الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناجي الطنطاوي
الحديث عن لو
كلمة (لو) لفظ صغير في تركيبه ومبناه، ولكنه كبير في دلالته ومعناه، تنظر إليه ببصرك نظر من يرى الشيء في ظاهره فلا يكاد يملأ عينيك ولا يكاد. . يجذبك إليه، ولا يثير في حنايا نفسك شعورا بالاهتمام به والانصراف إليه، ولا تحس برغبة في العناية بما يحمل في طياته من معان وعظات.
وهو لفظ مركب من حرفين فقط تجاورا أمدا طويلا. وارتبطا برباط الألفة والجوار فلم يفارق أحدهما صاحبه. وهو لفظ سهل النطق يخرج من بين الشفتين في خفة ورقة، ويسر وسهولة، دون
أن تتكلف له أو تتهيبه أو توليه العناية، وأنت تحسب للنظرة الأولى أنه لا يستحق منك الالتفات إليه ولا التفكير فيه، ولا البحث عن السر الذي يكمن في ثناياه وحواشيه، ويغيب عن ذهنك أن الصغير الضئيل ربما استوفز فخلف وراءه الأثر الكبير، وقديما قال الشاعر:
لا تحقرن صغيرا في مخامصة
…
إن البعوضة تدمي مهجة الأسد
ويحفزنا الحديث عن (لو) إلى الكلام عنها من الناحية اللغوية النحوية، ومن الناحية الشرعية أيضا لأن الرباط بين علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة رباط وثيق لا تنفصم عراه، ولا يتطرق إليه الوهن، فاللغة العربية هي لغة القرآن، قال الله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1){نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2){عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3){بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4)
* * *
فلسان العرب هو اللسان الذي نزل به الكتاب، وهو اللسان الذي وردت به الأحاديث الشريفة النبوية وليس هناك من سبيل لفهم نصوص الكتاب والسنة إذا جهل المرء قواعد اللغة العربية.
يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به. وعن مكحول قال: بلغني أن من قرأ بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي» . ولو أنك أمعنت النظر في كتب التفاسير لرأيت للشروح اللغوية وللإشارات البلاغية نصيبا وافرا منها ومن كان محروما من معرفة اللغة العربية وأساليبها ودقائقها، أو كان قليل البضاعة من علومها كان من
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2)
سورة الشعراء الآية 193
(3)
سورة الشعراء الآية 194
(4)
سورة الشعراء الآية 195
العسير عليه تذوق نصوصها ومعرفة معاني الآيات التي يتعبد ربه بتلاوتها، ولم يجد في نفسه تلك المتعة التي يحس بها من أجاد قواعد اللغة وتمكن من معاني مفرداتها، ورب خطأ غير مقصود في كلمة من كلمات القرآن الكريم أو في حرف من حروفه أو في حركة من حركاته في الإعراب أدى إلى عكس المقصود منه. بل لعله يؤدي إلى الكفر كما حدث لذلك الأعرابي الذي قدم المدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة فلما بلغ إلى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) قرأها بكسر لام رسوله، فقال الأعرابي: أو بريء الله من رسوله؟ فإن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه. . فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني هذا سورة براءة فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (2) فقلت: أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن برئ منه فأنا أبرأ منه فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ورسوله (بالضم) فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه. فأمر عمر أن لا يقرئ الناس إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
وصنف بعض العلماء كتبا في إعراب القرآن مثل الإمام أبي البقاء العكبري وابن خالويه وغيرهما، وصنف آخرون في بلاغة القرآن وفي إعجازه، بل إن الأمثلة في مصنفات علم النحو والبلاغة التي استشهد بها المؤلفون كان أكثرها مستمدا من القرآن الكريم والحديث الشريف.
