الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحنابلة، كالمالكية، الأصل عندهم في الشرط أن يكون صحيحا ويصح معه العقد، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسدا، على سبيل الاستثناء، إذا كان ينافي مقتضى العقد، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص.
فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح، ثم الشرط الفاسد، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط.
* * *
الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة
الأصل في مذهب الحنابلة - كما قدمناه - هو أن يكون الشرط صحيحا. وتساير صاحب المغني في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط:
(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة. فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع، والتقابض في الحال، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس، فكل هذه الشروط يقتضيها العقد، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط.
(ب) ويصح أيضا كل شرط يلائم العقد ويكون من مصلحته، فتتعلق به مصلحة المتعاقدين كالرهن والضمين والشهادة. وفي هذا أيضا تتفق المذاهب الأربعة.
(ج) ويصح أخيرا الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد. وهنا نلحظ أخيرا المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي كما لحظنا ذلك في مذهب مالك، وهذا خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه. والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به، خلافا لما يذهب إليه الفقه الحنفي
ومن ثم نرى المذهب الحنبلي، خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي. ونورد ما جاء في هذا الصدد في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص 49 - ص 51): " والثالث أن يشترط نفعا معلوما في المبيع كسكنى الدار شهرا وحملان البعير إلى موضع معلوم، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله، ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع دارا ويستثني سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، أو عبدا ويستثني خدمته مدة معلومة، نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر.
وقال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يصح؛ لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط. . ولنا ما روى جابر «أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة (1)» . . ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وإنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد. ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصا، أو بلغة ويشترط حذوها نعلا، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم ".
ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص، ويفوق في ذلك سائر المذاهب وفيها مذهب مالك نفسه. فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج، ويقول ابن تيمية (الفتاوى 3 ص 332 - نظرية العقد ص 155) في ذلك " ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح، لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (2)» فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلا، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو موردا معينا من العيش. ويكون للمشترط أن يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة، وهذا هو أصح روايتي أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك (ابن تيمية: الفتاوى 3 ص 346 - نظرية العقد ص 156 - 157) بل يجوز أيضا في مذهب أحمد أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها. فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (نظرية العقد لابن تيمية ص 16 وص 34 وص 161 - ص 162 والفتاوى 3 ص 327). وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.
(1) سنن الترمذي المناقب (3852).
(2)
صحيح البخاري الشروط (2721)، صحيح مسلم النكاح (1418)، سنن الترمذي النكاح (1127)، سنن النسائي النكاح (3281)، سنن أبو داود النكاح (2139)، سنن ابن ماجه النكاح (1954)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 150)، سنن الدارمي النكاح (2203).
الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة
ولا يكون الشرط فاسدا عند الحنابلة إلا في موضعين:
كان الشرط ينافي مقتضى العقد. مثل ذلك أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه، أو يشترط إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع. فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه، يبيعه أو لا يبيعه ويهبه أو لا يهبه، وإذا كان رقيقا فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع؛ لأنه هو المعتق، والولاء لمن أعتق.
بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، فهل يصح الشرط؟ في المذهب روايتان، أحدهما: الشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما قدمناه من الشروط، والرواية الأخرى: الشرط صحيح، لحديث بريرة المعروف.
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة أن يشترط إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن. ومنها أن يشترط البائع أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري؛ لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما لو اشترط ألا يبيعه إلا من فلان، وهذا يقيد المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد. وقيل أيضا في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين، فيكون غير جائز على ما سنرى؛ لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول، فهما شرطان (الشرح الكبير على المقنع 4 ص 55). وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي؛ لأنه يخل الثمن.
ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضا ما جاء في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص 58): " وإذا قال: بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط، فالبيع فاسد؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح؛ لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره. ولا يشبه هذا ما لو قال: أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة؛ لكون هذا عوضا في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد، ولذلك لم يجز في النكاح. أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك، فلا يثبت؛ لأن العوض على غيره. وإن كان هذا القول على وجه الضمان، صح البيع ولزم الضمان.
ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسدا، فإنه يبطل ولا يعمل به، أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان: الأولى أن العقد صحيح، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، فيسقط الشرط ويبقى العقد، وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط؛ لأن البائع إنما سمح بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيبا. ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء، كمن شرط رهنا أو ضمينا فامتنع الراهن والضمين؛ لأن ما ينقصه الشرط من
الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع. (الشرح الكبير على المقنع 4 ص 55).
والرواية الثانية أن الشرط الفاسد يبطل البيع؛ لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع (1) إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط منه، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي. (الشرح الكبير 4 المقنع 4 ص 54).
ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيرا في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد، ففي كلا المذهبين فاسد. ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد، فتارة يبطل الشرط والعقد معا، وطورا الشرط ويستبقي العقد صحيحا، وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد، وقد مر ذكر ذلك.
(ب) ويكون الشرط فاسدا أيضا إذا ورد في النهي عنه نص خاص. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع وسلف، وقال عليه السلام:«لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك (2)» فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف.
أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد كما قدمنا. والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيها العقد أو يلائماه، ولو انفرد أي منهما كان صحيحا. مثل ذلك من اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل: الشرطان باطلان والعقد باطل. أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد، مثل أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن، فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر.
وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضا. ومعناه في مذهب أحمد أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقدا ثانيا مستقلا في مقابل العقد الأول. وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب. وقد جاء في المغني (جزء 4ص 285): " والثاني أن يشترط عقدا في عقد، نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره. فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري، ثم جاء في ص 290 - 291: ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعه وعن شرطين في بيع وعن بيع
(1) بما ينقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا، ولأن البائع. . . الخ.
(2)
سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4611)، سنن أبو داود البيوع (3504)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 205)، سنن الدارمي البيوع (2560).