص قطعية، ومن قواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان.
هذا الثبات عجزت عنه دساتير العالم وقوانينه، إذ راحت تنشده ولم تبلغه. . واكتفت في هذا السبيل
(1) سورة يونس الآية 64
(2)
صحيح البخاري العلم (110)، صحيح مسلم مقدمة (3)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 410).
باشتراط أغلبيات خاصة لإمكان تعديل الدستور. . لكن ذلك لم يحقق لها الثبات إذا أمكن الحصول على هذه الأغلبيات. . كما أنه في كل الأحوال لا قيمة لمثل هذه النصوص في مواجهة الثورات والانقلابات. . !!
بيد أن ثبات شريعة الله لم يمنع من مرونتها. . فقد تركت دائرة واسعة لاجتهاد من يملكون أداة الاجتهاد وأهليته، وذلك في صدد النصوص الظنية (التي تحتمل أكثر من تأويل) أو في صدد ما سكت عنه الشارع الحكيم رحمة بنا غير نسيان.
وبذا كان الأصل في شريعة الله هو الثبات. . لكنها مع ثباتها تحمل المرونة التي تمكنها من مواجهة كل حادثة تجد، وتبطل بالتالي حجج الذين يستوردون الأحكام أو النظم أو القوانين بمقولة أن الشريعة سكتت عن هذا الجانب أو عن ذاك.
ولها - مع ثباتها - صفة " العدل " المطلق الذي لم ولن تصل إليه شريعة أخرى. وهو عدل لا يميل مع الميل أو الهوى، ولو تعلق الأمر بالنفس أو بمن هو أقرب {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1)
كما أنه عدل لا يحيف مع العداوة أو البغض. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} (2)
وفي التطبيق: رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل شفاعة أحب الناس إليه في مخزومية سرقت فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد (3)» .
وعلى الجانب الآخر نزل القرآن يبرئ يهوديا من تهمة ألصقت به بغير حق، رغم أن اليهود يومئذ أعدى أعداء الدعوة والدولة معا. . لكن هذا البغض لم يحف بالعدل الإسلامي عن طريقه المستقيم. وكانت نهاية الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} (4)
والعدل الإسلامي لا يعرف الظلم، ولا يحبه ولا يسكت عليه: إن الله لا يحب الظالمين.
(1) سورة النساء الآية 135
(2)
سورة المائدة الآية 2
(3)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475)، صحيح مسلم الحدود (1688)، سنن الترمذي الحدود (1430)، سنن النسائي قطع السارق (4903)، سنن أبو داود الحدود (4373)، سنن ابن ماجه الحدود (2547)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 162)، سنن الدارمي الحدود (2302).
(4)
سورة النساء الآية 113
(5)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577).
«الظلم ظلمات يوم القيامة (1)» .
«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده (2)» .
وهي قبل ذلك وبعد ذلك شريعة ربانية:
و" ربانيتها " تجعل القلوب لها خير حارس وأقوى حارس، لا يغني عنها كثير من الحراس، وتغني هي عن كثير من الحراس.
انظروا كيف حركت " الربانية " مشاعر امرأة وإحساسها. . فراحت من تلقاء نفسها تعترف بذنب عقوبته " الإعدام ". راحت الغامدية تعترف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمقارفتها لجريمة الزنا، ويردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة. . ومرة. . فتعود بعد ذلك من تلقاء نفسها كذلك - بغير حاجة إلى شرطة ولا مباحث ولا مخابرات - تعود لتقول:«طهرني يا رسول الله "، فيقيم عليها الحد، ويقول صلى الله عليه وسلم في حقها: لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (3)» .
ويفعل مثلها " ماعز " ويراجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات فيصر على اعترافه! أين هذا من جرائم اليوم؟! يحتاج أصحابها إلى أكثر من جهاز يتتبعهم ثم لا يلبث أن ينتزع منهم الاعتراف انتزاعا!!
وفي مجال آخر تحرك " الربانية " ضمائر الناس. فيعطون الزكاة عن طيب خاطر، لا يتهربون ولا يخفون ولا يستخفون، حتى تستطيع حصيلة الضرائب في يوم ما أن تغطي حاجة الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وتفيض بعد ذلك، فتفعل الدولة ما لم تفعله أغنى دول العالم ولا أرقاها، تسدد عن الناس ديونهم.
واليوم تفرض الدولة " الضرائب " وترسل وراءها الجباة والمراقبين للتهرب، وما تستطيع أن تحصل " الحصيلة " الحقيقية للضريبة المفروضة.
