الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعاشرها: أن هناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون سبب نزول الآية شيئًا كهذا، وأن يكون مدلوله حادثًا مفردًا وقع للرسول صلى الله عليه وسلم فالنص يقرر أن هذه القاعدة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ، فلا بد أن يكون المقصود أمرًا عامًا يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعًا، بوصفهم من البشر، مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل. (1)
الوجه السادس: في ذكر بعض كلام المحققين على هذه القصة:
1 -
قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم. (2)
2 -
قال الآلوسي: وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة.
قال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
وقال القاضي عياض في الشفاء: يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون. والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله: تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية.
وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور.
1 -
منها تسلط الشيطان عليه صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
(1) الظلال 5/ 206.
(2)
تفسير ابن كثير سورة الحج آية: 52.
سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 99] إلى غير ذلك.
2 -
ومنها زيادته صلى الله عليه وسلم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم لمكان العصمة.
3 -
ومنها اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الإلتئام متناقضًا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلى الله عليه وسلم.
4 -
ومنها أنه إما أن يكون صلى الله عليه وسلم عند نطقه بذلك متعقدًا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون معتقدًا معنى آخر مخالفًا لما اعتقدوه ومباينًا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرًا لهم على الباطل وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقر على ذلك.
5 -
ومنها كونه صلى الله عليه وسلم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه صلى الله عليه وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضًا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسًا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة.
وقال ابن العربي: تصور الشيطان في صورة الملك ملبسًا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسًا على الخلق وتسليط الله تعالى له على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك.
6 -
ومنها التقول على الله تعالى إما عمدًا أو خطأ أو سهوًا. وكل ذلك محال في حقه صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الأخبار بخلاف الواقع لا قصدًا، ولا سهوًا.
7 -
ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] لأنه أيضًا يحتمل إلى غير ذلك. وذهب إلى صحتها الحافظ ابن حجر.
وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (بكلام أذكره لبيان ضعفه وتهافته بعد ذكره إن شاء الله تعالى.
1 -
أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم تمنى هدى الكل ولم يكن ذلك مرادًا لله تعالى والأكمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه صلى الله عليه وسلم الإلقاء حالة تمني هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل، وقد حصل ذلك بهذه المرة، ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه!
وأما عن الثاني: فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد صلى الله عليه وسلم فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه، وما هنا ليس كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبًا أن يعود لمثل تلك الحالة.
وأما عن الثالث: فبأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول، وحينئذٍ لا يكون بعيد الالتئام، ولا متناقضًا، ولا ممتزج المدح بالذم، ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم أنه صلى الله عليه وسلم مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه:{لِيَجْعَلَ} [الحج: 53] الخ.
وأما عن الرابع: فبأنا نختار الشق الثاني بناءً على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول، وعلى التقديرين يكون صلى الله عليه وسلم معتقدًا لمعنى مخالف لما اعتقدوه؛ ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] فإن ما لم ينزل الله تعالى به
سلطانًا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
وأما عن الخامس: فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة.
وأما قول القاضي عياض: لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه صلى الله عليه وسلم فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسًا قادحًا فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقًا ولو كان غير مخل فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية. وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقًا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسًا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسًا على النبي بما لا يكون منافيًا للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبًا ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة.
وأما عن السادس: فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا من يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادًا ناشئًا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلًا؛ وما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه صلى الله عليه وسلم في الإلقاء في حالة التمني تأديبًا كإيقاع السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعًا، والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناءً على اعتقاد أن الملقى ملك تلبيسًا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقدًا أنه مطابق للواقع بناءً على اعتقاد التمام سهوًا، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والإحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه صلى الله عليه وسلم قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوًا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناءً على اعتقاد
أن الملقى ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ ابن حجر متعقب.
وأما عن السابع: فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظًا ومعنى إذ قبل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} [الحج: 52] الخ لأنه أيضًا يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ} [الحج: 54] على انتفاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والإحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل.
1 -
الرد على الجواب الأول
1 -
إن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة، ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه صلى الله عليه وسلم بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فكيف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال:"والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى" إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلى الله عليه وسلم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام.
2 -
وأيضًا قال المحققون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى:{أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولًا ثم يذكرها شيئًا فشيئًا.
3 -
وأيضًا حفظه صلى الله عليه وسلم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193، 194] وقلنا: إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلى الله عليه وسلم من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام.
