الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنساء، والأفراد والجماعات، قد شمل أيضا على مختلف أشكالها، وتفاوت درجاتها، فلم يقتصر على بعض الفضائل والمندوبات، ولا على بعض المظاهر والشعائر، بل تعداها إلى كثير من الواجبات الأساسية، والأركان الإسلامية.
والذي يعجب له المرء كل العجب أن تتحول أركان الإسلام الخمسة عند كثير من المسلمين اليوم من عبادات وأركان، إلى عادات ومظاهر. . .
ولهذا أحببت أن أعرض في بحثي هذا نماذج من هذه التحولات، محللا أسبابها، ومشيرا إلى مكامن الخطر فيها، مؤيدا ذلك بصور عملية من واقع حياة المسلمين. . . عسى أن نتنبه إلى هذا الخطر الذي يهدد إسلامنا وإسلام أجيال بعدنا، ونحن عنه غافلون، مطمئنين لشيوع المظاهر والشعائر في حياتنا الخاصة والعامة، فنندفع إلى دراسة هذه الظاهرة ومعالجتها.
وسيشمل بحثي النقاط التالية:
أ - مفهوم العبادة في الإسلام.
ب - تحول هذا المفهوم تدريجيا.
ج - أمثلة على هذا التحول.
د - سبب هذا التحول.
هـ - خطره على الحياة الإسلامية.
وأساليب علاجه.
أسأله سبحانه أن يلهمنا الصواب، وأن يبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، والله ولي التوفيق. . .
* * *
مفهوم العبادة في الإسلام
مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض بيان وظيفة الإنسان في هذه الحياة، فحصر فيها حياته، وجعلها الغاية من خلقه، فقال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).
(1) سورة الذاريات الآية 56
ولهذا كانت حياة المسلم كلها - كما أرادها الله - عبادة خالصة له سبحانه في جميع جوانبها الخاصة والعامة، والاعتقادية والعملية. . . فالمسلم عبد الله في كل تحرك وسكون {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1).
ومن هنا عرف الإمام ابن تيمية رحمه الله العبادة بأنها:
" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2)(3).
وفي تأكيد هذا الشمول لمعنى العبادة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: " ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة أولا وأخيرا. . . "(4).
وإذا ما عرف العلماء العبادة بالخضوع الشامل، والطاعة الكاملة، فلا بد لنا من أن نلاحظ في تعريف العبادة بالنسبة للإنسان قيدا خاصا يميز خضوعه عن خضوع غيره من المخلوقات، فالكون كله بأملاكه وأفلاكه، وجماداته وحيواناته خاضع لله عز وجل لا يخرج عن طاعته قيد شعرة، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (5).
ولهذا كان لا بد لنا من قيد مميز لعبادة الإنسان عن عبادة غيره من المخلوقات، قيد ينسجم مع ما وهبه الله إياه من نعمة العقل، ألا وهو قيد " الإرادة ".
فعبادة الإنسان لله هي: خضوعه الإرادي الشامل وطاعته الإرادية المطلقة له سبحانه، أما الخضوع القسري فلا مزية فيه لمخلوق على مخلوق. . .
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2)
سورة الذاريات الآية 56
(3)
انظر كتاب العبودية ص 38 - 39.
(4)
انظر كتاب فقه الدعوة ص 66.
(5)
سورة فصلت الآية 11
ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم استعمل لفظة العبادة بالنسبة للإنسان استعمالا يشعر بهذا القيد الإرادي فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) وقال أيضا: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) والاستكبار عن العبادة أمر إرادي لا يكون إلا من الإنس والجن. أما غيرهم من الملائكة مثلا فلا يعرفون الاستكبار؛ لأنهم مفطورون على الطاعة والخضوع. قال تعالى في وصف الملائكة:
{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (3) ولهذا كان مفهوم العبادة في الإسلام يشتمل على عنصرين:
1 -
الخضوع الشامل لله عز وجل.
2 -
كون هذا الخضوع إراديا مقصودا.
ولما كان الخضوع الإرادي لله عز وجل عنوان العبادة الحقيقية من هذا الإنسان، كان كافيا أن يرافق هذا الخضوع أي تصرف من تصرفات الإنسان الاختيارية أو الاضطرارية ليصبح هذا التصرف عبادة لله عز وجل؛ لأنه ابتغى به وجهه، وجاء على وفق رضائه، ومن هنا كان بإمكان المسلم أن يجعل حياته كلها عبادة حتى عاداته وغرائزه من طعام وشراب ولباس وسكن ومتعة في هذه الحياة. . .
فهو يماثل غيره في صور هذه التصرفات، ويتميز عن غيره في حقيقتها واعتبارها. . . ففي الحديث الشريف:«(وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) (4)» .
كما يكفي أن يفارق هذا الخضوع الإرادي أي تصرف من تصرفات الإنسان ليفقد هذا التصرف وصف العبادة حتى ولو كان هذا التصرف صلاة وصياما، أو زكاة وحجا أو غير ذلك من شعائر العبادات، «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (5)»
…
كأن يقوم بمثل هذه العبادات ولا يقصد منها العبادة أو أن تكون من فاقد العقل مثلا.
* * *
(1) سورة غافر الآية 60
(2)
سورة الصافات الآية 35
(3)
سورة الأعراف الآية 206
(4)
رواه مسلم.
(5)
متفق عليه.