الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات
أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج
نستعرض فيما تحت هذا العنوان ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود من حيث الجملة، وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما؛ ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط، وما يلتحق به من المسائل التي يشبهها وأدرجوها تحتها أو جعلوها أمثلة شارحة لها.
روى البخاري في صحيحه تحت باب " ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله ": عن عروة «أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن بريرة جاءت تستفتيها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا. فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت. فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق. قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق (1)» ، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أرادت عائشة رضي الله عنها أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها: على أن ولاءها لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق (2)» .
* * *
قال: ابن حجر في الفتح: قوله: "باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله" جمع في هذه الترجمة بين حكمين، وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، وسيأتي في كتاب الشروط أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله. وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه؛ من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة. وقال ابن خزيمة ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطا من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك، فلا يبطل، قال النووي: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام:
(1) صحيح البخاري كتاب العتق (2561)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2)
صحيح البخاري كتاب البيوع (2169)، سنن النسائي البيوع (4644).
أحدهما: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه.
الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن. وهما جائزان اتفاقا.
والثالث: اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور؛ لحديث عائشة وقصة بريرة.
الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري، كاستثاء منفعته فهو باطل.
وقال القرطبي: قوله: «ليس في كتاب الله (1)» ، أي ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا، ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع، وكذلك القياس الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا - إلى أن قال - وقال القرطبي: قوله: «ولو كان مائة شرط (2)» يعني أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو كثرت. اهـ (3).
وقال البخاري في صحيحه: (باب الشروط التي لا تحل في الحدود).
قال ابن حجر في الفتح: وقد ترجم له في الصلح إذا اصطلحوا على جور فهو مردود. ويستفاد من الحديث أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل، وكل صلح وقع فيه فهو مردود. اهـ (5).
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (6)» .
قال ابن حجر: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل، إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في
(1) صحيح البخاري الصلاة (456)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2168)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(3)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ 5 ص 142.
(4)
صحيح البخاري الشروط (2725)، صحيح مسلم الحدود (1698)، سنن الترمذي الحدود (1433)، سنن النسائي آداب القضاة (5411)، سنن أبو داود الحدود (4445)، سنن ابن ماجه الحدود (2549)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 115)، موطأ مالك الحدود (1556)، سنن الدارمي الحدود (2317).
(5)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ 5 ـ 347.
(6)
صحيح البخاري الصلح (2697)، صحيح مسلم الأقضية (1718)، سنن أبو داود السنة (4606)، سنن ابن ماجه المقدمة (14)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 256).
إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدمة الثانية بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأول، ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع. والله أعلم.
وقوله: (رد) معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل: خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. واللفظ الثاني وهو قوله: (من عمل)، أعم من اللفظ الأول، وهو قوله:(من أحدث)، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها.
وفيه رد المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها.
ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: (ليس عليه أمرنا)، والمراد به أمر الدين.
وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد. اهـ (1).
وذكر الشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط منها، فقال:(2).
القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد: ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا.
والذي يمكن ضبطه فيها قولان، أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك، الحظر إلا ما ورد الشرع بإجازته. فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس، كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه. وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل.
أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طردا جاريا. لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق. وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه. ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم البيع بحال. ولهذا منع بيع العين المؤجرة. وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته. وإنما جوز الإجارة المؤخرة؛ لأن الإجارة لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع
(1) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ 5 ص 331.
(2)
القواعد النورانية ص 184 ـ 220.
به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمرة على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره. ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ، ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما. ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا. وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر. وهو عنده موضع استحسان.
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتى منع الإجارة المؤخرة؛ لأن موجبها - وهو القبض - لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق؛ لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، كبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك، ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها. وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه. وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار، بخلاف فساد المهر ونحوه.
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، كاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح. فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه يجوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي. فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.
* * *
هؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر، وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة، وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت:
إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق (1)» وفي رواية للبخاري:«اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط - وفي لفظ: شرط الله أحق وأوثق (2)» وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر، أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق (3)» وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق (4)» .
ولهم من هذا الحديث حجتان:
إحداهما: قوله: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (5)» فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث، ولا في الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع، فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.
ومن قال بالقياس - وهم الجمهور - قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله: فهو في كتاب الله.
الحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشترط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات. وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين - لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها. فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، ومتابعة لعبد الله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج. ويقول:" أليس حسبكم سنة نبيكم؟ " وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (6) سورة المائدة آية: 3. وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (7) البقرة: 229.
(1) صحيح البخاري البيوع (2168)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2)
صحيح البخاري كتاب الشروط (2726)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(3)
صحيح البخاري كتاب البيوع (2169)، سنن النسائي البيوع (4644)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 100)، موطأ مالك العتق والولاء (1520).
(4)
صحيح البخاري كتاب البيوع (2169)، سنن النسائي البيوع (4644)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 100)، موطأ مالك العتق والولاء (1520).
(5)
صحيح البخاري البيوع (2168)، صحيح مسلم العتق (1504)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(6)
سورة المائدة الآية 3
(7)
سورة البقرة الآية 229
قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله، وزيادة في الدين.
وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية. أو قالوا: هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله.
واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط» وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف أن الأحاديث الصحيحة تعارضه.
وأجمع الفقهاء المعروفون - من غير خلاف أعلمه عن غيرهم - أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا، أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك: شرط صحيح.
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط، الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصا أو قياسا: وعند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجري على هذا القول. ومالك قريب منه، ولكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد نص. وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة، فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمده من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط، كمسألة الخيار من ثلاث مطلقا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا. ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع. كما سأذكره إن شاء الله.
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعا لحديث جابر، لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة.
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش.
ويجوز - على عامة أقواله ـ: أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها، كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره - وإن لم ترض المرأة - كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح، إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة.
واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال:
وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة. فكلما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، وجوز أيضا استثناء بعض التصرفات.
وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا؟ فإذا أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له، وإنما المحذور، أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي.
أما الكتاب: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) سورة المائدة آية 1 والعقود هي العهود، وقال تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (2) سورة الأنعام آية 152، وقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (3) سورة الإسراء آية: 34. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} (4) سورة الأحزاب آية: 15 فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} (5) فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد، كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به.
ولهذا قرنه بالصدق في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (6) سورة الأنعام آية: 152؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (7){فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (8){فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (9) سورة التوبة الآيات: 75 - 77.
واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها إلى أن قال:
(1) سورة المائدة الآية 1
(2)
سورة الأنعام الآية 152
(3)
سورة الإسراء الآية 34
(4)
سورة الأحزاب الآية 15
(5)
سورة الأحزاب الآية 15
(6)
سورة الأنعام الآية 152
(7)
سورة التوبة الآية 75
(8)
سورة التوبة الآية 76
(9)
سورة التوبة الآية 77
والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر (1)» وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (2)» وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة (3)» وفي رواية «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة (4)» وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وفيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله وقاتلو من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم (5)» - الحديث. فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.
وفي الصحيحين عن ابن عباس «عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم: " هل يغدر: فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة. وقال هرقل في جوابه: سألتك: هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر (6)» فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين.
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (7)» فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره (8)» فذم الغادر. وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقدر غدر.
* * *
(1) صحيح البخاري الإيمان (34)، صحيح مسلم الإيمان (58)، سنن الترمذي الإيمان (2632)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020)، سنن أبو داود السنة (4688)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 189).
(2)
صحيح البخاري الجزية (3188)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1735)، سنن الترمذي السير (1581)، سنن أبو داود الجهاد (2756)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 112).
(3)
صحيح مسلم الجهاد والسير (1738)، سنن الترمذي الفتن (2191)، سنن ابن ماجه الجهاد (2873)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 61).
(4)
صحيح مسلم الجهاد والسير (1738)، سنن الترمذي الفتن (2191)، سنن ابن ماجه الجهاد (2873)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 46).
(5)
صحيح مسلم الجهاد والسير (1731)، سنن الترمذي السير (1617)، سنن أبو داود الجهاد (2613)، سنن ابن ماجه الجهاد (2858)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 358)، سنن الدارمي السير (2439).
(6)
صحيح البخاري بدء الوحي (7)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 263).
(7)
صحيح البخاري الشروط (2721)، صحيح مسلم النكاح (1418)، سنن الترمذي النكاح (1127)، سنن النسائي النكاح (3281)، سنن أبو داود النكاح (2139)، سنن ابن ماجه النكاح (1954)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 150)، سنن الدارمي النكاح (2203).
