الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الحليم محمود
من زوايا الدعوة إلى الله
قال الله تعالى:
آية: 104 - آل عمران.
ونبدأ فنقول:
إن كلمة " من " في قوله تعالى: " منكم " إنما هي للتبعيض، أخرجت من لا يستطيعون الدعوة إلى الخير ولا يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعجزهم أو جهلهم أو ضعفهم.
وهذا المعنى على هذه الصورة ينسجم انسجاما
الدكتور عبد الحليم محمود
شيخ الجامع الأزهر
(1) سورة آل عمران الآية 104
تاما مع المعنى إذا قلنا: إن " من " للتبيين أو أنها صلة وتكون بمثابة " من " في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (1)
إنه سبحانه لم يرد اجتناب بعض الأوثان بل أراد: اجتنبوا الأوثان جميعها.
" والأمة كلها إذن - ما عدا من لا يستطيعون - مأمورة بالدعوة إلى الخير، ومأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك أن الآية الكريمة افتتحت بالأمر:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} (2)
وهذه الصيغة صيغة أمر؛ لأن اللام في قوله تعالى: " ولتكن " لام الأمر.
على أن القرآن صريح في إيجاب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة، يقول سبحانه:
ولقد بدأت هذه الآية الكريمة بالدعوة إلى الخير، والخير في الآية الكريمة: هو الأخلاق الفاضلة.
* * *
والأخلاق في جو الإسلام مرتبطة بالدين ارتباطا لا ينفصل، منه تنبع، وعلى أساسه تقوم، وعنه تصدر، إنها جزء من الدين الإسلامي، لا يتجزأ، مصدرها هو مصدره: إلهي رباني.
وبعض الناس في العصر الحديث يريد أن يجعل للأخلاق مصادر أخرى.
(1) سورة الحج الآية 30
(2)
سورة آل عمران الآية 104
(3)
سورة آل عمران الآية 110
يريد بعضهم أن يجعل أساس الأخلاق الضمير، بيد أن ذلك خطأ بين، فالضمير يربى ويكون، وتربيته وتكوينه هما شكله، ونزعته واتجاهه، الذي يتكيف بحسب الثقافة والبيئة والعصر والوسط.
أين مثلا الضمير عند الأمريكي الأبيض بالنسبة للأمريكي الأسود، وأين ضمائر البيض في جنوب إفريقيا بالنسبة لأهل البلاد الأصليين، وأين ضمير المستعمر أينما كان بالنسبة للمستعمر؟؟
إن الضمير أحيانا يصنع كما تصنع المزيفات، وهو إذن مقياس للأخلاق خاطئ.
وإذا بحثنا في معاجم اللغة العربية عن معنى كلمة " الضمير " فإننا لا نجد من بين معانيها، المعنى الأخلاقي، الذي نفهمه من هذه الكلمة في العصر الحاضر ونستعملها فيه ونطلقها عليه، وهي لم ترد بهذا المعنى في القرآن، أو الحديث، أو في الشعر العربي القديم، إنه معنى محدث، أخذناه عن الغرب في العصور الحديثة.
ويقول صاحب كتاب المشكلة الأخلاقية الأستاذ الفرنسي أندريه كرسون:
" ولما استعرضوا التاريخ والوقائع والمشاهدات، يستنيرون بها في أمر الضمير رأوا: أن الناس في كل العصور وفي جميع الأقطار يستشيرون ضمائرهم.
" ولكنها لا تسمعهم جميعا لحنا واحدا إذ أن ما يظهر عدلا وخيرا لبعض النفوس المخلصة في عصر خاص، لا يظهر عدلا ولا خيرا لنفوس أخرى، هي أيضا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر، أو مكان آخر ".
ويقول: " وكانت القوانين الرومانية القديمة، تجعل من المرأة والأطفال ملكا للزوج، كما لو كانوا أمتعة وأنعاما، لهذا كان للأب، من بين الحقوق الأخرى، الحق في أن يعرض ابنته المولودة حديثا، في السوق العام، إذا كانت له بنت أخرى، ولسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيدا.
فها هم أولاء أسلافنا، كانوا يرون شرعية تطبيق العقوبة على مجرد ظن الجريمة، وكانوا بلا أدنى قلق يشاهدون الفرد مشنوقا من أجل اختلاس تافه ".
