الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهرت حكمته العقول الذي لا يشاركه مشارك في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجه، فمن ظن أن يكتال حكمته بمكيال عقله أو يجعل عقله عيارًا عليها فما أدركه أقر به وما لم يدركه نفاه فهو من أجهل الجاهلين ولله في كل ما خفي على الناس وجه الحكمة فيه حكم عديدة لا تدفع ولا تنكر. (1)
فعلّة الأسباب الإيمانية ليست في أن نفهمها أو نعرف الحكمة منها، ولكن علة الأشياء في أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بها.
فالواجب على المسلم أن يمتثل ما أمر الله ورسوله مما شرعه في أعمال الحج وأن لا يدع ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم لعدم علمه بالحكمة في ذلك لأن ترك العمل بذلك - إلا بعد العلم بالحكمة فيه - من شأن أهل البدع المارقين المتعنتين بالأسئلة والتشكيكات والمعارضة الباطلة لما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما نبه على ذلك أهل العلم.
الوجه الرابع: توضيح حقيقة العبادة وماهيتها
.
إذا كان هؤلاء يعدّون تقبيل الحجر الأسود والسجود تجاه الكعبة والطواف والسعي بين الصفا والمروة عبادة لهم من دون الله، فلا بد إذًا أن نبدأ ببيان حقيقة العبادة وماهيّتها.
إن من يعبد شيئًا مهما كانت طبيعته فإنه يعتقد أن له سلطة غيبية ينعكس تأثيرها على الواقع، وبالتالي فإن العابد يتقرّب إلى معبوده رجاءً للنفع أو دفعًا للضرّ، وهو في الوقت ذاته يعتقد أن التقصير في حق هذا المعبود أو ترك عبادته يترتّب عليه حصول الضرر ووقوعه كنوع من العقاب، ومثل هذا مُشاهدٌ حتى في واقع الناس اليوم من أتباع الديانات الوثنية المنتشرة في أرجاء الأرض، إذ يلاحظ في أتباع تلك الديانات خضوعًا لمعبوداتهم رغبةً في جلب المنافع المختلفة، أو دفع المضارّ من القحط والجفاف ونحوه، مع تعلّق قلوبهم بهذا المعبود خشية منه ورهبة من سلطانه.
وهذه السلطة الغيبية قد تكون في نظرهم سلطة ذاتية، بمعنى أن العابد يرى استقلال معبوده بالنفع والضرّ، وهذا كالذين يعبدون الشمس والكواكب لاعتقادهم بتأثيرها على نواميس الكون وتسييرها للخلائق، أو أن تكون السلطة غير ذاتية بأن يعتقد أن معبوده
(1) مفتاح دار السعادة 1/ 272.
يشكّل واسطة بينه وبين قوّة علوية لها قدرة ذاتية مستقلة في النفع والضرّ، فيؤدي ذلك إلى عبادته رجاء شفاعته عند من يقدر على النفع والضرّ، كما هو الحال مع كفار قريش الذين كانوا يعتقدون أن الأصنام والأوثان التي يعبدونها تقربهم إلى الله جلّ وعلا، وتشفع لهم عنده، يقول الله عز وجل مبينا ذلك:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18].
وبناءً على ما سبق، فإن المسلمين لم يعبدوا الحجر الأسود ولا غيره، لأنهم لا يرون أن أحدًا يملك الضرّ والنفع غير الله تعالى، فهم ينفون وجود أية سلطة ذاتية في المخلوقات مهما كانت، كما أنهم يرون أن علاقة المخلوق بالخالق علاقة مباشرة ليس فيها وسيط، وأن العباد لا يحتاجون إلى شفيعٌ يقصدونه بالتقرّب دون الله عز وجل، بل إنهم يعدّون ذلك من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، لأنهم يرون أن العبادات لا يجوز صرفها لأي مخلوق، سواء أكان ملكًا مقرّبًا أم نبيًّا مرسلًا، فضلًا عن كونه حجرًا لا يضرّ ولا ينفع.
ويقرّر ذلك الصحابيّ الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقولته الشهيرة: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"(1)، فقد أراد أن يبيّن للناس أن هذا الفعل هو محض إتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأن الحجر ينفع أو يضرّ، وعليه فإنه لا قدسية لأحجار الكعبة بذاتها، وإنما اكتسب الحجر الأسود هذه المزية لأمر الله تعالى بتقبيله، ولو لم يرد ذلك الأمر لم يكن لأحد أن يقوم بتقديسه أو تقبيله.
ثم إن رحى العبادة تدور على قضيّتين أساسيّتين: تمام المحبة مع غاية الذلّ والخضوع، فمن أحبّ شيئًا ولم يخضع له فليس بعابد له، ومن خضع لشيء دون أن يحبّه فهو كذلك ليس بعابد له، ومعلوم أن تقبيل الحجر الأسود هو فعلٌ مجردٌ من الخضوع والذلّ لذلك الحجر.
ومن المناسب أن نقول: إن من يعبد شيئًا فلا شكّ أنه يرى في معبوده أنه أعلى منه وأفضل
(1) البخاري (1597)، مسلم (1270).