4 -
والقول بأنه لبس الحال عليه صلى الله عليه وسلم للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلى الله عليه وسلم في إرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] ولا شك أن التأديب به لم يبق، ولم يذر، ولم يقرن بما فيه تسلية أصلًا فإذا قيل، والعياذ بالله تعالى: إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضًا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعًا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
5 -
ويرد على قوله: إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن الضحاك
بن مزاحم في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن كان في ذلك للاستمرار.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي، فقد أخرج ابن جرير. وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودًا مع عدم ترتب أثره عليه؛ والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناءً على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلًا فإن المراد من قوله: فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقى في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدًا.
ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر:
2 -
وقد يقال: إن إعجاز القرآن معلوم له صلى الله عليه وسلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري، بل قال القاضي: إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على ذلك البليغ عدم
إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلًا، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد إن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى الوارد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب.
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي: هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى وترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما بحرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزًا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذا سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له أن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترتجى أيضًا لا سيما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34].
3 -
والقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب.
ثالثًا: وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء عارفون بالغث والسمين من الإخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودًا وما ألقى الشيطان إلى
أوليائه معدودًا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري أن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعًا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]، والمراد بالباطل ما كان باطلًا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلى الله عليه وسلم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد {لَا يَأْتِيهِ} استمرار النفي لا نفي الاستمرار.
وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] فجيء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه.
وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زمانًا يسيرًا لا يخلو عن نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يتقضيه ذلك الاعتناء، ثم إن قيل: بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنًا في اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين زمانًا طويلًا والقول بذلك من الشناعة بمكان، وقال عز وجل:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4] والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بالدين، ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: كان جبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.
والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به صلى الله عليه وسلم من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضًا،
وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول قلة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضًا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلى الله عليه وسلم حين سجد آخر النجم، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخًا من قريش أخذ كفًا من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا.
وروى البخاري أيضًا والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس إلى غير ذلك، وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} [النجم: 50 - 54] إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} [النجم: 19، 20] بناءً على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)} [النجم: 21] وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثًا والحب للشيء يعمي وبصم، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق
العلا وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين.
رابعًا: واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرًا بعد سماع قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم: 23] فكان ينبغي التنبيه بعد السجود، ولعلهم أرجعوا ضمير {هِيَ} للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع.
واعترض على قوله في الجواب الخامس: إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه صلى الله عليه وسلم مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه صلى الله عليه وسلم في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد.
وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام، الأول: ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلى الله عليه وسلم بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة والمراد بها كما قال ابن مالك: العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل.
والثاني: ما وضح له صلى الله عليه وسلم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها. . ."(1)، وهذا يسمى خاطر الملك.
والثالث: ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وكل ذلك حجة مطلقًا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره.
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20100)، وصححه الألباني في الصحيحة (2866).
وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال، وهو ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلى الله عليه وسلم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده صلى الله عليه وسلم قرآنًا ووحيًا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك علمًا ضروريًا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلًا، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة.
ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء مشروط بالتمني أو في وقته بناءً على الخلاف في أن {إِذَا} للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت.
ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلى الله عليه وسلم في كل وحي متوقفًا غير جازم بأن وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له صلى الله عليه وسلم عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه.
واعترض على قوله في الجواب أيضًا: إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق الخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول: خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر قوله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني حقًا فإن الشيطان لا يتمثل بي" والظاهر أنه لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم أصلًا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم من ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل منامًا فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولى، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل.
والنبي صلى الله عليه وسلم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد صلى الله عليه وسلم فلذلك عصمت صورته صلى الله عليه وسلم عن أن يظهر بها شيطان، ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلى الله عليه وسلم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان
بالنبي يقظة أو منامًا لأحد من أمته مخلصًا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر.
وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيًا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاد ما ليس قرآنًا للتلبيس الناشيء عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع غير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه.
وأورد على قوله في الجواب السابع: إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذي آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلًا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئًا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع. وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتفاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضًا ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب.
ولا يجدي نفعًا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتبين كونه ليس داخلًا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلى الله عليه وسلم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق.
وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلى الله عليه وسلم نطق بما نطق عمدًا معتقدًا للتلبيس أنه وحي حاملًا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته
الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها.
وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادًا أنه صلى الله عليه وسلم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصًا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنًا منزلًا في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد صلى الله عليه وسلم مدح آلهتهم بها نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعنى قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا} [الحج: 52] الخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه، وقيل: هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم. (1)
3 -
قال الشوكاني رحمه الله بعد ذكر القصة مجملة: ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه. وقال أيضًا: والحاصل: أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها. (2)
4 -
وقال ابن الجوزي: قال العلماء المحققون: وهذا لا يصح، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عز وجل:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]. (3)
5 -
وقال الرازي: هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. (4)
(1) روح المعاني مع تصرف يسير سورة الحج آية 52.
