الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - شبهة: كيف يضع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مع الله عز وجل
-.
نص الشبهة:
ذكروا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]، وقالوا: كيف يضع نفسه مع الله؟ ! وقالوا: إن المسيح كان يعفو عن المسيئين له ولم يلعنهم.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: التفسير الصحيح للآية، ومعنى الأذى
.
الوجه الثاني: ذكر بعض الأمثلة من أذى المشركين للنبي وذكر عقوبتهم.
الوجه الثالث: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأعدائه وبأمته، ورحمته في دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يتحمل الأذى إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله عز وجل.
الوجه الرابع: المسيح والمهتدون في الكتاب المقدس.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: التفسير الصحيح للآية، ومعنى الأذى.
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57].
أولًا: قال قتادة: يا سبحان الله، ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم، وأما أذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو طعنهم عليه، وقوله:{لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي: أبعدهم الله من رحمته في الدنيا، وأعد لهم في الآخرة عذابًا يهينهم فيه بالخلود فيه (1).
وقال قتادة قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58]، فإياكم وأذى المؤمنين فإن الله عز وجل يحوطه ويغضب له {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} زورًا وكذبًا وفرية شنيعة (2).
(1) تفسير الطبري (22/ 45).
(2)
تفسير الطبري (22/ 45).
ومما روي في أذية الله عز وجل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره"(1).
قَوْله: (وَأنا الدَّهْر)
قَالَ الْخَطابِيُّ: مَعْنَاهُ: أَنا صَاحِب الدَّهْر، وَمُدَبِّر الْأُمُور الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إِلَى الدَّهْر، فَمَنْ سَبَّ الدَّهْر مِنْ أَجْل أَنَّهُ فَاعِل هَذِهِ الْأُمُور عَادَ سَبّه إِلَى رَبّه الَّذِي هُوَ فَاعِلهَا، وإِنَّمَا الدَّهْر زَمَان جُعِلَ ظَرْفًا لِمَوَاقِع الْأُمُور. وَكَانَتْ عَادَتهمْ إِذَا أَصَابَهُمْ مَكْرُوه أَضَافُوهُ إِلَى الدَّهْر فَقَالُوا: بُؤْسًا لِلدَّهْرِ، وَتَبًّا لِلدَّهْرِ (2).
وقال ابن كثير: ومعنى هذا: أن الجاهلية كانوا يقولون: يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا. فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله عز وجل فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي، وأبو عبيد، وغيرهما من العلماء، رحمهم الله.
والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله (3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة"(4).
وقال ابن حجر: وَقَوْله: "وَمَنْ ذَهَبَ" أَيْ: قَصَدَ، وَقَوْله:"يَخْلُق كَخَلْقِي" نَسَبَ الْخَلْق إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيل الِاسْتِهْزَاء أَوْ التَّشْبِيه فِي الصُّورَة فَقَطْ، وَقَوْله:"فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة أَوْ شَعِيرَة" أَمْر بِمَعْنَى: التَّعْجِيز؛ وَهُوَ عَلَى سَبِيل التَّرَقِّي فِي الْحَقَارَة أَوْ التَّنَزُّل فِي الْإِلْزَام، وَالْمُرَاد بِالذَّرَّةِ إِنْ كَانَ النَّمْلَة فَهُوَ مِنْ تَعْذِيبهمْ وَتَعْجِيزهمْ بِخَلْقِ الْحَيَوَان تَارَة، وَبِخَلْقِ الْجَمَاد أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى: الْهَبَاء فَهُوَ بِخَلْقِ مَا لَيْسَ لَهُ جِرْم مَحْسُوس تَارَة، وَبِمَا لَهُ جِرْم أُخْرَى (5).
ثانيًا: وقال بعضهم: {يُؤْذُونَ اللَّهَ} أي: يؤذون أولياء الله كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ
(1) أخرجه البخاري (4826)، ومسلم (2246).
(2)
فتح الباري (8/ 674)، وانظر النووي (8/ 6).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 700).
