الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ ابْن عَبْد الْبَر: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيث جَمَاعَة كَثِيرَة مِنْ الصَّحَابَة، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَمْثَالهمْ مِنْ التَّابِعِينَ، ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْجَمّ الْغَفِير إِلَى أَنْ اِنْتَهَى إِلَيْنَا. (1)
قَال القاضي عياض: بعد ما ذكر أن كثيرًا من الآيات المأثورة عنه - معلومة بالقطع - ما نصه: أما انشقاق القمر؛ فالقرآن نص بوقوعه، وأخبر بوجوده، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك في قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سخفه. (2)
الوجه الرابع: الإجماع على وقوع هذه المعجزة
.
وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ، منهم: عبد الله بن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعلى هذا جميع المفسرين، إلّا أن قومًا شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع. (3)
وقال ابن حجر: أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه. (4)
الوجه الخامس: ذكر المعجزة في القرآن دليل على ثبوتها
.
فلو أن القرآن سجل شيئًا لم يقع، أي: لو أن القمر لم ينشق لكانت الفرصة لكفار قريش ليقولوا: محمد يزعم أن القمر قد انشق وأننا رأيناه، وأننا قد قلنا هذا سحر وما وقع من ذلك شيء، أما المسلمون فكان منهم من سيرتد عن الإسلام إذ كيف يكذب عليهم ويقول وقع انشقاق ولم يقع؟ .
ولكن ما الذي حدث؟ الذي حدث أن ثبت المسلمون على إسلامهم واستمروا على إيمانهم وازدادوا إيمانًا، وتحول الكفار من الكفر إلى الإسلام وأصبحوا بعد ذلك من جيش الإسلام.
أما عن قولهم أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي: سينشق يوم القيامة:
(1) نقلًا عن فتح الباري (7/ 186).
(2)
الشفا للقاضي عياض (255).
(3)
زاد المسير لابن الجوزى (8/ 88).
(4)
فتح الباري (7/ 185).
قال ابن كثير: وقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر (1).
وهذا أمر متفق عليه بين العلماء - أي انشقاق القمر - قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات (2).
قال ابن الجوزي: وعلى هذا جميع المفسرين - أي انشقاق القمر -، إلّا أن قومًا شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله:{وَانْشَقَّ} لفظ ماض، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجودًا. وفي قوله:{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} دليل على أنه قد كان ذلك. (3)
قال الشوكاني: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي: وقد انشقّ القمر، وكذا قرأ حذيفة بزيادة {قد} ، والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوّة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. قال الواحدى: وجماعة المفسرين على هذا إلّا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال: المعنى: سينشقّ القمر، والعلماء كلهم على خلافه. قال: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر؛ لأن انشقاقه من علامات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوّته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة. . . . ثم قال - أي الشوكاني - قال الزجاج: زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله (أن القمر ينشق يوم القيامة)، والأمر بين في الغلط وإجماع أهل العلم على قوله:{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} يدل على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة، ولم يأت من خالف الجمهور وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلا بمجرد استبعاد فقال: لأنه لو انشق في زمن النبوة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية والناس في الآيات سواء.
(1) أخرجه البخاري (4825).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 333).
(3)
زاد المسير لابن الجوزى (8/ 88).
ويجاب عنه: بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلًا ولا شرعًا ولا عادة، ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ويضرب به في وجه قائله.
والحاصل: أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق ولم يخبرنا بأنه سينشق وإن نظرنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ واستبعاد من استبعد. (1)
أما عن ادعائهم التعارض في روايتي ابن مسعود رضي الله عنه بقوله انشق القمر ونحن بمنى والأخرى قال فيها بمكة، أو مع غيرها من الروايات الأخرى وباقى الصحابة لم يعاصروا هذه المعجزة! أما عن الأولى فأجاب ابن حجر عن ذلك قائلًا: والجمع بين قول ابن مسعود (تارة بمنى وتارة بمكة) إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال: كان بمكة لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها:(ونحن بمنى)، والرواية التي فيها بمكة لم يقل فيها (ونحن)، وإنما قال:(انشق القمر بمكة) يعني أن الإنشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا تندفع دعوى الداوودي أن بين الخبرين تضادا، والله أعلم.
وقال: وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى.
ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما)، لا تعارض بينهما البتة، وكذا رواية (انشق القمر فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه) فإنها قريبة من معناهما.
فلم يبق إلا ما ظاهره التعارض بين هاتين الروايتين (رأيت القمر منشقًا شقتين؛ شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء)، ورواية (فانشق القمر نصفين؛ نصفًا على الصفا، ونصفًا على المروة، وهذا ليس فيه إشكال؛ فإن نظر الإنسان يختلف بحسب الزاوية التي
(1) فتح القدير للشوكاني (5/ 169 - 170).