(2)
فتح القدير سورة الحج آية 52.
(3)
زاد المسير سورة الحج آية 52.
(4)
مفاتيح الغيب للرازي سورة الحج آية 52.
6 -
وقال البيضاوي: وهو مردود عند المحققين، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإِيمان عن المتزلزل فيه. (1)
7 -
وقال ابن عاشور: وهي قصة يجدها السامع ضِغثًا على إبَالة، ولا يلقي إليها النِّحرير بالَه. وما رُويت إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سندٌ مطعون على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد (2) تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم للإلتباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيبًا لها قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وفي معرفة الملكَ. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مُسكة من عقل أن يجْتمع في كلام واحد تسفيهِ المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] إلى قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها "الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى". وهل هذا إلا كلام يلعنُ بعضُه بعضًا. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتِها {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. (3)
فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعُزّى فُرصة للدخَل لاختلاق كلمات في مدحهنّ، وهي هذه الكلمات وروّجُوها بين الناس تأنيسًا لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان وفي "شرح الطيبي على الكشاف" نقلًا عن بعض المؤرّخين: أن كلمات "الغرانيق. . ." (أي
(1) تفسير البيضاوي سورة الحج آية 52.
(2)
قدمنا أن خبر الآحاد مقبول إن ثبت فيه شروط الصحة، وراجع شبهة (حديث الآحاد).
(3)
التحرير والتنوير سورة الحج آية 52.
هذه الجمل) من مفتريات ابن الزِّبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قصةُ آلهة العرب، أي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)} [النجم: 19] الخ؛ فجعَل يتلو: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (أي الآية المشتملة على هذا) فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقَى الشيطان تلك الغرانيق العُلَى مِنها الشفاعة ترتجَى" فإن قوله: "دنوا يستمعون فألقى الشيطان" الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوتُ المُحاكَى.
وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي لست فيه أنّ المشركين سَجدوا في آخر سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فذلك من تخليط المؤلفين.
وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.
وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رَجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة. (1)
9 -
وقال ابن حزم: (والحديث الذي فيه: وأنهن الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترجى. فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد). (2)
10 -
قال الشريف الجرجاني: ولقد أخطأ المفسرون في إيداعها في تفاسيرهم إلا من عصمه الله تعالى. (3)
(1) التحرير والتنوير سورة الحج آية 52.
(2)
نقلًا من الإسلام بين الإنصاف والجحود.
(3)
المختصر في أصول الحديث، باب تحمل الحديث.
11 -
قال القاضي عياض: يكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته فقائل يقول إنه في الصلاة، وآخر يقول قالها في نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول بل حدث نفسه فيها، وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسانه وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال والله ما هكذا نزلت، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال فيما أحسب الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة وذكر القصة.
قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه، وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار رحمه الله والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، هذا توهينه من طريق النقل.
فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدًا - وذلك كفر- أو سهوا وهو معصوم من هذا كله وقد قررنا بالبراهين والإجماع
عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدًا ولا سهوًا أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل أو أن يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44]، وقال تعالى {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75].
12 -
قال ابن العربي: اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه؛ أن الهدى هدى الله، فسبحان من يتفضل به على من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وقد بينا معنى الآية في فصل تنبيه الغبي على مقدار النبي بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى، في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء، إلى بقاع العلماء في عشر مقامات:
المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به، حتى يتحقق أنه رسول من عنده، ولولا ذلك ما صحت الرسالة، ولا تبينت النبوة، فإذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره، وثبت اليقين، واستقام سبيل الدين، ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري أملك هو أم إنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاما، وبلغت إليه قولا لم يصح له أن يقول: إنه من عند الله، ولا ثبت عندنا أنه أمر الله، فهذه سبيل متيقنة، وحالة متحققة، لا بد منها، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها، أو يتشبه بها ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلًا من حقيقة؛ فارتفع بهذا الفصل اللبس، وصح اليقين في النفس.
المقام الثاني: أن الله قد عصم رسوله من الكفر، وأمَّنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه، وإطباقهم عليه؛ فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله، أو يشك فيه طرفة عين، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه؛ بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال، فضلًا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد؛ بل هو المنزه عن ذلك فعلًا واعتقادًا.
المقام الثالث: أن الله قد عرف رسوله بنفسه، وبصره بأدلته، وأراه ملكوت سمواته وأرضه، وعرفه سنن من كان قبله من إخوته، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، ونحن حثالة أمته؛ ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشي مكبا على وجهه، غير عارف بنبيه ولا بربه.