(4)
أخرجه البخاري (7559)، ومسلم (2111).
(5)
فتح الباري (13/ 606).
الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب". (1)
قال البغوي: ومعنى الأذى: هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد. و (إيذاء الرسول) قال ابن عباس: هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته، وقيل: شاعر، ساحر، معلَّم، مجنون.
ومعنى اللعنة: الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك في الدنيا والآخرة لتشملهم فيهما بحيث لا يبقى وقت من الأوقات مماتهم ومحياهم إلا واللعنة واقعة عليهم ومصاحبة لهم، {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مع ذلك اللعن {عَذَابًا مُهِينًا} يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة لما يفيده معنى: الإعداد من كونه في الدار الآخرة (2).
وقال الرازي: وقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} إشارة إلى بعدٍ لا رجاءَ للقربِ معه؛ لأن المبعد في الدنيا يرجو القربة في الآخرة، فإذا أبعد في الآخرة فقد خاب وخسر؛ لأن الله إذا أبعده وطرده فمن الذي يقربه يوم القيامة، ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد؛ بل أوعده بالعذاب بقوله:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} فاللعن جزاء الله؛ لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه، والتعذيب جزاء إيذاء الرسول؛ لأن الملك إذا آذى بعض عبيده كبير يستوفي منه قصاصه، لا يقال: فعلى هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب؛ لأنا نقول: انفكاك أحدهما على هذا الوجه عن الآخر محال؛ لأن من آذى الله فقد آذى الرسول. وأما على الوجه الآخر وهو أن من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك، كمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر، فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم غير أن الله تعالى صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه بكونه يبعده عن الباب (3).
(1) أخرجه البخاري (6502).
(2)
تفسير البغوي (3/ 543).
(3)
تفسير الرازي (25/ 228).
لما كان الله تعالى مصليًا على نبيه لم ينفك إيذاء الله عن إيذائه، فإن من آذى الله فقد آذى الرسول، فبين الله للمؤمنين أنكم إن أتيتم بما أمرتكم وصليتم على النبي كما صليت عليه لا ينفك إيذاؤكم عن إيذاء الرسول، فيأثم من يؤذيكم لكون إيذائكم إيذاء الرسول، كما أن إيذائي إيذاؤه، وبالجملة لما حصلت الصلاة من الله والملائكة والرسول والمؤمنين صار لا يكاد ينفك إيذاء أحد منهم عن إيذاء الآخر؛ كما يكون حال الأصدقاء الصادقين في الصداقة (1).
وقال أحمد بن يوسف: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] أي: يقولون فيه ما صورته أذى، وإن كان سبحانه وتعالى لا يلحقه ضرر ذلك حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله: من اتخاذ الأنداد، ونسبة الولد، والزوجة إليه، وأن يكون على حذف مضاف أي: أولياء الله، وقيل: أتى بالحالة تعظيمًا، والمراد: يؤذون رسولي (2).
والله عز وجل أثبت الأذية في القرآن، ونفى الضر عن نفسه سبحانه. نفى الله عز وجل عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176]، وفي الحديث القدسي:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني"(3)(4).
وهذا ممكن، ألا ترى الرجل يتأذى برائحة البصل ونحوه، ولا يتضرر بها (5).
ومعنى: {أذى الله} أن الله سبحانه وتعالى يبغض ذلك ويكرهه؛ لأنه تنقص لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يتأذى ببعض أفعال عباده وأقوالهم التي فيها إساءة في حقه، ولكنه لا يتضرر بذلك، ولأن الله لا يضره شيء.
وكذلك من الأحاديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله"(6).
(1) تفسير الرازي (25/ 229).
(2)
الدر المصون في علم الكتاب المكنون لأحمد يوسف المعروف بـ (السمين الحلبي)(الآية).
(3)
أخرجه مسلم (2577).
(4)
القول المفيد.
(5)
انظر شرح الواسطية لابن عثيمين.
(6)
أخرجه البخاري (2510)، ومسلم (1801).