ينظر منها، فمرة يرى القمر فوق أبي قبيس، ثم إذا تحرك رآه على الصفا وهكذا، أو هو بحسب اختلاف جهة الناظرين، فبعضهم يراه من زاوية والآخرين من زواية أخرى.
وقال ابن حجر: (رَأَيْت الْقَمَر مُنْشَقًّا شقَّتَيْنِ): شقَّة عَلَى أَبِي قُبَيْس، وَشُقَّة عَلَى السُّوَيْدَاء - وَالسُّوَيْدَاء بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّصْغِير نَاحِيَة خَارِجَة مَكَّة عِنْدهَا جَبَل -، وَقَوْل اِبْن مَسْعُود: عَلَى أَبِي قُبَيْس. يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَآهُ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمِنًى، كَأَنْ يَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِع بِحَيْثُ رَأَى طَرَف جَبَل أَبِي قُبَيْس، ويَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَمَر اِسْتَمَرَّ مُنْشَقًّا حَتَّى رَجَعَ اِبْن مَسْعُود مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّة، فَرَآهُ كَذَلِكَ وَفِيهِ بُعْد، وَالَّذِي يَقْتَضِيه غَالِب الرِّوَايَات أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ قُرْب غُرُوبه، وَيُؤَيِّد ذَلِكَ إِسْنَادهمْ الرُّؤْيَة إِلَى جِهَة الْجَبَل، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الِانْشِقَاق وَقَعَ أَوَّل طُلُوعه؛ فَإِنَّ فِي بَعْض الرِّوَايَات أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَة الْبَدْر، أَوْ التَّعْبِير بِأَبِي قُبَيْس مِنْ تَغْيِير بَعْض الرُّوَاة؛ لِأَنَّ الْغَرَض ثُبُوت رُؤْيَته مُنْشَقًّا، إِحْدَى الشِّقَتَيْنِ عَلَى جَبَل، وَالْأُخْرَى عَلَى جَبَل آخَر، وَلَا يُغَايِر ذَلِكَ قَوْل الرَّاوِي الْآخَر: رَأَيْت الْجَبَل بَيْنهمَا. أَيْ بَيْن الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَتْ فِرْقَة عَنْ يَمِين الْجَبَل، وَفِرْقَة عَنْ يَسَاره مِثْلًا صَدَقَ أَنَّهُ بَيْنهمَا، وَأَيّ جَبَل آخَر كَانَ مِنْ جِهَة يَمِينه أَوْ يَسَاره صَدَقَ أَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا. (1)
ولو سلمنا التعارض التام بين هاتين اللفظتين من كل جهة، فهذا لا يضر في أصل الحديث، وأقصى ما فيه أن ابن مسعود رضي الله عنه، أو أحد الرواة عنه كان يهم في اسم الجبلين، فتارة يقول:(شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء)، وتارة (فانشق القمر نصفين، نصفًا على الصفا، ونصفًا المروة)، وأما أصل الحديث وهو الشاهد منه، أن القمر انشق فليس فيها أي اضطراب أو نسيان أو وهم. (2)
أما عن قولهم إن باقي الصحابة لم يعاصروا وقوع هذه المعجزة وهذه من المراسيل.
قال ابن الصلاح: ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله - ولم
(1) فتح الباري لابن حجر (7/ 184، 185).
(2)
الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري لعبد المحسن المطيري (19).
يسمعوه منه -؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند. (1)
قال ابن كثير: وقد حكى بعضهم الإجماع على قبول مراسيل الصحابة. (2)
ثم لو سلمنا بعدم قبول رواية مرسل الصحابي، فقد رواه ابن مسعود مشاهدة، وهو ليس بمرسل في حقه، وكذلك رواه ورآه علي بن أبي طالب، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر. (3)
أما عن قولهم إن حدوث هذه المعجزة يتعارض مع آية:
والجواب على ذلك بما يلى:
1 -
لقد طلبت قريش من النبي محمد صلى الله عليه وسلم آية بعينها فلم تنزل حتى لا يقع العذاب عليهم:
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} في الكلام حذف والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنًا، وقد تقدم في الأنعام وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبًا وتتنحى الجبالى عنهم فنزل جبريل وقال: إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا إن شئت استأنيت بهم فقال: "لا بل استأن بهم"، وأن الأولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، وأن الثانية في محل رفع، والباء في بالآيات زائدة ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعًا عن شيء فالمعنى: المبالغة في أنه لا يفعل؛ فكأنه قد منع عنه ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها. (4)
2 -
أنزل الله الآيات كانشقاق القمر، وطلبوا آيات أخرى فلما لم يؤمنوا منع الله إرسال الآيات.
