الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونشأ بين قومه من الخزرج وهم يخوضون مع الأوس في المدينة غمار معارك تعددت أيامها، واصطلى الجانبان بنيرانها، والعربي الذي يعيش بين غبار المعارك ودمائها أحد رجلين: محارب يحمل السلاح فيذود به، ويكسب مجدا ببطولته، أو شاعر يرسل القوافي تثير وتهدد، وتسجل المفاخر، وتذيع الأمجاد، ومن النوع الثاني كان حسان، ومكانة الشاعر في المعارك لا تقل عن مكانة الفارس، فالفارس ساعد القبيلة، والشاعر لسانها يصور مواقفها وأمجادها إذا كانت فيه الموهبة القادرة على التصوير، وكان حسان يختلس نفسه من ضجيج المعارك حينا فيشارك العرب اجتماعاتهم في سوق عكاظ يسمع ما تجود به العبقريات الشاعرة، ويسمع من فيه ما قاله في عامه من روائع يعتد بها في الفخر أو في غيره، وحينا يولي وجهه شطر الشام حيث ينسى بين ظلال نعماء الغساسنة آلام الحرب ومناظر الدماء التي تخلفها المعارك.
وعرف حسان كما عرف اليثربيون جميعا دعوة الإسلام بعد بيعة العقبة ولكنه لم يسلم إلا بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.
وحين دقت أسماعه أهاجي شعراء قريش للرسول غلت مراجل أحاسيسه، ورآه الرسول خير من يتزعم معركة الدفاع اللساني، فندبه لهذه المهمة ونصب له في مسجده منبرا فراح حسان يصب من فوقه حمم الهجاء على قريش وعلى من عبأتهم من الشعراء لهجاء الرسول.
* * *
صدق شاعريته
تعمل البيئات عملها في خلق الأديب وتكوين شاعريته، والشاعر الصادق هو ابن بيئته التي تحيط به، وتؤثر فيه، فتلهمه حيث يستلهمها، ويفي لها فيترجم عنها، وتصدق ترجمته كلما صدق تأثره فالبدوي الذي تشد بصره المفاوز الواسعة ويلمح سماءها الصافية أو الماطرة ونجومها الزاهرة، وأرضها المقفرة، أو وديانها المعشبة، وآكامها الصخرية، وجبالها الشامخة وكهوفها وأغوارها السحيقة، ويبصر فوق رمالها الظباء السوائح، وفي سفوح جبالها ووديانها الإبل والأغنام ذلك الذي يبصر كل ذلك خليق به أن يفتن في تصوير ما حوله، وما يلم به بصره، وأن ينتزع صوره من ذلك المحيط حتى يكون بارا ببيئته، وأن يصدق عليه أنه وليدها الذي يحكي عنها حتى يلائم قوله أمزجة قومه وما يألفون من الصور وهو حين يفعل ذلك يكون الترجمان الصادق في تعبيره، والمصور المبدع في تصويره.
وشاعر الريف الزاهر الذي يعيش بين أحضان الطبيعة الطبيعية يستلهم جمال الورود وشدو الطيور، وخرير الجداول وفضي النهر في الليل المقمر، وذهبي الجدول عند الأصيل فيلهمه كل ذلك فيضا من الإحساس بالجمال يحكيه شعرا، ويرسله ترانيم شادية مثل ذلك الشاعر عملت فيه بيئته عملها فتجاوب معها وعبر عنها وكأنه الوتر العازف معها في ألحان الحياة.
فكل أولئك حين يصدرون عن وحي بيئاتهم يكون شعرهم مرآة تعكس للأجيال صور تلك البيئات وآثارها في عقولهم وتفكيرهم وتصويرهم وتعبيرهم.
فما هي البيئات التي أثرت في حسان وهل صدقت شاعريته ووفت لتلك البيئات؟
لقد عاش حسان في جاهليته وإسلامه بين يثرب والشام.
أما يثرب فتكتنفها الجبال، وتحيط بها لابتان من الحجارة السوداء قال في إحداها حسان:
ترى اللابة السوداء يحمر لونها
…
ويغبر منها كل ربع وفدفد
وحولها كثرة من بساتين النخيل والأعناب والفاكهة وكانت سوقا للتجارات الواردة من اليمن والهند والشام، وقد أمدت هذه التجارات أهل يثرب بشيء من الثراء، ولم تنم الحروب الناشبة بين الأوس والخزرج في الجاهلية فكانت الأيام بينهما متصلة الحلقات ومن أيامهم يوم بعاث ويوم سميحة ويوم الدرك ويوم الربيع ويوم البقيع، وقد ورد بعض هذه الأيام في شعر حسان، وكان نصيبه من تلك المعارك نصيب الشاعر المترجم تلك هي بيئته الطبيعية والاجتماعية الأولى.
