الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقول الشاعر: فإياك نستهدي وإياك نعبد، تأثر فيه بقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1){اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) ولعلنا بعد هذا أدركنا إلى أي مدى تأثر شعر حسان بالقرآن.
* * *
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2)
سورة الفاتحة الآية 6
من شعر حسان المرتجل في الوفود
بعد أن فتحت مكة تدفقت وفود القبائل العربية على المدينة تعلن إسلامها أو تفاخر الرسول بأمجادها وتكشف عن مكانها وعزتها، وسمي ذلك العام عام الوفود لكثرة الوفود التي قدمت فيه على الرسول وكان بين تلك الوفود وفد تميم وحينما ظهر لهم الرسول قالوا: يا محمد جئنا لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا قال: أذنت لخطيبكم فليقل، فقام عطارد بن حاجب فخطب، ولما انتهى قال الرسول لثابت بن قيس: قم فأجب الرجل فخطب ثابت، ثم أذن لشاعرهم الزبرقان بن بدر فبدأ قصيدته بقوله:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
منا الملوك وفينا يقسم الربع
والربع: ربع الغنيمة وكانوا إذا غزوا في الجاهلية أخذ الرئيس ربع الغنيمة وحده وذلك ما سمي المرباع ولم يكن حسان في المجلس حين حضر وفد تميم فبعث إليه الرسول فلما حضر سمع قصيدة الزبرقان ولما انتهى منها قال عليه الصلاة والسلام: قم يا حسان فأجب الرجل فقام حسان يرتجل:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
…
قد بينوا سنة للناس تتبع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة
…
إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم
…
عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم
…
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
ولا يضنون عن مولى بفضلهم
…
ولا يصيبهم في مطمع طبع
أعطوا نبي الهدى والبر طاعتهم
…
فما وني نصرهم عنه وما نزعوا
إن قال سيروا أجدوا السير جهدهم
…
أو قال: عوجوا علينا ساعة ربعوا
ما زال سيرهم حتى استقاد لهم
…
أهل الصليب ومن كانت له البيع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا
…
ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم - فاترك عداوتهم-
…
شرا يخاض عليه الصاب والسلع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها
…
إذا الزعائف من أظفارها خشعوا
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم
…
وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع
…
أسد ببيشة في أرساغها بدع
إذا نصبنا لقوم لا ندب لهم
…
كما يدب إلى الوحشية الذرع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
…
إذا تفرقت الأهواء والشيع
الذوائب: الأعالي ويراد منها السادة، فهر: أصل قريش، السجية: الطبيعة، الطبع بتشديد الطاء المفتوحة وفتح الباء: العيب والدنس، الوني: الفتور والضعف، ربع بالمكان: أقام فيه، استقاد لهم أهل الصليب أعطوهم المقادة، الصاب: شجر يعتصر فتخرج منه قطرات إذا وضعت في العين كان كالنار وقيل الصاب: عصارة الصبر، والسلع: نوع من الشجر، الزعانف، السفلة من الناس، الخور بضم الخاء: الضعفاء من الناس، الجزع بضم الجيم والعين جمع جازع: ضد الصابر، المكتنع: القريب، بيشة: موضع تنسب إليه الآساد، الفدع: العوج، الذرع بتشديد الذال المضمومة وضم الراء، كل ما استتر به، الذريعة: جمل يختل به الصيد فيترك مع الصيد حتى يألفه ثم يستتر به الصياد حتى يتمكن من فريسته.
عرض الزبرقان بن بدر شاعر تميم مفاخرهم في أنهم الملوك الكرام القاهرون لأعدائهم المطعمون عند القحط الذين يدين لهم السادة والأشراف وينقاد لأمرهم كل مفاخر ولا يفاخرهم أحد، وهم يفخرون على كل أحد. أما حسان فقد رد بما أملاه عليه دينه أولا وهو هداية الناس وتوجيههم إلى تقوى الله واتباع شريعته ثم رد على قول تميم بأنهم القاهرون للأعداء بتهديد ووعيد:(قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم) ثم قابل ذلك بأنهم النافعون للأشياع. فليست حياتهم قصرا على الشر دأب الكثير من قبائل العرب في جاهليتهم، وأمعن حسان في الكشف عن قوة فتك المسلمين فبين أن الناس لا يستطعيون علاج ما يوقعونه بهم فهم الذين لا يقهر حليفهم، وهم السباقون وكل سبق تابع لسبقهم، وهم الذين لا يدنسون حياتهم بعيب، والعقلاء الحلماء الذين لا يركنون إلى الجهل والحمق؛ لأن في أخلاقهم سعة وأنهم أسلموا نفوسهم وطاعتهم لرسول الله ومن ثم آتاهم الله النصر من عنده ووضح الطاعة بأنهم يجدون إذا استنهضوا، ويقفون إذا أمروا. وما زال وضعهم كذلك حتى دان أهل الصليب والبيع.
وكشف عن المسلمين في الحروب كشف تهديد فحروبهم شر يخاض فيها الصبر، وهم الشجعان المتسامون بصفاتهم حين يجزع الناس من أظفار الحرب ومخالبها، وليسوا بالفخورين حين ينالون من عدوهم، ولا الضعفاء إذا نيل منهم وهم أسد بيشة يخافهم منازلوهم، ولا يخاتلون في حروبهم فيدبون إلى عدوهم دبيب الصياد المخاتل الذي يتخذ دريئة يخدع بها صيده حتى يصيده، فذلك فعل الجبان وهم ليسوا جبناء، وحسبهم أن يكون رسول الله شيعتهم حين تفرق الأهواء القلوب.