(1) علوم الحديث للحافظ أبي عمرو بن الصلاح (75).
(2)
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (1/ 6).
(3)
فتح الباري (7/ 182).
(4)
تفسير القرطبي (10/ 244).
لما أنزل الله الآيات كانشقاق القمر، اجتمع إليه المشركون بعد مدة فسألوه أن يأتي إليهم بالله والملائكة قبيلًا، وسألوه أن يرد لهم أجدادهم الماضين، ويكون فيهم قصي بن كلاب ليسألوه أحق ما أتي به أم لا؟ .
وطلبوا منه أن يزحزح عنهم جبال مكة، ويفجر لهم في بطحائها أنهارًا، وسألوه أن يسقط عليهم من السماء كسفًا، وأن يكون له بيت من زخرف ويرقي في السماء، ويأتيهم بكتاب مع الملائكة يشهدون، وهذا كله منصوص في السورة السابعة عشر من القرآن فقال:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]؛ وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} يعني هذه الآيات التي طلبوها منه، ثم قال:{إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] يشير إلي تكذيبهم بانشقاق القمر قبل ذلك. وتكذيب الأنبياء من قبله. (1)
وأما انشقاق القمر فإنه آية لم يطلبها المشركون بعينها؛ وإنما طلبوا آية دون تحديد فانشق القمر، كما في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: سأل أهل مكة أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر.
وبهذا يتبين أنه لا تعارض يبن انشقاق القمر ومضمون الآية الكريمة ولله الحمد والمنة.
أما عن قولهم لو وقع ذلك لرآها كثير من الناس وما أهمله أهل التاريخ وتواتر عندهم:
والرد على هذا من وجوه:
الوجه الأول: يكفينا ثبوتها في القرآن وتواترها في سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد سبق بيان ذلك في أول البحث.
الوجه الثاني: قال الحافظ ابن حجر إنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَيْلًا وَأَكْثَر النَّاس نِيَام وَالْأَبْوَاب مُغَلَّقَة، وَقَلَّ مَنْ يُرَاصِد السَّمَاء إِلَّا النَّادِر، وَقَدْ يَقَع بِالْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَادَة أَنْ يَنْكَسِف الْقَمَر، وَتَبْدُو الْكَوَاكِب الْعِظَام وَغَيْر ذَلِكَ فِي اللَّيْل وَلَا يُشَاهِدهَا إِلَّا الْآحَاد، فَكَذَلِكَ الِانْشِقَاق كَانَ آيَة وَقَعَتْ فِي اللَّيْل لِقَوْم سَأَلُوا وَاقْتَرَحُوا فَلَمْ يَتَأَهَّب غَيْرهمْ لَهَا، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَمَر لَيْلَتئِذٍ كَانَ فِي بَعْض الْمَنَازِل الَّتِي تَظْهَر لِبَعْضِ أَهْل الْآفَاق دُون بَعْض كَمَا يَظْهَر
(1) بين الإسلام والمسيحية لأبي عبيدة الخزرجي (200).
الْكُسُوف لِقَوْمٍ دُون قَوْم. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اِنْشِقَاق الْقَمَر آيَة عَظِيمَة لَا يَكَاد يَعْدِلهَا شَيْء مِنْ آيَات الْأَنْبِيَاء، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي مَلَكُوت السَّمَاء خَارِجًا مِنْ جُمْلَة طِبَاع مَا فِي هَذَا الْعَالَم الْمُرَكَّب مِنْ الطَّبَائِع، فَلَيْسَ مِمَّا يُطْمَع فِي الْوُصُول إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْبُرْهَان بِهِ أَظْهَر، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضهمْ فَقَالَ: لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُز أَنْ يَخْفَى أَمْره عَلَى عَوَامّ النَّاس لِأَنَّهُ أَمْر صَدَرَ عَنْ حِسّ وَمُشَاهَدَة فَالنَّاس فِيهِ شُرَكَاء وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَة عَلَى رُؤْيَة كُلّ غَرِيب وَنَقْل مَا لَمْ يُعْهَد، فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْل لَخُلِّدَ فِي كُتُب أَهْل التَّسْيِير وَالتَّنْجِيم، إِذْ لَا يَجُوز إِطْبَاقهمْ عَلَى تَرْكه وَإِغْفَاله مَعَ جَلَالَة شَأْنه وَوُضُوح أَمْره. وَالْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة خَرَجَتْ عَنْ بَقِيَّة الْأُمور الَّتِي ذَكَرُوهَا لِأَنَّهُ شَيْء طَلَبه خَاصة مِنْ النَّاس فَوَقَعَ لَيْلًا لِأَنَّ الْقَمَر لَا سُلْطَان لَهُ بِالنَّهَارِ وَمِنْ شَأْن اللَّيْل أَنْ يَكُون أَكْثَر النَّاس فِيهِ نِيَامًا وَمُسْتَكِنِّينَ بِالْأَبْنِيَةِ، وَالْبَارِز بِالصَّحْرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ يَقْظَان يَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت مَشْغُولًا بِمَا يُلْهِيه مِنْ سَمَر وَغَيْره، وَمنْ الْمُسْتَبْعَد أَنْ يَقْصِدُوا إِلَى مَرَاصِد مَرْكَز الْقَمَر نَاظِرِينَ إِلَيْهِ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، فَقَدْ يَجُوز أَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَكْثَر النَّاس، وَإِنَّمَا رَآهُ مَنْ تَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِ مِمَّنْ اِقْتَرَحَ وُقُوعه، وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْر اللَّحْظَة الَّتِي هِيَ مَدَرك الْبَصَر. (1)
الوجه الثالث: جائز أن يستره الله عنهم بغيم أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور لضرب من التدبير ولئلا يدعيه بعض المتنبئين في الآفاق لنفسه فأظهره للحاضرين عند دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم واحتجاجه عليهم (2).
الوجه الرابع: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَد مِنْهُمْ أَنَّهُ نَفَاهُ، وَهَذَا كَافٍ، فَإِنَّ الْحُجَّة فِيمَنْ أَثْبَتَ لَا فِيمَنْ يُوجَد عَنْهُ صَرِيح النَّفْي، حَتَّى إِنَّ مَنْ وُجِدَ عَنْهُ صَرِيح النَّفْي يُقَدَّم عَلَيْهِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ صَرِيح الْإِثْبَات.
الوجه الخامس: إِنَّ زَمَن الِانْشِقَاق لَمْ يَطُلْ وَلَمْ تَتَوَفَّر الدَّوَاعِي عَلَى الِاعْتِنَاء بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ أَهْل مَكَّة إِلَى آفَاق مَكَّة يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَتْ السِّفَار وَأَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي اللَّيْل غَالِبًا يَكُونُونَ سَائِرِينَ فِي ضَوْء الْقَمَر وَلَا
(1) فتح الباري (7/ 185)، وانظر إظهار الحق (2/ 187).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 298)
يَخْفَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. (1)
الوجه السادس: أنها لم تكن متوقع الحصول لأهل العلم لينظروها في وقتها ويروها كما أنهم يرون هلال رمضان والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالبًا لأجل كونها متوقع الحصول، ولا يكون نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضًا فضلًا عن الليل. فلذلك رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الكفار لما رأوها قالوا: سحركم ابن أبي كبشة فقال أبو جهل: هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا رأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل آفاق مكة أنهم رأوه منشقًا، وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالبًا ويقيمون بالنهار فقالوا: هذا سحر مستمر. وفي المقالة الحادية عشر من تاريخ "فرشته" أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوه أيضًا، وأسلم والي تلك الديار التي كانت من مجوس الهند بعد ما تحقق له هذا الأمر.
وقد نقل الحافظ المزى عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناءً قديمًا مكتوبًا عليه: (بني ليلة انشق القمر). (2)
الوجه السابع: أنه قد يحول في بعض الأمكنة وفي بعض الأوقات بين الرائي والقمر، سحاب غليظ أو جبل، ويوجد التفاوت الفاحش في بعض الأوقات في الديار التي ينزل فيها المطر كثيرًا، بأنه يكون في بعض الأمكنة سحاب غليظ ونزول المطر بحيث لا يرى الناظر في النهار الشمس ولا هذا اللون الأزرق إلى ساعات متعددة، وكذا لا يرى في الليل القمر والكواكب ولا اللون المذكور. وفي بعض أمكنة أخرى لا أثر للسحاب ولا للمطر وتكون المسافة بين تلك الأمكنة والأمكنة الأولى قليلة، وأهل البلاد الشمالية كالروم والفرنج في موسم نزول الثلج والمطر لا يرون الشمس إلى أيام، فضلًا عن القمر. (3)
(1) نقله ابن حجر عن ابن عبد البر، انظر فتح الباري (7/ 186)، وإظهار الحق (2/ 288).
(2)
فتح الباري (7/ 186)، وإظهار الحق (2/ 188).
(3)
الفتح (7/ 186)، وإظهار الحق (2/ 188).