الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تزكيتها، وتكريمها والارتفاع بها إلى مستوى شاهق نبيل. . وللقرآن في حديثه عن الأمومة أسلوب متميز، وفلسفة معينة، من العسير على كل ذي بديهة متفتحة أن يلمحها من خلال السطور.
ولكن. . أليس من الأجمل أن نرجئ الحديث القرآني عن الأم في إطاره العام، حتى نقف أولا مع أمومات ثلاث؟ أم إسماعيل. . وأم موسى. . وأم المسيح؟
إن الحديث القرآني عن هذه الأمومات يبرز لنا إلى حد بعيد ضخامة العبء الذي تنهض به الأمومة من جهة. . وروعة الاحتفاء القرآني بهذه الناهضة بأعبائها من جهة أخرى. . وحين تتكامل هذه الصورة بظلالها المرهفة وأضوائها الوهاجة. . فإنها تعطي من غير شك انطباعها الصادق في هذا الصدد العظيم. .
* *
أم إسماعيل
(1)
وأم إسماعيل هاجر. . هي تلك الجارية الأمة، التي لا حول لها ولا طول. . جاءت بها السيدة سارة إلى فلسطين من مصر. . بعد رحلتها مع زوجها إبراهيم. . حين خرج بدينه إلى هناك، نافضا عن كاهله العظيم غبار الوثنية، وأوقار الضلالات. .
وكانت سارة عاقرا. . لا تحمل. . ولا تلد. . فأشارت على الخليل أن يبني بهاجر فبنى! ثم حملت هاجر. . وولدت. . فولدت إلى جوار وليدها المحنة!!
قالت سارة لإبراهيم: أنا دفعت إليك جاريتي فلما حملت ترفعت علي!! فرد إبراهيم في حنان صيب. . ورثاء دامع لتلك الأنثى المجروحة الغيرى: هي جاريتك تفعلين بها ما تشائين! حينئذ ظهر الغضب في صوت سارة. . وأقسمت ألا يؤويها وصاحبتها بيت بعد اليوم!!
(1) استفدت في هذا السرد من كتاب " أم النبي " للدكتورة بنت الشاطئ ومن التوراة.
وبدأت خيوط المأساة تتجمع وتتشابك. . لتنفرج من بعد وتعتنق. . حينما حمل إبراهيم زوجته هاجر وابنها إسماعيل. . وانطلق بها ضاربا في التيه. . وعند ربوة حمراء تسامت أطلال البيت العتيق، ترك إبراهيم وليده الغض. . وأم وليده العزلاء. . وما كان لدى الأم ووليدها من رزق في هذا الوادي الجديب الأجرد. . سوى جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء. . ولا بد للتمر أن ينفد، ولا بد للماء أن يتلاشى. . فماذا يخبئ الغيب لهما من مصير؟ لأفسح أنا المجال لابن عباس يحدثنا حديث هاجر الأم. . وابنها إسماعيل الرسول. . يقول ابن عباس: ". . ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ من أحد. . وليس بها ماء. . فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء. . ثم قضى إبراهيم منطلقا. . فتبعته أم إسماعيل. فقالت: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. . ثم رجعت فانطلق إبراهيم. . حتى إذا كان عند الثنية لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1) وجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء. . حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى. . فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر. . هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا. . فهبطت من الصفا. . حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. . ثم أتت المروة فقامت عليها. . فنظرت هل ترى أحدا. . فلم تر أحدا. . ففعلت ذلك سبع مرات. .
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما (2)» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا. . فقالت: صه. . تريد نفسها. . ثم تسمعت أيضا. . فإذا هي بالملك عند موضع
(1) سورة إبراهيم الآية 37
(2)
صحيح البخاري الحج (1649)، صحيح مسلم الحج (1266)، سنن الترمذي الحج (863)، سنن النسائي مناسك الحج (2979)، سنن أبو داود المناسك (1885)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 373).
زمزم، فبحث بعقبه. . أو قال بجناحه. . حتى ظهر الماء. . فجعلت تخوضه. . وتغرف منه في سقائها وهو يفور بعدما تغرف فشربت وأرضعت ولدها.
فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة. . فإن هذا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه. . وإن الله لا يضيع أهله. . وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية. . تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. .
فكانت كذلك حتى مرت بهم قافلة من جرهم مقبلين عن طريق كداء. . فنزلوا في أسفل مكة. . فرأوا طائرا عائقا: فقالوا: إن هذا الطير ليدور على ماء. . لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. . فأرسلوا جريا أو جريين. . فإذا هم بالماء. . فرجعوا وأخبروهم بالماء. . فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء.
فقالوا: أتأذننين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم. . ولكن لا حق لكم في الماء. . قالوا: نعم. . وشب الغلام " إسماعيل " وتعلم العربية منهم. . وأعجبهم. . فلما أيفع واكتمل روجوه، وماتت أم إسماعيل. لتترك في الأرجاء حديثا هائلا ضخما. دائما يدوي. . وكيف تنسى ذاكرة الزمن، أو راعية الأيام أم إسماعيل. . وقصة بطولتها الخالدة تلهج بها ملايين الألسن كل يوم. . فيما يتلونه من كتاب الله، وآياته الغراء.
* * *
إنني ألمح من خلال الجهاد الرائع الذي كابدته أم إسماعيل عبر نزولها في واد غير ذى زرع، وذلك بمعاناتها للظمأ القاتل الرهيب. . ثم مسعاها اللاهف بين الصفا والمروة باحثة عن خيط يشدها ووليدها إلى الحياة. . إني ألمح من خلال ذلك كله. . ليس إنفاذ وعد الله فحسب. . بل كذلك تخليد دور الأمومة الرائعة، التي تحترق لتضيء للملايين.
ومع إسدال الستار على هذه القصة القرآنية، نحس من أعماقنا المسلمة عن كثب أن صوت القرآن العظيم غض عذب، يردد في مسامع الإجيال:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1)
(1) سورة البقرة الآية 125