ويقول: " ومن ناحية أخرى: فإنه لا شيء أغرب من مشاهدة بعض الالتزامات التي تقتضيها حياة بعض البدائيين، وليس من المجهول، ما يعد من المحرمات الدينية عندهم: مثل تحريم بعض أنواع اللحوم، أو بعض أنواع الأشربة، أو خروج النساء بدون حجاب.
وأمر الطقوس السائدة في البلاد " الأوقيانوسية " معروف مشهور: فهي تعتبر من الآثام، ما قد يظهر لنا طبيعيا، بل فوق ذلك ما يظهر ضروريا: إنها تحرم تناول الطعام تحت السقف، والمكث في المسكن إذا كان المرء مريضا، واستعمال الأيدي في التغذية، بعد فراغ المرء من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق على أن الدلالة العميقة إنما هي مظاهر اختلاف الضمير في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، المتحضرة المتمدينة.
وهل الرأسمالي، الذي يدافع عن نظام الميراث، أقل إخلاصا من الشيوعي الذي يهاجمه؟
أم هل الديموقراطي، الذي يقرر ضرورة الانتخاب العام، أقل إخلاصا من الأرستوقراطي الذي يعلن عدم ملاءمة هذا النظام؟
وهل " فيلانت " عندما يبيح أنواعا من الكذب، أقل اقتناعا برأيه من " ألسست " عندما يحرمها؟
إن " شارلوت كردي " عندما قضت على حياة " مارا " كانت ترى - ولا شك - أنها تقوم بعمل أخلاقي عظيم بلا مراء، فهل المواطنون الذين ساقوها إلى المقصلة كانوا أقل إيمانا منها بالقيمة الأخلاقية لعملهم هذا؟ " اهـ
* * *
هذه الأمثلة التي ذكرها الأستاذ " أندريه كرسون ": إنما هي قطرة من بحر، مما يمكن أن يبرهن به، على اختلاف الضمير، بحسب اختلاف الزمن، أو اختلاف الثقافات في البيئة الواحدة، وهناك أمثلة لا تحصى إذا ما قارنا ضمائر العرب في العصر الجاهلي، بضمائرهم في العصر الإسلامي، أو ضمائر الوثنيين في مكة بضمائر المسلمين فيها عند نشأة الإسلام، أو إذا ما قارنا ضمائر المتفرنجين في مصر في العصر الحاضر بضمائر المحافظين فيها.
والنتيجة لكل هذه المقارنات هي: أن اتخاذ الضمير كأساس للأخلاق، أو كمقياس لها إنما هو مجرد حماقة وعبث.
* * *
لقد
نظر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق إلى الضمير، وإلى أحكامه نظرة فاحصة دقيقة. وانتهى فيه إلى الحق، فوضعه في موضعه الصادق.
لقد كتب في كتابه تفسير القرآن الكريم ص 225 تحت عنوان: " إرضاء الضمير " مقياس غير منضبط، ما يلي:
" وهناك فريق من الناس يرون أن أساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدونه خيرا للمجتمع، ويرون أن هذا كاف في سعادة الإنسان، وأن الضمير كفيل بتقدير الخير ومعرفته دون رجوع إلى الله وما يرسم لعباده من شرع وخلق، وأنهم بهذا ليسوا في حاجة إلى الوحي، وأن الوحي إذا كان فإنما يحتاج إليه لإرشاد من ليسوا من أرباب الضمائر الحية المتيقظة، وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه الأنظار والآراء، وقلما نجد في تاريخ هذه النظرية - قديمة وحديثة - اتفاقا على نفع جزئية معينة، أو ضرر الخير والفضيلة، وقد عدل كثير من الفلاسفة عن آرائهم الأولى، واستحدثوا آراء أخرى جديدة، ولهذا تعترك في عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية، بل يتنازع أرباب المذهب الواحد، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأسه في وقتين مختلفتين، وكل هؤلاء يتحاكمون إلى الضمير، أو يتحاكمون إلى الإدراك البشري في معرفة الفضيلة، وهو تحاكم - كما ترى - إلى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة، وهو في الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم في طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم في أمنه واستقراره، وتشعل فيما بين جوانبه نار الحروب والتدمير، ولا سبيل إلى الاستقرار في هذا العالم وسلامته من أثر الآراء المشتجرة إلا بالرجوع إلى أساس ثابت منضبط صادر عن عليم بطيات النفوس. ونزعات البشرية، يبصرهم ذلك الأساس بالخير والفضيلة التي ارتسمت في لوح الوجود الحق الذي لا يكتنهه إلا خالق الوجود ومدبر الكون على ما يعلم فيه من سنن وشئون، وليس ذلك المبصر إلا وحي العليم الحكيم:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) اهـ.
