الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك أنشئت شخصيات رقابية كبرى - لها هيمنة على السلطات في مختلف النواحي في الغالب - من طراز جديد لحساب الروح الشعبية وأهمها شخصية " أمبودزمان " في السويد، وشخصية مقاربة منها في فرنسا أنشئت في سنة 1973 ميلادية باسم الوسيط (انترميديير) ومنها شخصية " المدعي الاشتراكي " في مصر، وهم جميعا يعملون على إعلاء الروح الشعبية وحمايتها، ولكن مكانة هؤلاء الأشخاص وقوة شخصيتهم وإنتاجية وسائلهم تختلف اختلافا حسب الظروف، وهي كلها لم تقرر تقاليدها وحدود علاقاتها بالسلطات التقليدية - التشريعية والقضائية والتنفيذية - وما زالت أوضاعها تثير الكثير من المشاكل والبحوث التي لم يستقر الرأي فيها بعد. .
واتجهت طرق الإدارة إلى العناية " بالإدارة الشعبية " بإشراك العمال والمنتفعين أو المستهلكين في مجالس الإدارة ومساهمة الشعب في تكوين القرارات العامة.
وهذه الوسائل الشعبية أيضا قشرية وليست حقيقة؛ لأن العامل أو المستهلك الذي يجلس في مجلس الإدارة يكون ضعيفا إلى جانب المديرين الحقيقيين الذين يعلمون حقيقة الحال ويطلعون على أصول الأوراق في حينها ويتناولون الوقائع فور حدوثها، ويباشرون الإدارة اليومية ويتمتعون بنفوذ فعلي في المشروع. . فضلا عن أنه لا يعين ولا يبقى في هذه المجالس إلا الشديد الولاء والخضوع. . وإلا أسفر الأمر عن نزاع خطير، وخاصة في حالة وجود نقابات وتشكيلات مقابلة. . وبذلك إما أن تسفر هذه الاتجاهات عن أوضاع صورية - وهو الغالب - أو تسفر عن منازعات وصراع لا ينتهي. .
* * *
الوضع في الإسلام
والأساس الذي يرتكز عليه النظام الإسلامي كله - في جميع نواحيه - على الإيمان بالتوحيد. وهو إيمان يرتكز على العمل بما أنزل الله تعالى من نصوص الكتاب والسنة وتحري المصالح والمقاصد الشرعية التي يدور الاجتهاد في إطارها.
فالإيمان عندنا نية وقول وعمل.
والالتزام بالعمل بما أمر الله به، ومنع ما نهى الله عنه، هو التزام إيجابي عندنا في الإسلام، بسبب ما بيناه من أنه مقرر على وجه فرض الكفاية التي يأثم الجميع بتركها، والذي يولد حالة من التضامن العام بين الجميع في إقرار أحكام الله وإعلانها.
وهذه الظاهرة العامة توجد فوارق شديدة من مركز الفرد المسلم في المجتمع الإسلامي، ومركز الفرد المواطن في المجتمع الحديث: أولا: أن الحقوق والحريات في المجتمع الإسلامي هي تكاليف وليست تمتعا ذاتيا كما في المجتمع العصري.
ومن أجل ذلك عنيت كتب أصول الفقه بأبواب. " التكليف " ونظرت إلى مراكز الأفراد على أنها وسائل في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فالفرد يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، ويجب أن تتوجه نواياه نحو الإخلاص لله.
ومن أظهر ما يظهر فيه ذلك: أن يراقب صالح عامة المسلمين وصالح الكافة في أعماله، وهذا يجعله أصيل في متابعة المصالح العمومية.
ثانيا أن الفرد في المجتمع الإسلامي لا يمارس حقوقه فقط كعضو في هيئة، بل بصفة أصلية مباشرة وقد يتأتى أن يمثل الفرد المسلم في المجتمع كافة المسلمين، بما يقوم به لقوله صلى الله عليه وسلم:«ذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم (1)» قيل: أي أقلهم كالمرأة والرقيق، وقيل: أقربهم؛ لأنه أولى بأن يجير ويبادر. وقد استند الفقهاء إلى هذا الحديث في أبواب الإمامة. ولكن أراه - والله أعلم - أولى بأن يعمل به في مختلف الأبواب لما قلناه من أن إقامة المصالح فرض كفاية يسد مسد قيام الكافة به. ولذلك فقيامه بالمصلحة على هذا الأساس يكون عن المسلمين جميعا، وهم يعتمدونه ما دامت طبقا لما أنزل الله وما تدور عليه المصالح الشرعية بلا خفاء لوضوح أسس النظام الإسلامي وثباته.
ثالثا: أن ما تقدم استتبع أن يمكن المسلم من وسائل إيجابية للقيام بما تقدم، بأن يستعمل إمكانياته كوسائل لتحقيق ما أمر الله به ومنع ما نهى الله عنه. وهذه الوسائل الخاصة هي محل الكلام في الحسبة وطرقها ومراتبها. فإن صلب هذا الباب وقوامه هو تحقيق هذه الطرق وهذه المراتب على وجه يحقق المصالح الشرعية المقصودة ويوازن بين مختلف المصالح التي تعتمل حولها النوازل.
