الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: موقفه من العقيدة:
هذا هو الباب الأساسي في زيغ هذا التفسير فانظر مثلا إلى قوله في حديثه عن الفاتحة:
حمد نفسه بنفسه، ومجد نفسه بنفسه، وعظم نفسه بنفسه، ووحد نفسه بنفسه، ولله در السعدوى حيث قال:
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
فقال في تمجيد نفسه بنفسه مترجما نفسه بنفسه: {الحمد لله رب العالمين} (1). (2)
وهذا انحراف عقدي خطير إن لم يكن كفرا والعياذ بالله لأن "ما" النافية مع "من" تفيد الاستغراق وتنكير لفظة "واحد" تدل على شمول ذلك للرسل صلوات الله عليهم وهم قد وحدوا الله حق توحيده. أما توحيد هؤلاء فلاشك أن الرسل لم يوحدوا به الله لأنه عين الشرك وقد قال تعالى {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} (3) وقال تعالى عن رسله {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (4)
وقال أيضا مما يوحي بتأثره بوحدة الوجود وهو مايظهر كثيرا في كلامه وإن خالفه غيره:
لا عبرة بظواهر الأشياء وإنما العبرة بالسر المكنون وليس ذلك إلا بظهور الحق وارتفاع عطاياه، وزوارل أستاره وخفاياه، فإذا تحقق ذلك التجلى والظهور، استولى على الأشياء الفناء والدثور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عين اليقين، ويحق الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين. وليت شعرى أي وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد {الملك يومئذ لله} (5) وقوله:{والأمر يومئذ لله} (6) لولا الدعاوي العريضة من القلوب المريضة. (7)
ويقول:
الطريق المستقيم الذي أمرنا الحق بطلبه، هو طريق الوصول إلى
(1) الفاتحة: 2.
(2)
ص: 10.
(3)
الزمر: 65 - 66.
(4)
الأنعام: 90.
(5)
الحج: 56.
(6)
الإنفطار: 19.
(7)
ص: 10.
الحضرة، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وهو مقام التوحيد الخاص الذي هو أعلى درجات في التوحيد، وليس فوقه إلا مقام توحيد الأنبياء والرسل، ولابد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريقة السير، قد سلك المقامات تذوقا وكشفا، وجاز مقام الفناء والبقاء، وجمع بين الجذب والسلوك، لأن الطريق عويص، قليل خطاره، كثير قطاعه، وشيطان هذه الطريق فقيه بمقاماته ونوازله، فلا بد فيه من دليل وإلا ضل سالكه عن سواء السبيل. (1)
أقول: والحمد لله الدليل هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والصراط الذي أمرنا بطلبه هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا الأقطاب والأغواث والمجاذيب!!!
ويقول:
ثم افتتح السورة برموز رمز بها بينه وبين حبيبه فقال: {الم} (2) وقد حارت العقول في رموز الحكماء، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالمرسلين؟ فكيف بسيد المرسلين؟ فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين؟ قال الصديق رضي الله عنه: في كل كتاب سر وسر القرآن فواتح السور أ. هـ فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء، وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه.
قال: قلت: والأظهر أنه حروف تشير للعوالم الثلاثة: فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر تصرف الذات في عالم الشهادة فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الكوان، واللام يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت، والميم يشير والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك.
قال جعفر الصادق: لقد تجلى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون. وقال أيضا وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا
(1) ص: 17.
(2)
البقرة: 1.
عليه، فلما سرى عنه قيل له في ذلك فقال: مازلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته أ. هـ فدرجات القراءة ثلاث: أدناها: أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفا بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه فيكون حاله السؤال والتملق والتضرع والابتهال، والثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم، والثالثة: أن يرى في كلام المتكلم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيا عن نفسه، غائبا في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار، ولا مع الله غير قرار. فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية في أهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في الذات، رضي الله تعالى عنهم، وحشرنا على مناجيهم، آمين.
فلا ترضى بغير الله حبا
…
وكن أبدا بعشق واشتياق
ترى الأمر المغيب ذا عيان
…
وتحظى بالوصول وبالتلاقي
يامن غرق في بحر الذات وتيار الصفات، ذلك الكتاب الذي تسمعه من أنوار ملوكتنا وأسرار جبروتنا، لا ريب فيه أنه من عندنا، فلا تسمعه من غيرنا {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} (1) فهو هاد لشهود ذاتنا، ومرشد للوصول إلى حضرتنا لمن اتقى شهود غيرنا، وغرق في بحر وحدتنا. (2)
ويقول:
وقيل لأبي الحسن النوري: ماهذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة؟ فقال: عز ظاهر، وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به، وصادرة عنه، لا هي متصلة به، ولا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها.