* * *
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق الفاضلة أو الخير الذي دعا الله سبحانه إليه إلى المصلحة العامة، ولكن المصلحة العامة كلمة غير محددة. وكل من يتحدث باسم المصلحة العامة: إنما يتحدث باسم فكرته هو سواء أكانت هذه الفكرة منحرفة أم ليست منحرفة.
والمصلحة العامة إذن كأساس للأخلاق: إنما هي أساس غير مضمون.
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة الشخصية أو إلى اللذة أو إلى المنفعة.
(1) سورة الإسراء الآية 9
وكل هذا وارد الغرب الأوربي، أو الغرب الأمريكي عندما انحرف هذا الغرب وألحد.
أما وارد الشرق الإسلامي، أو بتعبير أدق، وارد الإسلام الإلهي، فإن مقياس الأخلاق فيه: إنما هو المبادئ الدينية، إنما هو آيات القرآن، وإنما هو الفضائل التي أوحاها الله، سبحانه وتعالى، هذه الفضائل التي حددها القرآن في أسلوب عربي مبين، وركزها القرآن والسنة على أسس من الإيمان قوية ثابتة.
ومن أجمعها الآيات الجميلة حقا التي تختتم بها سورة الفرقان، والتي تبدأ بقوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (3) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شمول وتعميم - كما يروي ابن مردويه بسنده - عن أبي جعفر الباقر قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (4) ثم قال: الخير اتباع القرآن وسنتي» .
* * *
بعد أن أمرت الآية الكريمة بالدعوة إلى الخير، أمرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل يقول صاحب الإحياء: " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد - وهلك العباد،
(1) سورة النحل الآية 90
(2)
سورة البقرة الآية 177
(3)
سورة الفرقان الآية 63
(4)
سورة آل عمران الآية 104
وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون وإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلا بعملها، أو متقلدا لتنفيذها، مجددا لهذه السنة الدائرة، ناهضا بأعبائها ومتشمرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدأ بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها " اهـ.
* * *
وكما بين الله تعالى المعروف بيانا شاملا في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية الشريفة، فإنه سبحانه بين المنكر بيانا شافيا أيضا، ومن أجمع الآيات في بيان المنكر قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1){وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2)
وحينما نكون بصدد المعروف أو بصدد المنكر فإنما نعني بذلك بيان الإسلام في المعروف وبيانه في المنكر، وذلك أن الغرب له معروف وله منكر، وقد يختلف معروف الغرب ومنكره عن معروف الإسلام ومنكره، وكثيرا ما يختلفان في الأخلاق وفي الاقتصاد وفي العقيدة، وفي مثل هذا الحال فإنه يجب علينا إيثار الجو الإسلامي إيثارا كاملا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (4)» .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتدع في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5)» .
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2)
سورة الأنعام الآية 152
(3)
سورة الأنعام الآية 153
(4)
أخرجه الخطيب في تاريخه (4/ 491)، والبغوي في شرح السنة (ح/104)، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13/ 289).
(5)
صحيح البخاري الصلح (2697)، صحيح مسلم الأقضية (1718)، سنن أبو داود السنة (4606)، سنن ابن ماجه المقدمة (14).
ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم "
* * *
وتتفاوت استعدادات الناس ومراكزهم فيما يتعلق بمسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعضهم يأمر بيده، أي يغير المنكر ويقف في وجهه بالقوة، وهذه مرتبة الحكام. ومنهم من يقف في وجه المنكر بلسانه، وذلك مرتبة كل عارف، وليست خاصة بطبقة دون طبقة من الناس، وذلك أن معرفة الأمي بأن السرقة حرام كمعرفة العالم بحرمتها، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالخمر أو الاختلاس أو الاغتصاب، والمسئولية تترتب على المعرفة، فما دامت هناك معرفة فهناك مسئولية، ولا تختص - إذن - مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القولية بعلماء الدين فحسب، وإنما هي موزعة على كل من يعلم بالمعروف ويعلم بالمنكر.
