الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجهه، فتاب عليه وقبل منه، ويزعمون أنه قال: أي رب هذا غفرت ما جنيت في شأن المرأة، فكيف بدم القتيل المظلوم؟ قيل: يا داود - فيما زعم أهل الكتاب - إن ربك لم يظلمه بدمه ولكنه سيسأله فيعطيه فيضعه عنك فلما فرج عن داود ما كان فيه رسم خطيئته في كفه اليمنى بطن راحته فما رفع إلى فيه طعاما ولا شرابا قط إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيبًا في الناس قط إلا نشر راحته فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته في يده". (1)
الوجه الثاني: تفسير الآيات
.
قال كثير من المفسرين إن الخصم كانوا ملكين وفزع منهم لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل عليه، وقيل لأنهما دخلا ليلًا في غير وقت نظره بين الناس (2).
وحديث أنس هذا أخرجه الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ دَاوُدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَظَرَ إلَى المَرْأَةِ فَأَهَمَّ قَطَعَ عَلَى بَنى إسْرَائِيلَ، فَأَوْصَى صَاحِبَ البَعْثِ، فَقَالَ: إذَا حَضَرَ العَدُوُّ، فَقَرَّبَ فُلانًا بَيْنَ
(1) ضعيف جدًّا. أخرجه ابن جرير في تفسيره 23/ 150، 151.
حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق به. الراوي عن وهب بن منبه مجهول، ومحمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن وابن حميد ضعيف.
وقال شيخ الإسلام: "وَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ "كُتُبَ التَّفْسِيرِ" فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ التَّفْسِيرِ مَنْقُولَاتٌ عَنْ السَّلَفِ مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلٌ عَلَى وَرَسُولِهِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ". مجموع الفتاوي 2/ 52. وانظر: بحث (الإسرائيليات في التفسير) لمعرفة مدى الحكم على هذه الروايات.
(2)
تفسير الطبري (23/ 141).
يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ، وَمَنْ قُدّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أوْ يُهْزَمَ عَنْهُ الجَيْشُ، فَقُتِلَ زُوْجُ المَرْأَةِ، وَنزلَ المَلَكَانِ عَلى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجدًّا حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ. . ." (1).
وهذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى؛ لأن الأنبياء منزَّهون، وهم لا يأتون المعاصي مع العلم (2).
وقال في البحر المحيط: وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ضربنا عن ذكرها صفحًا (3).
وقال البقاعي: تلك القصة وأمثالها من كذب اليهود، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام؛ لأن عيسى عليه السلام من ذريته ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه (4).
وقال ابن عاشور: واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميمًا للتنويه به لدفع مَا قد يُتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب "صمويل الثاني" من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص: 25](5).
وقال السعدي: وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها (6).
(1) تفسير الطبري (23/ 150)، وقد سبق الحكم عليه
(2)
زاد المسير (7/ 115)، راجع بحث عصمة الأنبياء.
(3)
البحر المحيط (7/ 375).
(4)
تفسير البقاعي (6/ 376).
(5)
تفسير ابن عاشور (23/ 237).
(6)
تفسير السعدي (712).
وقال الشنقيطي: واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة مما لا يليق بمنصب داود - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه (1).
قال الرازي: وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها: ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه. وثانيها: دلالتها على الصغيرة. وثالثها: بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.
فأما القول الأول: فحاصل كلامهم فيها أن داود عشق امرأة أوريا، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته، وعرضا تلك الواقعة عليه، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبًا، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة (2).
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه:
الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورًا لاستنكف منها، والرجل الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه، وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه؟
الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته؛ أما الأول: فأمر منكر، قال صلى الله عليه وسلم:"من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله"(3).
أما الثاني: فمنكر عظيم قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"(4)، وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
(1) أضواء البيان (7/ 24).
(2)
وقد نسب مثل هذا الكلام الكتابُ القدسُ لنبي الله داود كما ستعرف في الوجه الأخير.
(3)
ضعيف. أخرجه ابن ماجه (2620)، الضعفاء للعقيلي (4/ 1490)، البيهقي في الكبرى (8/ 22)، وضعّف الحديث: أبو حاتم وأحمد وابن حبان، وغيرهم، انظر الضعيفة للألباني (503).
(4)
أخرجه البخاري (10، 11)، مسلم (40، 41، 42).
والثالث: أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضًا بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفًا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.
فنقول أما الصفات الأولى: فهي أنه تعالى أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدًا أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله.
وأما الصفة الثانية: فهي أن وصفه بكونه عبدًا له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملًا في موقف العبودية تامًا في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات، ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة، فحينئذٍ ما كان داود كاملًا في عبوديته لله تعالى بل كان كاملًا في طاعة الهوى والشهوة.
الصفة الثانية: هو قوله: {ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17] أي: ذا القوة، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات، والاجتناب عن المحظورات، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟
الصفة الرابعة: كونه أوابًا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفًا بالقتل والفجور؟
الصفة الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} [ص: 18] أَفَتُرَى أنه سُخرت لي الجبال ليتخذها وسيلة إلى القتل والفجور؟ !
الصفة السادسة: قوله: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 19]، وقيل إنه كان مُحرمًا عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمنًا منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه؟
الصفة السابعة: قوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا، بل المراد أنه تعالى شد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟ .
الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علمًا وعملًا، فكيف يجوز أن يقول الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته عن تلك الأكاذيب.
وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشر:
الأولى: قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة الله، أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} لائقًا به.
الثانية: قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه: أحدها: أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه: أيها العبد إني فوضت إليك خلافتي ونيابتي، وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر.
الثالثة: وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضًا دالة على ذلك، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال: فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة في أرضه وصوب أحكامه، وكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب.
والرابعة: وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في
النار، وحصل للذبيح من الذبح، وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب، فأوحى الله إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء، فأوحى الله إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة.
فنقول: أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى بيتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها آخرها.
الخامسة: أن داود عليه السلام قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} استثنى الذين آمنوا عن البغي، فلو قلنا إنه كان موصوفًا بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.
السادسة: حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك، وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له: لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، ولقد قال الله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه، وأيضًا فبتقدير أنه ما كان نبيًا فلا شك أنه كان مسلمًا، ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول: إن من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئًا من الثواب؛ لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب، وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا شأنها وصفتها، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت، ولم يذكر شيئًا.
السابعة: أن ذكر هذه القصة وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة الفاحشة فوجب أن يكون محرمًا لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19].
الثامنة: لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
أما الاحتمال الثاني - على تقدير حدوثه -: وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبيرة، فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه: الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألبتة، أما وقوع بصره عليها من غير قصد فذلك ليس بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضًا ذنبًا لأن هذا الميل ليس في وسعه، فلا يكون مكلفًا به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذيًا عظيمًا بسبب قتله لأجل أنه طمع أن يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضًا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة، أو أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى، فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان، فقيل له: هذا وإن كان جائزًا في ظاهر الشريعة، إلا أنه لا يليق بك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
فأما جعله نائبًا وخليفة لنفسه فذلك البتة مما لا يليق، وثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة؛ ومعلوم أن هذا فاسد، أما لو ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذٍ يناسب أن يذكر عقيبه {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] فثبت أن هذا الذي نختاره أولى.