* * *
ونعود إلى الحديث عن (لو) بعد هذه المقدمة فنقول: إنها عند أهل اللغة وعلماء النحو (حرف امتناع لامتناع) تقول: (لو ذهبت معنا لسررت) فامتنع سرورك لامتناع ذهابك؛ لأن الأول متعلق بالثاني ومشروط بوجود ومنه قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} (3) وهذا بخلاف (لولا) فهي حرف امتناع للوجود، تقول:(لولا رحمة الله لهلك الناس) فوجودها منع هلاكهم. وذكر (ابن هشام)(4) أنها تقتضي امتناع شرطها دائما لا جوابها، ثم إن لم يكن لجوابها سبب غيره لزمه امتناعه نحو {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (5)
(1) سورة التوبة الآية 3
(2)
سورة التوبة الآية 3
(3)
سورة التوبة الآية 47
(4)
في كتابه أوضح المسالك (3 ـ 203)
(5)
سورة الأعراف الآية 176
وكقولك: (لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا) وتختص مطلقا بالفعل يأتي بعدها، ويجوز أن يليها اسم معمول لفعل محذوف يفسره ما بعده مثل (لو غيرك قالها) وكثيرا ما تأتي بعدها (أن) وصلتها نحو {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} (1)
وتعتبر (لو) من حروف التمني كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (2) فقد تمنى لوط عليه السلام لو أنه وجد عونا على رد قومه وإبعادهم عن أضيافه. وقال القرطبي: (أن) في موضع رفع بفعل مضمر تقديره (لو اتفق أو وقع) وهذا يطرد في (أن) التابعة لـ (لو) وجواب (لو) محذوف أي لرددت أهل الفساد.
وهي أيضا حرف (عرض وطلب) كقولك لصاحبك: (لو تجلس عنا فتستفيد علما) فأنت تعرض عليه الجلوس وتطلبه منه.
وتأتي أيضا (للحض) كأن تقول لصاحبك: (لو فعلت كذا) أي افعل كذا تحضه على الفعل. وهي من (الأحرف المصدرية) تجعل ما بعدها في تأويل مصدر فترادف (أن) المصدرية تقول: (أحب أن تعمل معي فتصيب خيرا) أي إنني أحب عملك معي، وتسمى في مثل هذه الحال (موصولا إضافيا) يوصل بما بعده فيجعله في تأويل مصدر، وأكثر وقوعها بعد فعل (ود) - كما قال ابن هشام (3) - نحو قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (4) وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (5) ومنه قول قتيلة:
(1) سورة الحجرات الآية 5
(2)
سورة هود الآية 80
(3)
في كتاب أوضح المسالك (3 ـ 199).
(4)
سورة القلم الآية 9
(5)
سورة البقرة الآية 96
وهي أيضا من (حروف الشرط) للمستقبل، وفي هذه الحال لا تفيد الامتناع نحو قوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} (1) يعني أن يتركوا، وكلمة (خافوا) في تتمة الآية ماض جواب الشرط والتقدير (لو تركوا لخافوا) وحذفت اللام هنا من جواب الشرط، وهو جائز كما في قوله تعالى:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} (2) ولم تحذف في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} (3) وإثبات اللام أكثر، أما إذا جاء جوابها منفيا فالأكثر حذفها نحو قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} (4) وتأتي أيضا (للتقليل) كما ورد في الحديث الشريف «التمس ولو خاتما من حديد (5)» . وفي الحديث الآخر «أدوا العلائق. قالوا وما العلائق؟ قال ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك» . رواه الدارقطني والطبراني وفي الحديث أيضا «تصدقوا ولو بظلف محرق (6)» كل ذلك للتقليل.
* * *
وقد يأتي جوابها في المعنى لا في اللفظ. قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (7) إن كلمة (لمثوبة) جواب (لو) عند قوم. وقال الأخفش سعيد (لو) ليس لها هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، المعنى (لأثيبوا) وموضع (أن) من قوله:(ولو أنهم) موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لأن (لو) لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا؛ لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد لها من جواب و (أن) يليه فعل. قال (محمد بن يزيد) وإنما لم يجازوا بلو لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل فلما لم يكن هذا في (لو) لم يجز أن نجازي بها (8). وقال ابن هشام: في أوضح المسالك قيل: إن الجملة مستأنفة أو جواب لقسم مقدر.
وقال الإمام الطبري في تفسيره: أنكر بعض نحويي أهل البصرة على الأخفش وقال: إن جواب قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (9) هو قوله: (لمثوبة) وقال: إن (لو) إنما أجيبت بالمثوبة وإن كانت أخبر بها بالماضي من الفعل لتقارب معناها من معنى (لئن).
