الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونظرا لاستغراق الحسبة لمعظم الولايات، وبسطها ظلها على جل الولايات الإسلامية، وأن ولاية التوثيق - إذا نظرنا إلى موضوعها ومادتها - إنما تنصب إلى تقرير وتحرير وإثبات ما هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإننا نجد - في النهاية - أن الحسبة هي الأساس الظاهر للولايات الإسلامية.
أي أن النظام الإداري الإسلامي - الذي تديره هذه الولايات العامة - أساسه العام هو الحسبة. فهي قطب الرحاة فيه وحجر الزاوية في بنائه.
* * *
ما هو
النظام الإداري الإسلامي؟ وقيام الأفراد به:
وقبل أن نسير في عرض الموضوع نحب أن ننبه إلى حقيقة قد تغيب عن الكثيرين. وهي أن النظام الإداري الإسلامي لا يقوم على الجهاز الحكومي فقط كما هو الحال في النظام الحديث، بل هو يقوم - بصفة أساسية - على الأفراد.
فالنظم الحديثة تجعل ولاية إدارة المرافق العامة احتكارا للسلطة. وهي وحدها التي تقوم بها بصورة " سلطة عامة " تمارس على الأفراد ما نسميه " بالامتيازات الإدارية " وهي وسائل خاصة تتسلط بها على الأفراد وتقهرهم بها، لتتمكن من السير بالمصالح العمومية المتمثلة - في النظم الحديثة - في تسيير المرافق العامة.
وأما إذا قام الفرد بخدمة من الخدمات العادية (كالنقل الحر، أو بيع الأدوية والأطعمة والضروريات) فإنه لا يتمتع في ذلك بالامتيازات الإدارية المذكورة، ولا يقوم بهذه الأعمال كسلطة عامة، وبالطريقة والوسائل التي تقوم بها الحكومة لو أنها قامت بذات هذه الأعمال.
* * *
فأما في الإسلام فإن الأصل هو أن يتولى الأفراد المرافق العامة كلها.
وسبب ذلك أن القيام بالمصالح عندنا فرض كفاية، وأنه إذا تخلف المسلمون عنها فإنهم يأثمون جميعا.
فتفاديا لهذا الإثم العام يقوم الأفراد عندنا في الإسلام أصالة عن أنفسهم بأعمال هي من النوع الذي تقوم به الدول العصرية.
فالأفراد عندنا مكلفون مباشرة بأن يعبدوا الطرق وينشئوا الجسور ويقيموا المستشفيات والمدارس والمساجد ونحو مما يلزم الحاجة العامة. نعم إذا كان بيت المال قادرا على ذلك قام به. ولكن إذا لم يكن بيت المال قادرا عليه، أو أهمله، فإن ذلك لا يعفي الأفراد من واجب إقامتهم لهذه المصالح ورعايتهم لها، ولا يكون تخلف السلطة العامة عنها عذرا لهم في فسادها.
وقد ترك هذا آثارا ظاهرة في الأحكام. منها: قيام نظام الوقف كنظام أساسي في الشريعة الإسلامية.
فالواقع أن الوقف هو " تنظيم مالي " للإنفاق على مرفق من المرافق الإدارية العامة. فهي كلها مصالح عامة مما يلزم الجمهور ويحتاجون لها كخدمات عامة في حياتهم. فالأوقاف ترصد على العلاج والتعليم والإحسان والدفن والمصالح المختلفة وهي كلها في حقيقتها وجوهرها من قبيل الخدمات الإدارية التي تقوم بها الدول الحديثة. وذات طبيعة إدارية محضة إذا نظرنا إليها بمعيار نظرة النظم الحديثة. وإنما واجهت الشريعة واجب الإنفاق الدائم على هذه الخدمات بوسيلة مناسبة هي: إيجاد المصرف المالي الدائم عليها باعتبارها جهات بر لا ينقضي.
ومنها: أحكام إصلاح الطرق والجسور والأنهار وكريها وتطهيرها.
فإن الشريعة الإسلامية تنظر إلى الطريق العام وكأنه ملك مشترك بين المنتفعين. وكذا الحال بالنسبة للمساقي ومجاري المياه والأنهار. وقد صرح الأحناف بأن هذه الحالة تعتبر " شركة إباحة " بين هؤلاء المنتفعين، وعلى هذا الأساس ألقت عليهم الواجب المباشر والتكليف بذات الالتزامات التي تقوم بها السلطات الإدارية العامة في النظم الحديثة.
وهكذا يمكن القول في سائر الاحتياجات العامة. فلا شك أن الناس يأثمون إذ تركوا أنفسهم في مشقة تهدد أمور حياتهم. فإنهم إذ خلت قريتهم أو ناحيتهم من طبيب - مما يهدد حفظ النفس والنسل - فإنهم يأثمون حتى يستقدموا طبيبا وحتى يندبوا من أبنائهم من يقوم بملء هذا الفراغ. . وهذه وظيفة إدارية حقيقية. وتقوم