ومن الناس من لا يستطيع أن يقف في وجه المنكر إلا بقلبه، وهذه الطبقة - وإن كانت في المرتبة الأولى - طبقة الذين لا يستطيعون الجهاد باليد، ولا الجهاد باللسان، فإنها - في حقيقة الأمر - تعم جميع أفراد الأمة، أي أن المجاهد بيده يجب أن يكون في الوقت نفسه مجاهدا بقلبه، والمجاهد بلسانه يجب في الوقت نفسه أن يكون مجاهدا بقلبه، وينتفي الإيمان - في وضعه السليم الصادق - بانتفاء الجهاد القلبي. والجهاد القلبي معناه عدم الرضا عن فعل المنكر، ومظهر عدم الرضا إنما هو اعتزال فاعل المنكر إذا لم يرعو ولم يأخذ بالنصيحة، فإذا كان تاجرا لا يشتري الإنسان منه، وإن كان مشتريا لا يبيعه، وإذا كان صديقا يقطع صداقته فلا يؤاكله ولا يشاربه ولا يجالسه، وإذا كان مرشحا لأية هيئة نقابية مثلا لا يساعده ولا يعينه، ولا ينتخبه، وذلك أن المجاهر بالمنكر محاد لله ورسوله، وجزاء الذين يحادون الله ورسوله معروف، وقد حرم الله - سبحانه - أن يعقد المؤمن صداقة ومودة بينه وبين الذين يجاهرون بالمنكر، فقال سبحانه:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) سورة المجادلة.
هذا هو الجهاد القلبي: إنه ليس جهادا سلبيا، كلا، وإنما هو في حقيقة الأمر علاج حاسم للمجاهرين
(1) سورة المجادلة الآية 22
بالمنكر، وذلك أن المجاهر بالمنكر حينما يشعر بنفسه مهينا في المجتمع، وحينما يشعر بأن الناس يعتزلونه كما يعتزلون وباء خبيثا فإنه يعود مضطرا أو مختارا إلى الجادة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1)» .
* * *
وصور رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع ووجوب الأخذ على يد المفسد فيه - حتى لا يكون الهلاك - بالصورة الرائعة التالية، التي رواها الإمام البخاري عن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا (2)» .
وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم (3)» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (4)» .
ولقد هدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية إذا تهاونت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه
(1) صحيح مسلم الإيمان (49)، سنن الترمذي الفتن (2172)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، سنن أبو داود الصلاة (1140)، سنن ابن ماجه الفتن (4013)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 10).
(2)
صحيح البخاري الشركة (2493)، سنن الترمذي الفتن (2173)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270).
(3)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 391).
(4)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 19).
ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم (5)».
وقد بين سيدنا أبو بكر، رضي الله عنه، وجوب الأخذ على يد الظالم مبينا الأمر في غاية الدقة في موضوع آية اشتبه على كثير من الناس تفسيرها، فعنه رضي الله عنه قال: " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية:
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه (7)» .
* * *
وبعد فإنه لا بد من:
1 -
الدعوة إلى الخير، وذلك واجب الأفراد، وواجب الحكومات على وجه العموم. وجوهر الدعوة إلى الخير إنما هو الدعوة إلى التوحيد، أي الدعوة إلى إسلام الوجه لله وحده، والدعوة إلى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (8) الدعوة إلى: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (9)» .
والدعوة إلى التوحيد إنما هي دعوة إلى الاستناد
(1) سنن أبو داود الملاحم (4336).
(2)
سورة المائدة الآية 78 (1){لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(3)
سورة المائدة الآية 79 (2){كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
(4)
سورة المائدة الآية 80 (3){تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}
(5)
سورة المائدة الآية 81 (4){وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
(6)
سورة المائدة الآية 105
(7)
سنن الترمذي الفتن (2168)، سنن أبو داود الملاحم (4338)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 7).
(8)
سورة الفاتحة الآية 5
(9)
سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 303).
إلى الله تعالى في التشريع، والاستناد إليه تعالى في العقيدة، والاستناد إليه تعالى في الأخلاق.
2 -
الأمر بالمعروف: المعروف الإسلامي كما أتى به الوحي الشريف على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
النهي عن المنكر، الذي نهى الله تعالى عنه.
وإذا فعلنا ذلك سلمنا من عذاب الله تعالى، وتولانا الله سبحانه برعايته وكفالته وحمايته وتوفيقه.
(1) سورة آل عمران الآية 104