وكانت الشام البيئة الثانية لحسان حيث كان ينزح إلى جوار الغساسنة العام بعد العام فيمدحهم ويقيم بينهم شهورا ويعود بصلاتهم وعطاياهم. وبلاد الشام غنية منذ بعيد بالزراعة والفاكهة والتجارة وعاش ملوكها بين البذخ والنعيم. وتمتع معهم بذلك البذخ الكثير من شعراء العرب ومنهم حسان، وقد شهد حسان في الشام جمال الطبيعة في رياضها وجداولها المنسابة كما شهد مجالس اللهو والغناء، ورأى آثار الحضارتين الرومانية واليونانية اللتين امتدتا إلى الشام أثرا للاتصال والجوار، ولهذه البيئة الثانية أثرها فيه. فلما أسلم حسان شغله الدين الجديد، ورأى في القرآن وما فيه زادا لشاعريته، وكان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدور فيه من مسائل الدين والعلم والاقتصاد والسياسة والحرب بيئة ثقافية جديدة لشاعرية حسان، وقد عاش مع الأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية التي كانت في حياة الرسول وبعده، وشهد الغزوات، وعاصر المعارك الدائرة بين المسلمين والفرس والروم كما عاصر الخلافات التي كانت بين المسلمين واليهود والتي كانت في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار، وعاصر الفتنة الكبرى التي راح ضحيتها عثمان وما كان وراءها من معارك في البصرة وصفين.
وقد تفاعلت كل هذه المؤثرات مع مشاعر حسان فأرسل شعره يصور تلك الأحداث بل حمل العبء الأكبر في تصوير الدعوة منذ أسلمه الرسول صلى الله عليه وسلم زعامة الدفاع عنه وعن دعوة الإسلام، فنهض حسان بذلك العبء وروح القدس يؤيده.
ونضيف إلى تلك المؤثرات مؤثرا جديدا كان له أثره الكبير فيه، وهو أن بيت حسان كان بيت الشعر
والشعراء فقد كان أبوه ثابت شاعرا وكان جده المنذر شاعرا وجد أبيه حرام كان شاعرا وكان عبد الرحمن بن حسان شاعرا وكان حفيده سعيد بن عبد الرحمن شاعرا وكانت ابنة حسان شاعرة فكان حسان في هذا البيت واسطة عقد الشعراء في تلك الأسرة الشاعرة.
وقد حدثوا أن حسانا قال يوما:
وإن امرأ يسمي ويصبح سالما
…
من الناس إلا ما جنى لسعيد
قال ابنه عبد الرحمن:
وإن امرأ نال الغنى ثم لم ينل
…
صديقا ولا ذا حاجة لزهيد
وأنشد بعد ذلك حفيده سعيد:
وإن امرأ لاحى الرجال على الغنى
…
ولم يسأل الله الغنى لحسود
كما حدثوا أن شاعرنا أرق ليلة فقام يعالج الشعر فقال:
وقافية عجت بليل رزينة
…
تلقيت من جو السماء نزولها
وانقطع الإلهام عنه فلم ينطق فقالت ابنته: أو أجيزك؟ فقال لها: وعندك ذلك؟ قالت: نعم قال: فافعلي، فقالت:
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده
…
ويعجز عن أمثالها أن يقولها
فهاج حسان وقال:
متاريك أذناب الحقوق إذا التوت
…
أخذنا الفروع واجتنينا أصولها
فقالت:
مقاويل بالمعروف خرس عن الخنا
…
كرام معاط للعشيرة سولها
وشهد الأصمعي لعبد الرحمن بن حسان بالشاعرية السباقة في قوله في وصف السحاب:
كأن الرباب دوين السحاب
…
نعام تعلق بالأرجل
وكانت شاعرية عبد الرحمن مبكرة حيث قالوا: إن معلم الصبيان أراد معاقبته على تأخره عن موعد الحضور إلى المكتب فقال عبد الرحمن وهو صبي معتذرا:
الله أعلم أني كنت منتبذا
…
في دار حسان أصطاد اليعاسيبا