وقد تصل هذه الطرق إلى درجة أخذ الحق باليد وتغيير الباطل بالفعل المباشر، بأن يقوم المسلم بتغيير المنكر بيده لقوله صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده (2)» . . . الحديث.
ويختلف ذلك من مذهب إلى مذهب، وفي الغالب بسب الدرجة الحضارية التي عاش فيها المذهب، إذ أنني لاحظت - والله أعلم - أن أحكام مذهب عاش في الأطراف وفي الجماعات التي لم تنتظمها دول قوية
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7300)، صحيح مسلم الحج (1370)، سنن الترمذي الولاء والهبة (2127)، سنن النسائي القسامة (4734)، سنن أبو داود المناسك (2034)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 151).
(2)
صحيح مسلم الإيمان (49)، سنن الترمذي الفتن (2172)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، سنن أبو داود الصلاة (1140)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 54).
كمذهب الأباضية مثلا - تختلف عن أحكام المذاهب التي عايشت الدول القوية كالحنفية مثلا. إذ أن الأولى تسمح للمسلم دائما أن يغير بيده، بينما تتجه الثانية في الغالب إلى أن يقوده إلى السلطان أو الحاكم (القاضي) وبعضها الآخر - وهو الغالب - يضع حكما احتياطيا بصفة دائمة إذا لم يوجد سلطان أو حاكم.
ولا يكاد يوجد خلاف في المذاهب في إتلاف آلات اللهو والكفر وإراقة الخمر عند القدرة وأمن الفتنة وهذه كلها من وسائل " التنفيذ المباشر " بالمصطلح الحديث وهو لا يجوز في القانون الحديث، فلا يسمح للإنسان فيه أن يسترد ماله من غاصب - وهو جائز عندنا في الإسلام - ولا يجوز في القانون الحديث بأي حال " أخذ الحق باليد " على حد تعبيرهم. ومن أجل ذلك فإن النظم الحديثة تعتمد على الدولة فقط وتنهدم تماما بانهدامها، بينما يبقى الإسلام ما استدار الزمان وتغيرت أحواله. وما كان الله ليجعل قيام الإسلام رهين أحوال الدولة وإلى الله ترجع الأمور. وكذلك فإن الإسلام يزود الفرد بوسيلة قضائية عظيمة القيمة هي دعوة الحسبة.
* * *
وفي الواقع فإن هذه الدعاوى الثلاث التي عرفها النظام الإسلامي، وهي الدعوى القضائية العادية، ودعوى الحسبة، ودعوى المظالم، تهيئ حماية كاملة للتطبيق الإسلامي بتكامل وتكفل حماية ممارسة الفرد لواجباته الشرعية بمأمن تام وتوازن بالغ.
فإنه إذا قام المسلم - مثلا - بإتلاف آلة للفسوق فإن هذا العمل المباشر يقوم مقام رفعه الدعوى أمام القاضي بطلب إتلافها واستصدار الحكم اللازم وتنفيذه فورا على الفاسق، الذي يكون - في الواقع، مدعا عليه في الأصل. . ولكن هذه الوسيلة الباهرة تضطر هذا الفاسق إلى الابتداء بالدعوى والتقدم بها إذا تظلم من إتلاف آلته أو منعه بالقوة عن فسوقه. . ويصير المسلم الذي منعه عن هذا المنكر وكأنه المدعى عليه فيها، ولا يخفى ما يتمتع به المرفوع عليه الدعوى من امتياز في الإجراءات، وما يتكلفه رافعها من صعوبة. . كما أنه إذا كان المنتظر - بسبب تطبيق قواعد الإسلام على وجهها الصحيح - أن الدعوى التي يقيمها الفاسق في هذه الحالة سيكون نصيبها الرفض والخسران، فإنه - في الواقع - سيضطر إذن إلى عدم الاعتراض والسكوت، مما إلى جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما دام القضاء والسلطة يؤيدان من يقوم بها.
وبذلك تؤدي هذه الوسائل وظيفتها بأمان تام من الفتنة، ولو أنها نفذت تنفيذا جبريا بالطريق المباشر بين الأفراد.
هذا ولا يفوتنا قبل الانتهاء من هذه الملاحظات البسيطة على نظام الحسبة والنظام الإداري أن ننوه بأن كل الولايات الإدارية المعاصرة هي من قبيل الحسبة أيضا. فالنيابة العمومية والرقابة الإدارية والشرطة والقضاة والمفتشون والمعلمون والقائمون بالإعلام والتوعية وحماة النظام من أي نوع ومنفذوه والقائمون بالمرافق العامة هم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر وقائمون بالحسبة.
وأما الأعمال التنفيذية البحتة - ومنها أعمال التوثيق السابق ذكرها - فلا يعتبرها القانون الحديث أعمالا إدارية بالمعنى المفهوم بل هي - في نظره - أعمال مادية لا ترقى إلى مرتبة التصرفات الإدارية.
وبذلك فمن الممكن - بل الواجب - الإفادة من أصول نظرية الحسبة في الدول العصرية الإسلامية مع ما بيناه من التعويل على الفرد في إقامة النظام الإداري على ما بيناه.
(1) سورة الإسراء الآية 82