(8)
صحيح البخاري البيوع (2227)، سنن ابن ماجه الأحكام (2442)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 358).
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك.
ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبا، كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا. وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك. كذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض.
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سلمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم (1)» وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (2)» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى ابن ماجه منه الفصل الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة، وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له بروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس على شروطهم ما وافق الحق» ، وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الأقباض ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 366).
(2)
سنن الترمذي الأحكام (1352)، سنن ابن ماجه الأحكام (2353).
منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما. وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في البيع، أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك.
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حراما، أو تحرم حلالا، أو توجب ساقطا، أو تسقط واجبا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع. وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كان ما كان حراما بدون الشرط: فالشرط لا يبيحه، كالربا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء، فقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته (1)» وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (2)» وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، وانتساب المعتق إلى غير مولاه. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما. وأما ما كان مباحا بدون الشرط، فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء. فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالأنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبا، وإذا وجب فقد حرم المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا، فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره.
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله. كذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع، وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه:" مقطع الحقوق عند الشروط ".
(1) صحيح البخاري الفرائض (6756)، صحيح مسلم العتق (1506)، سنن الترمذي الولاء والهبة (2126)، سنن النسائي البيوع (4657)، سنن أبو داود الفرائض (2919)، سنن ابن ماجه الفرائض (2747)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 107)، موطأ مالك العتق والولاء (1522)، سنن الدارمي البيوع (2572).
(2)
سنن الترمذي الوصايا (2121)، سنن ابن ماجه الوصايا (2712)، سنن الدارمي السير (2529).
وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم، كما أن الأعيان: فيها عدم التحريم. وقوله {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (1) سورة الأنعام آية: 119 عام في الأعيان والأفعال، الأصل وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة، وكانت صحيحة.
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا، كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم، فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع: منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال. كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجنبة، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع، فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم.
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه الله، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين ما لم يحرمه الله. بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله. فإن الله حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع، كالعتق والصدقة.
فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعا؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال، فقد غير ما كان مشروعا، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا يعتبر في إباحتها.
فيقال: لا فرق بينهما. وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون. فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه: هو فعل
(1) سورة الأنعام الآية 119
من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود.
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة. فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة: الأصل فيه الحل - وإن غير حكم العين - فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها: الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك.
وسب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع، وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه: لم يحرم علينا رفعه. فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره، لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع. وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، ما لم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطى رجلا مالا: فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع مانع. وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا، وإنما شرعها شرعا كليا، مثل قوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) سورة البقرة آية: 275، وقوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) سورة النساء آية: 24، وقوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) سورة النساء آية: 3، وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد. فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا. فهذا المعين سببه فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط؛ لأن الشارع أثبته ابتداء.
* * *
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك، فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق إليه، فكذلك إخراجه، إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا، مثل أن يقول: هذا الثوب بعه أو لا تبعه، أو هبه أو لا تهبه، وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين.
فتدبر هذا، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم، وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن، ولإيجاب العقل أيضا.
(1) سورة البقرة الآية 275
(2)
سورة النساء الآية 24
(3)
سورة النساء الآية 3
وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله قال في كتابه العزيز:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) سورة النساء آية: 29، وقال:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) سورة النساء آية: 4 فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات، قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن، وكذلك قوله:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) سورة النساء آية: 29 لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة. وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.
وأيضا فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به: ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد، وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد: احتاج إلى دليل على ذلك. وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره - وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود - فقد جمع بين المتناقضين؛ بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق. بل هو مبطل العقد عندنا.
* * *
تعاد الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك، والعتق قد يكون مقصودا للعقد. فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (4)» فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا. وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا الله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوا. ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال: لا يحل ولا يصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور - كما ذكرناه من القول الأول - أو يقال: لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي - وإن كان عاما - أو يقال: تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام.
(1) سورة النساء الآية 29
(2)
سورة النساء الآية 4
(3)
سورة النساء الآية 29
(4)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521).
والقول الأول: باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) سورة البقرة آية: 278 فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - يوجب أنه غير منهي عنه. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض، وقال صلى الله عليه وسلم:«أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام (2)» وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام. . كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشرة نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، وكما أمر فيروزا الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم. ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع. ولو كانت العقود عندهم كالعبادات - لا تصح إلا بشرع - لحكموا بفسادها، أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.
فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فليس ما عقده بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.
قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما، وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه - ولن يقترن بالآخر - أقرهم الشارع على ذلك. بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود.
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل.
(1) سورة البقرة الآية 278
(2)
سنن أبو داود الفرائض (2914)، سنن ابن ماجه الأحكام (2485).
وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد. ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله. فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود. لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.
وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاما أو خاصا، فعنه جوابان.
أحدهما: المنع كما تقدم.
والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع. وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (1)» فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى. وكذلك الوعد والخلف. ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا - والله أعلم - المشروط لا نفس التكلم. ولهذا قال:«وإن كان مائة شرط (2)» أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد الشرط. والدليل على ذلك قوله:«كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق (3)» أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه. وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فيكون المعنى: من اشتراط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه، بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما. فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله لم يبحه، لم يجز اشتراطه. فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته. فهذا المشروط في كتاب الله؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها. فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله.
فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال: ليس في كتاب الله أي: ليس في كتاب الله نفيه، كما قال:«سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم (4)» أي: بما تعرفون خلافه. وإلا فما لا يعرف كثير.
(1) صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(2)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(3)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521).
(4)
صحيح مسلم مقدمة (6)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 349).
ثم نقول: إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم. فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (1) ثم إنه أوجب به - على من عاد - الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد. وكذا النذر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال:«إنه لا يأتي بخير (2)» ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3)» .
فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم. نعم لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله، لما نهي عن الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية، والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا لعقوبة الله، والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (4) سورة النساء آية: 160 وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفة.
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة، كما تقدم.
وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها - وإن كان لم يحرمها - باطلة فتقول:
قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وإن المقصود هو وجوب الوفاء بها. وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك لأن قوله:«ليس في كتاب الله (5)» إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه إنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه، فإنه في كتاب الله؛ لأن قولنا: هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم. وعلى هذا معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (6) سورة النحل آية: 89 وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (7) سورة يونس آية: 37. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (8) سورة الأنعام آية: 38 على قول من جعل الكتاب هو القرآن. وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء ها هنا.
يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع، صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله. وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه ولكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المسلمين، فيكون
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2)
صحيح مسلم النذر (1639)، سنن النسائي الأيمان والنذور (3801)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 86).
(3)
صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696)، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526)، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806)، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289)، سنن ابن ماجه الكفارات (2126)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 36)، موطأ مالك النذور والأيمان (1031)، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338).
(4)
سورة النساء الآية 160
(5)
صحيح البخاري الصلاة (456)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(6)
سورة النحل الآية 89
(7)
سورة يونس الآية 37
(8)
سورة الأنعام الآية 38
في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.
يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم فيقال: العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام. وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله:«من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1)» ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (2){ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (3) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة:«أنت أخونا ومولانا (4)» وقال صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس (5)» .
فجل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سب الولاء في قوله:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (6) سورة الأحزاب آية: 37. بين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد. فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.
وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنما الولاء لمن أعتق (7)» .
وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يرد إلا المعنى الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتقدير: من اشترط شيئا لم يبحه الله. فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما ولم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله:«كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (8)» فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلين: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم. فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا؟
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة
(1) سنن الترمذي الوصايا (2121)، سنن ابن ماجه الوصايا (2712)، سنن الدارمي السير (2529).
(2)
سورة الأحزاب الآية 4
(3)
سورة الأحزاب الآية 5
(4)
صحيح البخاري الصلح (2700).
(5)
صحيح البخاري الإيمان (30)، صحيح مسلم الأيمان (1661)، سنن الترمذي البر والصلة (1945)، سنن ابن ماجه الأدب (3690)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 161).
(6)
سورة الأحزاب الآية 37
(7)
صحيح البخاري البيوع (2156)، سنن النسائي البيوع (4644)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 100).
(8)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521).
إذا كان من أهل ذلك. فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله، مفسر لهذا الاستصحاب. فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك، وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة: فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج، أو من المستبقي؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة فيه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له. فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه: على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره. فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه. فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه. وهذا الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة - كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم، أو يجعل المعارض من باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي.