(1) سورة النساء الآية 9
(2)
سورة الواقعة الآية 70
(3)
سورة الواقعة الآية 65
(4)
سورة الأنعام الآية 112
(5)
صحيح البخاري النكاح (5135)، صحيح مسلم النكاح (1425)، سنن الترمذي النكاح (1114)، سنن النسائي النكاح (3359)، سنن أبو داود النكاح (2111)، سنن ابن ماجه النكاح (1889)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 336)، موطأ مالك النكاح (1118)، سنن الدارمي النكاح (2201).
(6)
سنن الترمذي الزكاة (665)، سنن أبو داود الزكاة (1667)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 382)، موطأ مالك الجامع (1714).
(7)
سورة البقرة الآية 103
(8)
تفسير القرطبي 2 ـ 56.
(9)
سورة البقرة الآية 103
وعقد الثعالبي في كتابه (فقه اللغة) فصلا في إلغاء خبر (لو) اكتفاء بما يدل عليه الكلام وثقة بفهم المخاطب وقال: إن ذلك من سنن العرب كقول الشاعر:
وجدك لو شيء أتانا رسوله
…
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
والمعنى: لو أتانا رسول سواك دفعناه. وفي القرآن الكريم حكاية عن لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (1) وفي ضمنه لكنت أكف أذاكم عني، ومثله قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (2) والخبر عنه مضمر كأنه قال: لكان هذا القرآن (3). ويؤيده في ذلك قول القرطبي: والجواب محذوف تقديره لكان هذا القرآن (ثم يقول): لكن حذف إيجازا لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه كما قال امرؤ القيس.
فلو أنها نفس تموت جميعة
…
ولكنها نفس تساقط أنفسا
يعني (لهان علي) هذا معنى قول قتادة قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم وفي الكلام تقديم وتأخير، أي وهم يكفرون بالرحمن لو أننا نزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا (4) وذكر الطبري: في تفسيره قول بعضهم: إنه من المؤخر الذي معناه التقديم، وجعلوا جواب (لو) مقدما قبلها، وقال آخرون: بل هو كلام مبتدأ منقطع عن قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (5) قال: وجواب (لو) محذوف دل عليه الكلام، والعرب تفعل ذلك كثيرا.
وذكر القرطبي: في قوله: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} (6) أن العلم هنا المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا، وجواب (لو) محذوف أي لو علموا الوقت الذي لا يكفون عن وجوهم النار وعرفوه لما استعجلوا الوعيد، وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. ونقل ابن حجر في شرح البخاري عن ابن بطال في قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (7) أن جواب (لو) محذوف كأنه قال: (لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد) قال: وحذفه أبلغ لأنه يحصر بالنفي ضروب المنع، وإنما أراد لوط عليه السلام العدة من الرجال، وإلا فهو يعلم أن له من الله ركنا شديدا ولكنه جرى على الحكم الظاهر.
(1) سورة هود الآية 80
(2)
سورة الرعد الآية 31
(3)
فقه اللغة 499.
(4)
تفسير القرطبي: 9: 319.
(5)
سورة الرعد الآية 30
(6)
سورة الأنبياء الآية 39
(7)
سورة هود الآية 80
ولتمام الفائدة نقول: إنك إذا أردت التحدث عن لفظ (لو) بوصفه كلمة مستقلة فإنك تجعله اسما وتعربه، وهي حين تقام مقام الاسم تصرف وتصير مرادفة للندم والتمني. وقال ابن مالك: إذا نسب إلى حرف أو غير حكم هو للفظه دون معناه جاز أن يحكى وجاز أن يعرب بما يقتضيه العامل.
وأشار الإمام البلوي: إلي ذلك في كتابه (ألف باء) واستشهد بقول الشاعر:
سبقت مقادير الإله وحكمها
…
فأرح فؤادك من (لعل) ومن (لو)
وقول الآخر:
وقدما أهلكت (لو) كثيرا
…
وقبل اليوم عالجها قدار
وجمع الشاعر بينها وبين (ليت) في شطر بيت بقوله: إن (لوا) وإن (ليتا) عناء
* * *
ونكتفي بهذا القدر عن (لو) في مجال اللغة والنحو، وننتقل إلى الكلام عنها من الناحية الشرعية فنقول: جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام في صحيحه في كتاب القدر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان (1)» . ينهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن تعويد ألسنتنا النطق بهذه الكلمة الصغيرة؛ لأنها تشير من طرف خفي إلى معارضة القدر، وهذه المعارضة يلقيها الشيطان في نفسك من حيث لا تحسها ولا تشعر بها فهي مفتاح من مفاتيحه الكثيرة، وحبالة من حبائله المتعددة التي يعدها ليصيد بها قلوب بني آدم ويستعين بها على إفساد نفوسهم أو إضلالهم أو إدخال الشك على قلوبهم في أقل المراتب.