ومثل أخير: حرمت الخمر في أمريكا بتشريع. . فما أطاعه أحد، بل بذلت الدولة لتنفيذه من وسائل الترغيب والترهيب ما بلغ في الأولى تقرير الجوائز وما بلغ في الثانية حد الإعدام. . وما استطاعت - رغم ذلك - أن تفرض احترام " قانونها " واضطرت للعدول عنه بعد ذلك.
وفي دولة الإسلام نزل التشريع الرباني بتحريم الخمر. . منتهيا بقول الله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4)
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2447)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2579)، سنن الترمذي البر والصلة (2030)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 106).
(2)
سنن الترمذي الفتن (2168)، سنن أبو داود الملاحم (4338)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 7).
(3)
صحيح مسلم الحدود (1696)، سنن الترمذي الحدود (1435)، سنن النسائي الجنائز (1957)، سنن أبو داود الحدود (4440)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 430)، سنن الدارمي الحدود (2325).
(4)
سورة المائدة الآية 91
فقالوا جميعا: انتهينا. . انتهينا، وقاموا إلى براميل الخمر وأوانيه يهرقونها فوق الرمال. .!
هذه الأصالة " لشريعة الله " جعلها - رغم البعد - أقرب إلى حبل الوريد، وجعلت استسماك أتباعها بها أشد من استمساكهم بحياتهم. لكنها تعرضت بعد البعد للإبعاد.
ولم يكن إبعاد شريعة الله عن رغبة أهلها، إنما تم في ظروف تنم عن أن الإبعاد كان تخطيطا وعملا لأعداء الله الذين أدركوا أن أول ما ينبغي نقضه " عروة الحكم " وأدركوا أن ذلك أيسر على يد من بالداخل عن أن يفرض من الخارج.
ولا يزال المثل الحي لذلك: إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا؛ اتجاها إلى العلمانية الآثمة الرافضة لحكم شريعة الله، ولقد سبق إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا حدثان هامان:
أولهما: إصدار انجلترا لوعد بلفور بإعطاء فلسطين لليهود.
وثانيهما: طلب زعيم الماسونية في " سالونيك " إلى الخليفة عبد الحميد إعطاء اليهود أرض فلسطين مقابل " جعل " تقدم به إلى الخليفة، فلما رفض الخليفة المسلم قال له:" ستعلم كم يكلفك هذا الرفض. . ".
وفي مصر
كان إصدار القوانين الأهلية المستمدة من القوانين الأجنبية بعد سنة واحدة من الاحتلال البريطاني أي في سنة 1883، وحين أرادت مصر إلغاء الامتيازات الأجنبية وانعقد لذلك مؤتمر جنيف سنة 1937م كان شرط المؤتمرين لتوقيع معاهدة " مونتريه " أن تستمد مصر تشريعها من التشريع الغربي.
وكما لم تتأثر شريعة الله " بالبعد " فهي كذلك لم تتأثر " بالإبعاد ".
ولا تزال صحوة مصر الإسلامية في 1971 م عند وضع الدستور، وإجماع الأمة كلها على الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله. لا يزال ذلك كله أقوى دليل على أن هذه الأمة لن تتخلى عن شريعتها، ولن يؤثر فيها " بعد " ولا " إبعاد ".
هذا عن الشبهة الأولى.
* * *
وأما الشبهة الثانية: فقولهم بوجود أقليات غير إسلامية
وما نعلم أن وجود الأقليات الإسلامية في بعض البلاد المسيحية منع تلك البلاد أن تفرض ما تشاء من قوانين ولو تعارضت مع الشريعة الإسلامية، بل ولو تعارضت مع العقيدة الإسلامية. بل وما نعلم أن الأقليات الإسلامية تنعم بجزء مما تنعم به في بلانا الأقليات غير الإسلامية.
وإلا فليقولوا لنا؛ لم تتعرض الأقلية الإسلامية في الفلبين لما تتعرض له من اضطهاد وعسف. بل وإبادة!!؟ ولم تتعرض الأقلية الإسلامية في الحبشة وفي لبنان - وهي في حقيقتها أغلبية - لم تتعرض لما تتعرض له؟!
ولا نذهب إلى الماضي لننكأ جروح الأندلس وهي غائرة في الصدور وفي القلوب. ولا نذهب إلى الدول مثل روسيا والصين لنسأل عن حقوق المسلمين فيها، وبرغم ذلك كله نقول:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (1) لن نأخذ " الأقليات غير الإسلامية " بما تفعله الدولة غير الإسلامية بأقلياتنا؛ لأن الله علمنا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) وعلمنا {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (3) وعلمنا مع ذلك كله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4)
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معها: «من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة» .