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه - التي هي الأدلة العامة - أشبه منها بقواعد الفقه، التي هي الأحكام العامة.
* * *
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة. فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.
فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة، كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق - أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصلح فيه القربة - كالبيع - فلا بد أن يكون المستثنى معلوما؛ لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي «عن جابر قال: " بعته - يعني بعيره - من النبي صلى الله عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي (1)» وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده، أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف.
ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد
(1) سنن أبو داود البيوع (3505).
وغيرهما لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.
ثم وهل يصير العتق واجبا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في البيع؟ على وجهين في مذهبهما. ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف طلقا.
قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره. فلا يجوز اشتراط غيره.
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح - وإن كان فيه منع من غيره - قال ابن القاسم: قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه: فقيل له: فإن هؤلاء - يعني أصحاب أبي حنيفة - يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط، قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، وأشرت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد، والنهي إنما هو على شرطين. قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز.
فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير جابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع. وهو نقض لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط: هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير كالعتق. ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف. صحح الرافعي أنه لا يصح.
وكذلك جواز اشتراط التسري. فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة، قال: لا بأس به فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه.
وكذلك جوز أن يشترط البائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول. كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب.
* * *
وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (1)» فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنايا إلا أن تعلم (2)» فدل على جوازها إذا علمت، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة.
وقد أجمع المسلمون - فيما أعلمه - على جواز استثناء الجزء الشائع، مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر. مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب إلا العبيد، أو الماشية التي قدر رأياها، إلا شيئا منها قد عيناه.
واختلفوا في استثناء بعض المنفعة، كسكنى الدار شهرا، أو استخدام العبد شهرا، أو ركوب الدابة مدة معينة، أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة: على أن ذلك قد يقع. كما إذا اشترى أمة مزوجة، فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة. لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها. فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها، مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) سورة النساء آية: 24. قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له. ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج. واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة.
فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه. وكذلك - والله أعلم - لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا.
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها - ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، وكان مالكها معصوم الملك - لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.
ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء
(1) صحيح البخاري الشروط (2716)، صحيح مسلم البيوع (1543)، سنن الترمذي البيوع (1244)، سنن النسائي البيوع (4636)، سنن أبو داود البيوع (3433)، سنن ابن ماجه التجارات (2211)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 82)، موطأ مالك البيوع (1302).
(2)
سنن الترمذي البيوع (1290)، سنن النسائي الأيمان والنذور (3880).
(3)
سورة النساء الآية 24
على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوا من الأبضاع.
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره - كالنخل المؤبر - فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح. وكذلك بيع العين المؤجرة - كالدار والعبد - عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.
ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، كذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة. فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع، أو حانوتا لتجارة فيه، أو صناعة أو أجيرا لخياطة، أو بناء ونحو ذلك، فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق، أو نقص عنه: فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء والمشاهير، ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليها الوطء، وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد. فإن الصحيح من وجوه كثير أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار.
وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر، اعتبارا بالإيلاء، ويجب أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف. فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.
والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد، وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدار، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) سورة البقرة آية: 228. والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (2)» وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده. كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد. وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار. والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة: طردا لذلك. وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل.
(1) سورة البقرة الآية 228
(2)
صحيح البخاري النفقات (5364)، صحيح مسلم الأقضية (1714)، سنن النسائي آداب القضاة (5420)، سنن أبو داود البيوع (3533)، سنن ابن ماجه التجارات (2293)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 206)، سنن الدارمي النكاح (2259).
وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك. وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك.
ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته، في أصح الروايتين عند أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك. والرواية الأخرى، لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين. وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة. بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.
وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة، صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء. فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك. فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح. وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.
كذلك يجوز أكثر السلف - أو كثير منهم - وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين - أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه (1) فلا يتزوج عليها ولا يتسرى. وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.
والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع من الشرع. فإذا كانت الزيادة في العين، أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك ما ذكرت. فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك. فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك، فهو اشتراط تصرف مقصود. ومثله التبرع المفروض والتطوع.
وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه. فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد. فإن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه
(1) كذا في المطبوع.