المقام الرابع: تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام، ممن صرح بعداوته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل عليه من الله وحي، فكيف يجوز لمن معه أدنى مُسكة أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه، وأراد ألا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده وقلبه، وأنس وحشته، وغاية أمنيته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس؛ فإذا جاءه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة فيؤثر على هذا مجالسة الأعداء.
المقام الخامس: أن قول الشيطان تلك الغرانقة العلا، وإن شفاعتها ترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم قبله منه؛ فالتبس عليه الشيطان بالملك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرق بينهما.
وأنا من أدنى المؤمنين منزلة، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له، وآتاني من علمه، لا يخفى علي وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله.
ولو قاله أحد لكم لتبادر الكل إليه قبل التفكير بالإنكار والردع، والتثريب والتشنيع، فضلا عن أن يجهل النبي صلى الله عليه وسلم حال القول، ويخفى عليه قوله، ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها الغرانقة العلا، وأن شفاعتها ترتجى.
وقد علم علمًا ضروريًا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنطق ولا تضر، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع، بهذا كان يأتيه جبريل الصباح والمساء، وعليه انبنى التوحيد، ولا يجوز نسخه من جهة المعقول ولا من جهة المنقول، فكيف يخفى هذا على الرسول؟ ثم لم يكف هذا حتى قالوا: إن جبريل عليه السلام لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقى إليه الوحي كررها عليه جاهلًا بها تعالى الله عن ذلك فحينئذ أنكرها عليه جبريل، وقال له: ما جئتك بهذه.
فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وأنزل عليه:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)} ، فيا لله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد وسوس هامد، لا يعلم أن هذه الآية نافية لما زعموا، مبطلة لما رووا وتقولوا.
وهو المقام السادس: وذلك أن كاد يكون كذا: معناه قارب ولم يكن؛ فأخبر الله في هذه.
وهو المقام السابع: ولم يفتر، ولو فتنوك وافتريت لاتخذوك خليلا، فلم تفتتن ولا افتريت، ولا عدوك خليلًا. ولولا أن ثبتناك.
وهو المقام الثامن: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} ؛ فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبته، وقرر التوحيد والمعرفة في قلبه، وضرب عليه سرادق العصمة، وآواه في كنف الحرمة. ولو وكله إلى نفسه، ورفع عنه ظل عصمته لحظة لألممت بما راموه، ولكنا أمرنا عليك بالمحافظة، وأشرقنا بنور الهداية فؤادك، فاستبصر وأزح عنك الباطل، وادحر.
فهذه الآية نص في عصمته من كل ما نسب إليه، فكيف يتأولها أحد؟ عدوا عما نسب من الباطل إليه.
المقام التاسع: قوله: فما زال مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52].
فأما غمه وحزنه فبأن تمكن الشيطان مما تمكن، مما يأتي بيانه؛ وكان صلى الله عليه وسلم يعز عليه أن ينال الشيطان منه شيئًا وإن قل تأثيره.
المقام العاشر: أن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا، وذلك أنه قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، كما يفعل سائر المعاصي، كما تقول: ألقيت في الدار كذا، وألقيت في الكيس كذا.
فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي قاله؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنًا مقطعًا، وسكت في مقاطع الآي سكوتًا محصلًا، وكذلك كان
حديثه مترسلا متأنيا، فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله:{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} وبين قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)} ، فقال يحاكي صوت النبي صلى الله عليه وسلم: وإنهن الغرانقة العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.
فأما المشركون، والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة فتلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوها بجهلهم إليه، حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حق من عند الله فيؤمنون به، ويرفضون غيره، وتجيب قلوبهم إلى الحق، وتنفر عن الباطل؛ وكل ذلك ابتلاء من الله ومحنة. فأين هذا من قولهم وليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان عن الشك والكفران.
وقد أوعدنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم، وحروفه أمامكم، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها، ولا تربطوا فيها ما ليس منها، وما هدي لهذا إلا الطبري بجلالة قدره، وصفاء فكره، وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده وذراعه في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى فقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطلة، لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته. (1)
12 -
قال الألباني رحمه الله بعد ذكر روايات القصة وردها: بيان بطلان القصة متنًا: تلك هي روايات القصة وهي كلها كما رأيت معلة بالإرسال والضعف والجهالة فليس فيها ما يصلح للاحتجاج به لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير. ثم إن مما يؤكد ضعفها بل بطلانها ما فيها من الاختلاف والنكارة مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وإليك البيان:
أولًا: في الروايات كلها أو جلها أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين" تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثانيًا: وفي بعضها: "والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ وهم" ففي هذا أن المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم ولم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان
(1) أحكام القرآن لابن العربي سورة الحج الآية الرابعة عشرة.