من هنا نترك لهم عقيدتهم، فلا إكراه في الدين. ونترك لهم معها عباداتهم، ونترك لهم كذلك أحوالهم الشخصية " من زواج وطلاق. . ".
أما القانون العام " فإنه يسرى عليهم كما يسري على المسلمين، وهو بالنسبة لهم بعد تشريع الدولة. وفي كل العالم تصدر التشريعات بالأغلبية فكيف ينكر على بلد إسلامي أن يتحاكم أهله إلى قانون إسلامي؟!
(1) سورة المائدة الآية 8
(2)
سورة الأنعام الآية 164
(3)
سورة النجم الآية 39
(4)
سورة الممتحنة الآية 8
وأما الشبهة الأخيرة: فقولهم بقسوة الحدود
وقولهم هذا كقول من شاهد قاتلا يدفع ضحيته بعنف فراح يلوم الضحية على هذا العنف وترك القاتل بغير مساءلة ولا عتاب!!!.
نعم. . ينظرون إلى الحدود ولا ينظرون إلى الجرائم.
ينظرون إلى المجرمين نظرة العطف ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة.
والمجرم في الحد قد يكون واحدا، أما الضحية فهو أكثر من واحد. إنه " العفة " و "الفضيلة " و " الشرف " و " الأخلاق " و " الحياة ". إنه المجتمع كله {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) إن المجرم بمقارفته للحد يتحدى المجتمع كله فكيف يصبر عليه؟ وكيف يعفو عنه؟ !
إن الفقه الحديث لم يستطع أن يتسامح في جريمة " الخيانة العظمى " ولا أن يتهاون فيها، وأعطاها أقسى ما عنده من عقاب. فكيف ينكر علينا " الحدود " وجرائمها عندنا خيانة عظمى، انتهاك " للنظام العام " للدولة؟!
والذين ينكرون علينا قطع يد السارق - وهي لا تقطع مع شبهة، كما أن لها ضوابط وأركانا - لم ينكروا على بعض الدول الاشتراكية إعدام السارق. حرموا يده وأحلوا رقبته!! وهكذا يغدو منطقهم متهافتا متهاترا.
هذه بعض الشبهات، أو أهم الشبهات.
يماري بها من كان في عقله جهل أو كان في قلبه مرض.
(1) سورة المائدة الآية 32
ننتقل بعد ذلك إلى ما تتابعت فيه بعض الدول الإسلامية أو توشك أن تتابع فيه، وهو قبول تجزئه الشريعة؛ لتحكم جانبا ويحكم القانون الوضعي جانبا آخر، وهو أخطر ما وقعت فيه - أو تقع فيه - بعض البلاد الإسلامية.
أما خطورة الأمر: فلأنه يتم أو يمكن أن يتم خفية دون أن يشعر الناس فتنقض عرى الإسلام عروة عروة، والناس معتقدون أنهم بخير وأن دينهم بخير؛ لأنهم يسمعون الأذان ويؤدون الصلاة! تماما كما ينقب بيت ويسرق منه في كل ليلة شيئا، وصاحبه مطمئن نائم؛ لأن بيته لم ينقض عليه.
من هنا كان تعطيل جزء من شريعة الله، واستبدال جزء به كان هذا أخطر على المسلمين من تعطيلها كلها؛ لأن تعطيلها دفعة واحدة ينبه المسلمين للخطر فيفيق النوم الغافلون، أما تعطيلها جزءا جزءا فإن النوم والغافلين لا ينتبهون. وعرى الإسلام تنقض عروة عروة، أولها الحكم وآخرها الصلاة.
ولقد كان ذلك مسلك أعداء الإسلام دائما؛ فالتتار حين احتلوا أرض المسلمين لم يرغموهم على ترك شريعة الله كلها، وإنما عرضوا عليهم أن يأخذوا من الشريعة الإسلامية ومن شريعتهم ومن شرائع أخرى، وقدموا لهم الياسق، فطعن علماء المسلمين في ذلك، ورفضوه بالإجماع، وأفتوا بكفر من قبله أو تحاكم إليه (1).
وهو ما حدث في تركيا قبل إلغاء الخلافة الإسلامية. فقد بدأ الأمر في سنة 1840 بإصدار قانون عقوبات مأخوذ عن القوانين الأجنبية.
وفي سنة 1850 بإصدار قانون التجارة مأخوذ كذلك عن القوانين الأجنبية.
وفي سنة 1860 بإنشاء المحاكم النظامية إلى جوار المحاكم الشرعية.
وأخيرا كان إلغاء الخلافة كلها في سنة 1923م.