وسلم -، أعتقت جارية لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك» ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق. وما أعلم في هذا خلافا. إنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم. فإن فيه عن أحمد روايتين:
إحداهما: تجب. كقول طائفة من السلف والخلف.
والثانية: لا يجب. كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم. ولو وصى لغيرهم دونهم، فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له؟ على روايتين عن أحمد. وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه. هو القول بنفوذ الوصية. فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة.
وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك. فهذا أوكد من اشتراط العتق.
وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال. وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري؛ لما في الشركة من الضرار. ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة. فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك. فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى.
وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا. ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، كما أن القدرة تتنوع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية، أو المحرمات عليه بالرضاع. فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
ويملك المرهون ويجب عليه مئونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيع وهبة. وفي العتق خلاف مشهور.
والعبد المنذور عتقه، والهدي، والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق. فمن قال: لم يزل ملكه عنه - كما قد يقوله أكثر أصحابنا - فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق، أو النسك، أو الصدقة. وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق، أو الصدقة، أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم.
ومن قال: زال ملكه عنه، فإنه يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به. وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.
وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكا لله. أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.
ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، كالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين. فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعها. وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.
وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا.
فإذا كان الملك يتنوع أنواعا: وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا. اهـ.
* * *
وقال ابن حزم - وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما يرضي الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان. أو بالتخيير أو في أحد الوقتين - يعني قبل
العقد أو بعده - ولم يذكراه في حين عقد البيع فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم (1)، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (2) فالبيع باطل مفسوخ والشرط باطل أي شرط كان لا تحاش شيئا إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكر أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلا به، وبيع العبد والأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه سواء كان مالهما مجهولا كله أو معلوما كله أو معلوما بعضه مجهولا بعضه. أو بيع أصول نخل فيه ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها. فهذه ولا مزيد، وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة، قلت: أو كثرت أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو دارا واشترط سكناها ساعة، فما فوقها أو غير ذلك من الشروط كلها.
برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم بن حجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني لا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - لا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (4)» وذكر باقي الخبر، ومن طريق أبي داود حدثنا القعنبي، وقتيبة بن سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق (5)» فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله: فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا، كان كل عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلا، ولا بد؛ لأنه عقد على أنه لا يصح (6) إلا بصحة الشرط والشرط لا صحة له، فلا صحة لما عقد بأن لا صحة إلا بصحة ما لا يصح.
قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرنا فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول
(1) في النسخة رقم 16 " فلم يلزم ".
(2)
في النسخة رقم 16 ففي حال العقد.
(3)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن الترمذي الوصايا (2124)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 213)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4)
الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 440. (3)
(5)
الحديث في سنن أبي داود مطولا اختصره المؤلف.
(6)
في النسخة رقم 14 (لأنه عقد ما لا يصح).
الله صلى الله عليه وسلم (1) فهو في كتاب الله عز وجل، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3){إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) فأما (6) اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (7) وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (8) وأما اشتراط أن لا خلا به فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل (9) وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة: أو من أن لا خديعة ومن صناعة العبد، أو الأمة، أو سائر صفات المبيع فلقول الله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (10) فنص تعالى على التراضي منهما، والتراضي لا يكون إلا على صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة. أما اشتراط الثمن إلى الميسرة فلقول الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (11) وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي - قدمت عليه ثياب -: «ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة» وذكر باقي الخبر. وأما مال العبد، أو الأمة واشتراطه. واشتراط ثمر النخل المؤبر، فلما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا إن اشترطه المبتاع، ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (12)» .
قال أبو محمد: ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين. وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعا.
قال علي: فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (13) وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (14) وبما روى: «المسلمون عند شروطهم (15)» قلنا وبالله تعالى التوفيق (16): أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن تجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه، فمن عقد على معصية حرم عليه الوفاء بها، فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والباطل محرم، فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (17)
(1) سقط لفظ (عليه) من النسخة رقم 14.
(2)
سورة النحل الآية 44
(3)
سورة النجم الآية 3
(4)
سورة النجم الآية 4
(5)
سورة النساء الآية 80
(6)
في النسخة رقم 14 (وأما).
(7)
سورة البقرة الآية 283
(8)
سورة البقرة الآية 282
(9)
ذكر في ص 376.