وإن المسلم ليعلم علم اليقين أن ما أصابه من خير وما لحق به من شر وما ناله من سواء إنما كان بقضاء الله وقدره منذ الأزل، وأن ما قدره الله سبحانه واقع لا محالة.
(1) صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه المقدمة (79)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 370).
وقد نهى العلماء عن تعويد اللسان النطق بكلمة (لو) ومن الخير أن تضمر في نفسك شرط مشيئة الله فتقول في نفسك: (إلا أن يشاء الله). أما إذا قلت: (لو) ناويا التأسف على ما فاتك من طاعة الله والاستكثار من الخير فهو جائز، ويدخل هذا المعنى في باب التمني الذي تستعمل له هذه الكلمة أحيانا.
وإذا طال بك السهر وأويت إلى فراشك بعد هزيع من الليل، ثم غلبك النوم فلم تنهض إلى صلاة الفجر مع أنك كنت عازما في قرارة نفسك على النهوض إليها فإنك تحس إذ ذاك بالندم على تقصيرك ويخالط نفسك الأسى وتشعر بالأسف لهذا السهر الذي حال بينك وبين أداء الفريضة في وقتها، وتقول: لو أنني لم أسهر لم تفتني الصلاة، ولا تقصد بقولك هذا معارضة القدر، ولكنك تظهر التأسف والندم على تقصيرك وإهمالك.
* * *
وعقد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه كتابا من التمني أورد فيه بابا سماه (باب ما يجوز من اللو) ذكر فيه قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (1) وأورد بعض الأحاديث في هذا المعنى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت راجما امرأة من غير بينة (2)» ومثل قوله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك (3)»
* * *
وقال الإمام القسطلاني رحمه الله: ولا معارضة بين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز والدالة على النهي؛ لأن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، فيكون المعنى لا تقل لشيء لم يقع: لو أني فعلت كذا لوقع قاضيا بتحتم ذلك غير مضمر في نفسك شرط مشيئة الله، وإن ما ورد من التلفظ بكلمة (لو) محمول على ما إذا كان قائله موقنا بالشرط المذكور وهو أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله وإرادته قاله الطبري.
ونقل الإمام ابن حجر عن الطبري في طريق الجمع بين هذا النهي وبين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز أن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، وقال: إن معنى الحديث، لا تقل لشيء لم يقع لو أني فعلت كذا لوقع قاضيا بتحتم ذلك، وهو كقول أبي بكر في الغار:(لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا). فجزم بذلك
(1) سورة هود الآية 80
(2)
صحيح البخاري التمني (7238)، صحيح مسلم كتاب اللعان (1497)، سنن النسائي الطلاق (3470)، سنن ابن ماجه الحدود (2560)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 336).
(3)
قال الإمام القسطلاني: إن مآل (لولا) إلى (لو) إذ معناه (لو لم تكن المشقة لأمرتهم به) وهذا يرفع استشكال ما عقد عليه الباب في قوله: ما يجوز من اللو.
مع تيقنه أن الله قادر على أن يصرف أبصارهم عنهما بعمى أو غيره، لكن جرى على حكم العادة الظاهرة وهو موقن بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروهما إلا بمشيئة الله تعالى.
* * *
ويقول القاضي عياض: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مستقبل وليس فيه دعوى لرد قدر بعد وقوعه. . إلى أن يقول: والذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه ولكنه نهي تنزيه.
ويعقب الإمام النووي على هذا القول مؤيدا ومستشهدا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي (1)» فيكون نهي تنزيه لا تحريم، أما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله ونحوه فلا بأس به. اهـ.
ونقل ابن حجر عن القرطبي: أن المراد من الحديث الذي أخرجه مسلم أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضى بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات، فإنه إذا فكر فيما فاته من ذلك فقال: لو أني فعلت كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه، وليس المراد ترك النطق (بلو) مطلقا إذ قد نطق النبي صلى الله عليه وسلم بها في عدة أحاديث، ولكن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيها إذا أطلقت معارضة للقدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور. اهـ.
وكما أشار القرطبي رحمه الله: فقد وردت كلمة (لو) في عدة أحاديث نذكر منها حديث «لو سلك الناس واديا أو شعبا (2)» وحديث «لو مد بي في الشهر لواصلت (3)» . .) وحديث «لو تأخر - يعني الهلال - لزدتكم (4)» . .) وغيرها.
ووردت في آيات عدة من القرآن الكريم كقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: و {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} (5) و {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (6) و {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} (7) و {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} (8) و {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} (9) وغيرها.
وقال السبكي: وقد تأملت اقتران «احرص على ما ينفعك (10)» بقوله: (وإياك واللو) فوجدت الإشارة إلى محل (لو) المذمومة وهي نوعان: أحدهما في الحال ما دام فعل الخير ممكنا فلا يترك لأجل فقد شيء آخر فلا تقول: لو أن كذا كان موجودا لفعلت كذا مع القدرة على فعله ولو لم يوجد ذاك، بل يفعل الخير ويحرص على عدم فواته، والثاني من فاته أمر من أمور الدنيا فلا يشغل نفسه.
(1) صحيح البخاري التمني (7229).
(2)
صحيح البخاري المغازي (4332)، صحيح مسلم الزكاة (1059)، سنن الترمذي المناقب (3901)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 169).
(3)
صحيح البخاري التمني (7241)، صحيح مسلم الصيام (1104)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 253).
(4)
صحيح البخاري الصوم (1965)، صحيح مسلم الصيام (1103)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 281)، سنن الدارمي الصوم (1706).
(5)
سورة الأعراف الآية 188
(6)
سورة آل عمران الآية 154
(7)
سورة آل عمران الآية 154
(8)
سورة التوبة الآية 42
(9)
سورة آل عمران الآية 167
(10)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه المقدمة (79)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 370).
بالتلهف عليه لما في ذلك من الاعتراض على المقادير وتعجيل تحسر لا يغني شيئا، ويشتغل به عن استدراك ما لعله يجدي.
وعلى هذا فليس المراد ترك النطق بلفظ (لو) مطلقا؛ لأنه وقع في عدة أحاديث وآيات كما ذكرنا، ولكن النهي ينحصر فيما إذا أطلقت معارضة للقدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور.
ويقول الإمام البلوي: في كتاب (ألف باء) قد تنفع (لو) في بعض الأوقات بحسب اختلاف النيات يقول الإنسان: لو قضى الله شيئا كان، وإذا عمل الشر قال: لو وفقني الله لهداني إلى الخير، فقد تنصل من قوته وحوله ووكل الأمر إلى أهله. وجاء عن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة قط فلم تقض إلا قال: يا بني لو قدر شيء لكان» وكان بعض أزواجه تقول: لو فعلت كذا وكذا فيقول: «دعوه ما يكون إلا ما أراد الله عز وجل» فهذا الضرب من القول - بحمد الله - صاحبه سالم وقائله إن شاء الله غانم والحمد لله رب العالمين.
الشيخ ناجي الطنطاوي
1 -
ولد في دمشق عام 1914 م 1334 هـ.
2 -
نال شهادة (دار المعلمين) عام 1353 هـ 1934 م.
3 -
نال شهادة (الحقوق) عام 1365 هـ 1946م.
4 -
اشتغل بالتعليم (14سنة) واشتغل بالقضاء (قاضيا شرعيا)(12) سنة.
5 -
يعمل مستشارا في وزارة الحج والأوقاف منذ عام (1383) هـ.
6 -
ألف كتاب (أخبار عمر وعبد الله بن عمر) بالاشتراك مع أخيه الشيخ علي الطنطاوي واشترك معه أيضا في تحقيق كتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي. وله مقالات وأبحاث وقصائد شعرية منشورة في الجرائد والمجلات في دمشق والقاهرة والمملكة العربية السعودية وأحاديث إذاعية.