وهو ما حدث في مصر كذلك - على نحو ما أشرت إليه.
ولقد نبه الله سبحانه إلى هذا الخطر فقال مخاطبا نبيه ومن بعده كل ولي أمر، وكل مسلم:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (2)
(1) ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (جـ2 ـ ص 67).
(2)
سورة المائدة الآية 49
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) ففي هذه الآيات عبر سبحانه وتعالى عن تجزئه أحكام الله بأنها فتنة. وأي فتنة تلك التي يقع فيها المسلم حين يحار في نظام يفرض في بلد ترتفع فيه المآذن وتقام فيه الصلوات. ثم تعطل الحدود، أو تمنع فيه الزكاة، أو يسمح فيه بالربا تحت اسم الفائدة أو تحت أي اسم آخر؟
* * *
وبعد أن عبر سبحانه وتعالى عن تجزئه أحكام الله بأنها فتنة، ووضع لنا الميزان الحق الذي لا تزيغ معه القيم ولا تختل المفاهيم، فجعل حكم الله كاملا في كفة وجعل ما دون ذلك حكم الجاهلية، سواء عطلت الشريعة كلها أو بعضها؛ لأن الجاهلية تتحقق بالمعصية والانحراف الصغير كما تتحقق بالكفر والانحراف الكبير.
وفي مكان آخر عبر الله سبحانه عن هذه الفتنة الجاهلية بالكفر فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (2)
وكما يتحقق الكفر بجحود كل القرآن يتحقق بجحود بعضه، وكما يتحقق الكفر برفض كل القرآن يتحقق كذلك برفض بعضه.
وأخيرا عبر عنها القرآن بأنها محاربة لله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4)
حرب من الله ورسوله إذا عطلنا حكما واحدا، إذا أبحنا الربا، وكم من بلادنا الإسلامية تبيح الربا تحت اسم الفائدة في البنوك. أو تحت اسم المعاملات التجارية بين الأفراد، وكأننا نخدع الله بتغيير اسم الربا
(1) سورة المائدة الآية 50
(2)
سورة البقرة الآية 85
(3)
سورة البقرة الآية 278
(4)
سورة البقرة الآية 279
إلى اسم آخر {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (1) وكم من بلادنا تبيح - مع الربا - الخمر والزنا !
وكم منها تستبيح مكارم الأخلاق فتهزأ بها وسائل إعلامها وتسخر: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2){وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3)
والذين يقولون: إننا نستكمل ما جاء في الشريعة بأنظمة لم تأت بها الشريعة مثل بعض المعاملات التجارية أو بعض الأمور الاقتصادية أو بعض النظم السياسية.
هؤلاء حكموا من حيث يشعرون أو لا يشعرون. . حكموا على دين الله بالنقص، والله سبحانه وتعالى أنزل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4)
ومن حيث لا يشعرون أو يشعرون حكموا على الله سبحانه بالنقص؛ لأن الشيء الذي يصدر صورة لصاحبه، أو كما يقول المثل القديم: كل إناء ينضح بما فيه. فإذا اعترفنا لله سبحانه بالكمال فلا بد أن نعترف به للدين الذي أنزله خاتم الأديان. واعترافنا بكمال الدين اعتراف بكمال الله سبحانه، والقول بنقص الدين بشكل أو بآخر إسناد للنقص إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهم من حيث لا يشعرون يحكمون على أنفسهم بالجهل أو العجز أو بالخيانة؛ بالجهل إذ لا يعلمون حكم الله فيما يستوردون، أو بالعجز إذ يعلمون لكنهم لا يستطيعون الاجتهاد، أو بالخيانة إذ يعلمون ويستطيعون ولا يفعلون!
بعد ذلك هل أنا بحاجة إلى أن أبين جوانب دين الله وشريعته؟
هل أنا بحاجة إلى أن أبين أن أساسها العقيدة تنشر بين الناس تعليما وإعلاما. . ويدافع عنها كذلك تعليما وإعلاما. . وبسيف السلطان لمن حاد أو زاغ، ولا يرجع أو يئوب؟
هل أنا بحاجة إلى أن أبين أن الأخلاق تقف مع العقيدة ليربى عليها الفرد وتربى عليها الأسرة؟!
(1) سورة البقرة الآية 9
(2)
سورة الشورى الآية 30
(3)
سورة الشورى الآية 31
(4)
سورة المائدة الآية 3
ويربى عليها المجتمع، ويدافع عنها كذلك تعليما وإعلاما وبسيف السلطان كذلك لمن حاد أو زاغ ولا يراجع أو يئوب. .؟ !