(10)
سورة النساء الآية 29
(11)
سورة البقرة الآية 280
(12)
صحيح البخاري المساقاة (2379)، صحيح مسلم البيوع (1543)، سنن الترمذي البيوع (1244)، سنن النسائي البيوع (4636)، سنن أبو داود البيوع (3433)، سنن ابن ماجه التجارات (2211)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 9)، موطأ مالك البيوع (1302).
(13)
سورة المائدة الآية 1
(14)
سورة النحل الآية 91
(15)
سنن أبو داود الأقضية (3594).
(16)
الزيادة من النسخة الحلبية.
(17)
سورة النحل الآية 91
فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والباطل لا يحل الوفاء به.
وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال نا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (1)» ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: المسلم عند شرطه. ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب: " إن مقاطع الحقوق عند الشروط "، ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: المسلمون عند شروطهم.
قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمر (2) بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف. ومرسل أيضا، والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا؛ لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط أو اشترط مائة مرة، وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين. ثم إن الحنيفيين، والمالكيين، والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطلة ليست في كتاب الله عز وجل، ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء حق؛ لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنفيون والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد وثمر النخل المؤبر ولا يجيزون له ذلك البتة إلا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون والحنيفيون والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع، وكلاهما في كتاب الله عز وجل؛ لأمر النبي (3) صلى الله عليه وسلم بهما، وينسون هاهنا (4)«المسلمون عند شروطهم» وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع
(1) سنن أبو داود الأقضية (3594).
(2)
في النسخة رقم 14 (ابن عمر) وهو غلط.
(3)
في النسخة رقم 16 (أمر النبي).
(4)
في النسخة رقم 14 هنا.
وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد، وإما إيجاب عمل، وإما المنع من عمل، والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط، وكل ذلك حرام بالنص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام (1)» وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى؛ لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.
* * *
حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة نا محمد بن علي الرازي المطوعي نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي نا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي نا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري -: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا، فقال: البيع باطل والشرط باطل، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا - حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع وشرط» البيع باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال: لا أدري ما قالا - حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء (3)» البيع جائز والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله «أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة (4)» البيع جائز والشرط جائز، وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب السختياني نا عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (5) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن (6)» . وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك، أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك، جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا.
(1) صحيح البخاري الفتن (7078)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 39)، سنن الدارمي المناسك (1916).
(2)
سورة التحريم الآية 1
(3)
صحيح البخاري البيوع (2168)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن النسائي الطلاق (3451)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4)
سنن الترمذي المناقب (3852).
(5)
سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من سنن النسائي ج 7 ص 295.
(6)
سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4611)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).
قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور؛ لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه فإذا خرج عن ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده)(1) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه؛ لأنه دعوى بلا برهان.
وأما قول أحمد فخطأ أيضا؛ لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين (2) في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر، فوجب طلب حكمه في غيره، فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (3)» فبطل الشرط الواحد وكل ما لم يعقد إلا به، وبالله تعالى التوفيق.
وبقي حديث بريرة وجابر في الجمل، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا عبد الله بن جعفر ابن الورد نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: «جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق كل عام أوقية فأعينيني فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت، فعرضتها عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية في الناس فحمد الله عز وجل ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق (6)» وذكر باقي الخبر.
* * *
وأما طريق البخاري نا أبو نعيم نا عبد الواحد بن أيمن نا أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها (7) فقالت: «دخلت بريرة - وهي مكاتبة - وقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فقالت عائشة: لا حاجة لي بذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط (8)» .
(1) الزيادة من النسخة رقم 16.
(2)
في النسخة رقم 14 (للشرطين).
(3)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن الترمذي الوصايا (2124)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 213)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(4)
صحيح البخاري العتق (2563)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
(5)
في النسخ كلها: أن أحبوا أهلك. (4)
(6)
في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء. (5)
(7)
الزيادة من صحيح البخاري ج3 ص 304 والحديث فيه مطول اختصره المصنف.
(8)
صحيح البخاري كتاب العتق (2565)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن أبو داود العتق (3929)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).
قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا وكان البيع على هذا الشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا، فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطا في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (2)
برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحدا ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا (3) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما أو إن أعتقها إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا، إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبينه، فإذا لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة، أو بشرط الهبة، أو بشرط التدبير، وكل ذلك لا يجوز.
