الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا ندت الأخبار عن تلك الأصول وشذت يعدونها مناهضة لما هو أقوى ثبوتا منها وهو الأصل المؤصل من تتبع موارد الشرع الجاري مجرى خبر الكافة والطحاوي كثير المراعاة لهذه القاعدة في كتبه ويظن من لا خبرة عنده أن ذلك ترجيح منه لبعض الروايات على بعضها بالقياس وآفة هذا الشذوذ المعنوي في الغالب كثرة اجتراء الرواة على الرواية بالمعنى بحيث تخل بالمعنى الأصلي وهذه قاعدة دقيقة يتعرف بها البارعون في الفقه مواطن الضعف والنتوء في كثير من الروايات فيرجعون الحق إلى نصابه بعد مضاعفة النظر في ذلك ولهم أيضًا مدارك أخرى في علل الحديث دقيقة لا ينتبه إليها دهماء النقلة وللعمل المتوارث عندهم شأن يختبر به صحة كثير من الأخبار. (1)
وفي مقدمة شرح مسند أبي حنيفة: ذكر من أصوله قبول مرسلات الثقات إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها. (2)
وقال ابن اللحام: واعتبر الشافعي في المتن أن يسند الحفاظ المأمونون عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه آخر معنى ذلك المرسل أو يرسله غيره وشيوخهما مختلفة أو يعضده قول صحابي أو قول عامة العلماء، وكلام أحمد في المرسل قريب من كلام الشافعي. (3)
وقال ابن تيمية: وما كان من المراسيل مخالفًا لما رواه الثقات كان مردودًا. (4)
وإذا كان الأمر كذلك فحري أن نذكر النصوص الشرعية من القرآن والسنة التي تخالف هذا المرسل وهو الوجه الثالث.
الوجه الثالث: الأدلة من القرآن على بطلان هذه القصة
.
أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46].
وثانيها: قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15].
(1) نصب الراية (1/ 22).
(2)
شرح مسند أبي حنيفة (1/ 3).
(3)
المختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 96)
(4)
منهاج السنة (7/ 435) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر (2/ 564)
وثالثها: قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم.
ورابعها: قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)} [الإسراء: 73] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وقال عياض رحمه الله: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} الآيتين، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفترى وثبته حتى لم يركن إليهم قليلًا فكيف كثيرا وهم يرون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه قال صلى الله عليه وسلم:"افتريت على الله وقلت ما لم يقل" وهذا ضد مفهوم الآية وهى تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} ، وقد روى عن ابن عباس كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون قال الله تعالى {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} ولم يذهب وأكاد أخفيها ولم يفعل، قال القشيري القاضي: ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن وقد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله ترد سفسافها فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار وراموا من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم وهو مفهوم الآية، وأما المأخذ الثاني فهو مبنى على تسليم الحديث لو صح وقد أعاذنا الله من صحته.
وخامسها: قوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل لأنه نفى المقاربة للركون فضلا عن الركون.
وسادسها: قوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
وسابعها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} .
وثامنها: ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلى ثم أبطل ذلك بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم بأنها أسماء بلا مسميات وهذا هو الأخير وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق.
وتاسعها: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99، 100] وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وقوله تعالى {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} [سبأ: 21] الآية وقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] الآية. وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ذلك الكفر البواح، فأي سلطان له أكبر من ذلك.
وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور. منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد.
العاشرة: قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221، 222].