ثم هل أنا بحاجة إلى أن أبين منزلة الشعائر والعبادات في بناء الإسلام، وإلى أن أبين أن المقصود ليس مجرد شكلها وإلا لغدت جسدا بغير روح، وشكلا بغير مضمون؟! فأي قيمة لها؟!
وإلى أن أبين أن تعظيمها وتوقيرها وإعطاء القدوة من الحاكم للمحكومين. . كل ذلك واجب. . وأجب. . وأجب. .
وأخيرا. . هل أن بحاجة إلى أن أبين أن أحكام المعاملات هي الجزء الأخير من شريعة الله، التي تأتي بعد العقيدة، والأخلاق، والعبادات؟! وأن واجب الدولة ليس قاصرا على إصدار القوانين والأحكام، لكنه قبل ذلك واجب توجيهي تربوي تعليمي نخلف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وهل لي أن أعيد قولا بدأته: أن شريعة الله بناء متكامل يشد بعضه بعضا. . وأنه لا يقبل التجزئة، وأن ذلك فتنة وجاهلية وكفر وحرب لله ورسوله. .
وبعد. .
فإنه ليس بالحدود وحدها تقام شريعة الله. .
إنها بناء متكامل يشد بعضه بعضا، الحدود بعض لبنائه، لكنها لا تقوم إلا بغيرها من اللبنات. . إلا بالعقيدة، والأخلاق، والشعائر، ومنها شعائر أحكام المعاملات. . وهي تشمل ما يسميه رجال العصر: فروع القانون العام والخاص على السواء.
وأن بيتنا المتكامل ليس بحاجة إلى أن يدخله غريب يرممه أو يكمله. إنه يلفظ كل غريب أو مستغرب، ويرحب بكل قريب. والإسلام رحم بين أهله!!
* * *
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يكون الواحد منا " إمعة " إذا أحسن الناس أحسن وإن أساءوا أساء، ونعى القرآن على قوم ينعقون بما لا يسمعون إلا دعاء ونداء فقال تعالى:
إن الثقافة تتجه يوما بعد يوم إلى العلمانية، والجيل الجديد يولع يوما بعد يوم بكل ما هو أجنبي.
العقيدة خليط بين الكفر والإيمان، والخرافة والتقليد!! وهو ما عبر عنه ابن خلدون بولع المغلوب بتقليد الغالب.
إنه ليس بالحدود وحدها تقام شريعة الله. إنها بناء متكامل يشد بعضه بعضا، لا يقبل التجزئة ولا التفرقة، وإقامة الحدود دون أداء الزكاة تجزئة، وإقامة الحدود مع بقاء الربا تجزئة، وإقامة الحدود قبل أن تقام العقيدة والأخلاق وكذا الشعائر. . إقامتها تربية وتعليما ونشرا وإعلاما ودفع كل ما يمسها أو ينال منها كذلك تجزئة.
ليس بالحدود وحدها تقام الشريعة، إنما الحدود جزء منها واجب ولازم، لكنه لا يقوم وحده، كما لا يقوم جزء من طابق من غير ما تحته من طوابق أو أساس.
أقيموها كاملة كما أنزلها الله كاملة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)
* * *
(1) سورة البقرة الآية 171
(2)
سورة المائدة الآية 3
الدكتور: علي محمد جريشة
البلد: صفط زريق - مركز ديرب نجم - شرقية - مصر.
المؤهلات: دكتوراه في الشريعة والقانون.
المؤلفات:
(1)
في الزنزانة.
(2)
الإيمان الحق.
(3)
الشريعة الإسلامية العليا " تحت الطبع " إن شاء الله.
(4)
عندما يحكم المجرمون " تحت الطبع " إن شاء الله.
(5)
ليس بالحدود وحدها " تحت الطبع " إن شاء الله.
(6)
مبادئ في الفقه السياسي الإسلامي " تحت الطبع " إن شاء الله.
(7)
بحث في موسوعة الفقه الإسلامي " آل ".
(8)
مقالات حول الشريعة بجريدة الأهرام القاهرية.
الأعمال التي مارسها: وكيل النائب العام المصري.
نائب بمجلس الدولة المصري.
مستشار بمجلس الدولة المصري.
أستاذ بجامعة الرياض - المملكة العربية السعودية.
الأعمال الإضافية: الاشتراك في موسوعة الفقه الإسلامي - الكويت.
مدير تحقيقات.
رئيس لجنة بوزارة التموين ومستشار نائب رئيس الوزراء المصري.
رئيس اللجنة الأولى للقسمة القضائية بوزارة الأوقاف المصرية.
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/ 238).