كيف تنكرون ظهور نور الحق في الأكوان وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان، وقد كنتم أمواتا بالغفلة وغم الحجاب، فأحياكم باليقظة والإياب، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ماسواه، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره بالله، ثم إليه ترجعون في كل شيء، لشهود نوره في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان.
(1) القيامة: 18.
(2)
ص: 20، 21، 22، 23.
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى يا عبدي إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها فإن أدعيتها لنفسك سلبتك الولاية ولم أسلبك صفاتي، يا عبدي أنت صفتي وأنا صفتك فارجع إلي أرجع إليك، ياعبدي فيك للعلوم باب مفتاحه أنا، وفيك للجهل باب مفتاحه أنت فاقصد أي البابين شئت
…
الخ.
ويقول: اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي، هي قطعة من الروح الأعظم، التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر، والأب الأقدم، وفي ذلك يقول ابن الفارض:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة
…
فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
ويقول:
وقال بعض العارفين: الحق تعالى منزه عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ولا كم ولا كيف ولا جسم ولا جوهر ولا عرض لأنه للطفة سار في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف غير متقيد بذلك فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده فهو أعمى البصيرة، محروم من مشاهدة الحق تعالى
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الأذواق من أهل المعاني تذوق أسرارهم وتفهم إشاراتهم وإلا فحسبك أن تعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه وتمسك بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (1) وسلم للرجال في كل حال.
وأقول: الأولى أن يقول: وسلم للمحال بكل حال، ومن هم هؤلاء الرجال؟ وما الضابط الذي يضبط لنا من نسلم له ممن لا نسلم له؟ أهو السير عريانا في الشوارع أمثال سيدهم إبراهيم العريان؟ (2) أم إتيان الحمارة على قارعة الطريق بمرأى الناس أمثال سيدهم علي وحيش؟ (3)
ويقول:
اعلم أن الأماكن والجهات وكل ماظهر من الكائنات قائمة بأنوار الصفات ممحوة بأحدية الذات كان الله محق الآثار بإجلاء الأنوار وامتحت الأنوار بأحدية الأسرار وانفرد بالوجود الواحد القهار ولله در القائل:
(1) الشورى: 11.
(2)
انظر ترجمته وماجاء فيها في الطبقات الكبرى ص: 595.
(3)
انظر ترجمته وماجاء فيها في الطبقات الكبرى ص: 606 - 607.
مذ عرفت الإله لم أر غيرا
…
وكذا الغير عندنا ممنوع
فمن كحل عين بصيرته بإثمد الخاص لم يقع بصره إلا على الحق ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله ومن فتح الله سمع قلبه، لم يسمع إلا من الحق ولا يسمع إلا به كما قال القائل:
أنا بالله أنطق
…
ومن الله أسمع
وقال الجنيد رضي الله عنه: لي أربعين سنة أناجي الحق، والناس يرون أني أناجي الخلق فالخلق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مثبتون عند أهل الجهل والتفريق يقولون:{لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} (1) مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة.
وينقل عن ابن عربي قوله:
من رأي الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن رآهم لا صورة لهم فقد جاز ومن رآهم بين العدم فقد وصل (2) وانظر أيضا (3) وقال: قال بعض العارفين: لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده. (4)
ويقول في مقامات التوحيد التي ذكرها تحت قوله تعالى {وإلهكم إله واحد} (5):
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على قدرته درجات، الأولى توحيد العامة وهو الذي يعصم النفس والمال وينجو به من الخلود في النار وهو نفي الشركاء والأنداد والصاحبة والأولاد والأشباه والأضداد، الثانية توحيد الخاصة وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال فإن ذلك حاصل لكل مؤمن وإنما مقام الخاصة يقين في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده فلا يرجو إلا الله ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلا الله فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب الدرجة الثالثة ألا يرى في الوجود إلا الله ولا يشهد معه سواه، فيغيب عن النظر إلى الأكوان في شهود المكون وهذا هو مقام الفناء فإن رد إلى شهود الأثر بالله سمى مقام البقاء. (6)
(1) البقرة: 118.
(2)
ص: 100.
(3)
ص: 101.
(4)
ص: 156.
(5)
البقرة: 163.
(6)
ص: 131.