ومن حديث جابر، فإننا رويناه من طريق البخاري نا أبو نعيم نا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول: حدثني جابر بن عبد الله «أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فسار سيرا ليس يسير مثله ثم قال: بعنيه بأوقية، قلت: لا ثم قال: بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت فأرسل على أثري فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك (5)» ومن طريق مسلم: نا ابن نمير نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي حدثني جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: بعنيه فبعته بأوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك (7)» ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2)
سورة الأحزاب الآية 6
(3)
في النسخة رقم 14 عتقا أصلا.
(4)
صحيح البخاري الشروط (2718).
(5)
في صحيح البخاري ج4 ص 30 فسار يسير. (4)
(6)
صحيح البخاري الجهاد والسير (2967)، صحيح مسلم المساقاة (715)، سنن النسائي البيوع (4637)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 376).
(7)
في النسخة رقم 16 ثم إني رجعت وما هنا موافق لما في صحيح مسلم ج1 ص 470. (6)
سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل الجمل؟ بعنيه قلت: يا رسول الله بل هو لك قال: لا بل بعنيه، قلت: لا: بل هو لك قال: (لا بل) بعنيه قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به، فلما قدمت المدينة جئته به فقال لبلال (يا بلال) زن له أوقية وزده قيراطا (4)» هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر.
قال أبو محمد: روى هذا أن ركوب جابر للجمل كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير، فروي عنهما عن جابر أنه كان شرطا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم لهم أنه كان شرطا ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أخذته بأوقية (5)» وصح عنه عليه السلام أنه قال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك ما كنت لآخذ جملك ذلك فهو مالك (6)» كما أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان، أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله بل انتفى منه. ومن جعل كل ذلك أخذا واحد فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه وهذا كفر محض. فإذا لا بد من أنهما أخذان؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (7) إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (8) أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط، وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا وبالله تعالى التوفيق.
فأما الحنيفيون، والشافعيون فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم - إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة - أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه، هذا فرض عليهم وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما (9) أو يمنع
(1) صحيح البخاري البيوع (2097)، صحيح مسلم الرضاع (715)، سنن النسائي البيوع (4639).
(2)
في سنن النسائي ج 7 ص 299 قلت: بل هو لك يا رسول الله. (1)
(3)
الزيادة من سنن النسائي. (2)
(4)
الزيادة من سنن النسائي. (3)
(5)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 314).
(6)
صحيح مسلم المساقاة (715).
(7)
في النسخة رقم 16 (إذا لا سبيل).
(8)
في النسخة رقم 14 (وترك).
(9)
في النسخة رقم 14 (يأتي محرما).
حلالا، وهذا ضلال مبين. فإن حدوا في ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين. فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه. ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك.
(فإن قالوا): إن في بعض ألفاظ الخبرين ذلك كان حين دنوا من المدينة. قلنا: الدنو يختلف ولا يكون إلا بالإضافة، فمن أتي من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضا فإن هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطا (1) وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة، فإذا لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (2) ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل. وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب، فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات. كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على تلك المسافة سائر المسافات. فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا وبالله تعالى التوفيق.
* * *
وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وددنا لو أن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر (3) أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة ثم أجاز قليلا ثم رجع فقال: أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة قال: نعم فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط؟ قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ولم ينكر ذلك سعيد، وصوبه الزهري، فخالف الحنيفيون والمالكيون والشافعيون كل هذا وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.
ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (4) حياته وقال: إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها. ومن
(1) كذا في الأصل ولعله: لا شرطا.
(2)
في النسخة رقم 16 (سائر الطريق).
(3)
في النسخة 14 حتى نعلم.
(4)
في النسخة 16 سكناه.
طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة ابن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور. فخالفوه ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحرث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على: إن رضي عمر، فالبيع تام، فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة. فخالفوهم كلهم. ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر أنه اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة. وليس فيه وقت ذكر الإيفاء. فخالفوه ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره فتبايع الناس إلى قدوم الراكب. وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه. وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق، وحكم علي بشرط الخلاص.
وللحنيفيين والمالكيين والشافعيين تناقض عظيم بما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه، ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره؛ لأن الأمر أكثر من ذلك وبالله تعالى التوفيق. اهـ (1).
(1) المحلى ج 8 ص 412 ـ 420 المطبعة المنيرية.