الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه السابع: ولكن أهل العلم أجابوا عنها على فرض صحتها وقد أعاذنا الله من صحتها وهذه أجوبتهم عنها على فرض الصحة
الأول: أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام، إنما هي من اختلاقات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذُكرت فيها اللات والعُزّى ومناةَ فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خَصُّوا سورة النجم بهذه المرجَفة لأنهم حَضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلبًا لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة صلى الله عليه وسلم. (1)
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم سكت عند قوله {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلًا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع كلامه، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدًا قد قتل، وقال يوم بدر:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48]. (2)
وقال عياض: والذي يظهر ويترجح في تأويله عند المحققين على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآى تفصيلا في قراءته كما رواه الثقات عنه فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان، وعيبها عرف منه وقد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا، وقال إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين، وقلوبهم، ويكون ما روى من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة، والشبهة، وسبب هذه الفتنة وقد قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية فمعنى تمنى:
(1) التحرير والتنوير (2797).
(2)
تفسير النسفي 3/ 109.
تلا، قال الله تعالى:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} أي تلاوة وقوله ({فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يذهبه ويزيل اللبس به ويحكم آياته. (1)
الثالث: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله تقريرًا وتوبيخًا للكفار كقول إبراهيم عليه السلام هذا ربى على أحد التأويلات وكقوله بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين ثم رجع إلى تلاوته وهذا يمكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد وأنه ليس من المتلو. (2)
الرابع: أن يكون المراد بالغرانقة العلى الملائكة
قال القاضي عياض: وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله كما حكى الله عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)} فأنكر الله كل هذا من قولهم ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم وليس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم، وألقاه إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين، وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس كما نسخ كثير من القرآن، ورفعت تلاوته، وكان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة وفى نسخة حكمة ليضل به من يشاء، ويهدى من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين، و {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3)
الخامس: وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ ذكرت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ويشنعوا عليه على عادتهم وقولهم {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه وأشاعوا ذلك وأذاعوه وأن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) الشفاء (2/ 130).
(2)
نفس المصدر.
(3)
الشفاء (2/ 131).
قاله فحزن لذلك من كذبهم، وافترائهم عليه فسلاه الله تعالى بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} الآية، وبين للناس الحق من ذلك من الباطل، وحفظ القرآن، وأحكم آياته ودفع ما لبس به العدو كما ضمنه تعالى من قوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . (1)
السادس: أن الذي قال ذلك رجل منهم قلد صوته صلى الله عليه وسلم عند التلاوة فظنوها من كلامه صلى الله عليه وسلم
وكان ذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه إن محمدا قد مدح آلهتنا وظنوا أن ذلك كان في تلاوته فأبطل الله ذلك من قولهم وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتله وإنما تلاه بعض المشركين وسمى الذي القى ذلك في حال تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم شيطانا لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى شياطين الإنس والجن والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس. (2)
السابع: أن يكون صدور مثل هذا وإتباعه بنسخه مع بيان الكل من النبي صلى الله عليه وسلم دليل على صدقه وأمانته لأنه لم يكتم مثل هذا.
قال ابن تيمية رحمه الله: ومن جوز ذلك قال إذا حصل البيان ونسخ ما ألقى الشيطان لم يكن في ذلك محذور وكان ذلك دليلًا على صدقه وأمانته وديانته وأنه غير متبع هواه ولا مصر على غير الحق كفعل طالب الرياسة المصر على خطئه وإذا كان نسخ ما جزم بأن الله أنزله لا محذور فيه فنسخ مثل هذا أولى أن لا يكون فيه محذور (3)، وعلى هذا فالعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع. (4)
ومما تقدم يتبين أن روايات قصة الغرانيق ليست صحيحة وأنه ليس للشيطان سلطان أن يلقي على لسان النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الباطل فيتلوه أو يتكلم به، وربما ألقى الشيطان قولا أثناء تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم به الشيطان ويسمعه الحاضرون، أو يوسوس الشيطان وساوس
(1) الشفاء (2/ 132).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (5/ 84).
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 36).
(4)
منهاج السنة (2/ 410)، ومجموع الفتاوى (15/ 191).
يلقيها في نفوس الكفار ومرضى القلوب من المنافقين فيحسبها أولئك من الوحي وليست منه فيبطل الله ذلك القول الشيطاني ويزيل الشبه ويحكم آياته.
فإن قيل إذا كان الأمر على ما وصفت فما هو معنى الآية؟ وما هو سبب النزول؟
فالجواب من كلام العلماء ما يلي:
1 -
قال الشوكاني: وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى {تَمَنَّى} : قرأ وتلا، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين. وكذا قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى {تَمَنَّى} : تلا، وقرأ كتاب الله، ومعنى {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي في تلاوته وقراءته. قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. وقيل: معنى {تَمَنَّى} : حدّث، ومعنى {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} في حديثه، روي هذا عن ابن عباس، وقيل: معنى {تَمَنَّى} : قال فحاصل معنى الآية: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا جرى على لسانه، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين، والأنبياء، وعلى تقدير أن معنى {تَمَنَّى}: حدّث نفسه كما حكاه الفرّاء والكسائي فإنهما قالا: تمنى إذا حدّث نفسه، فالمعنى: أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه. قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة. (1)
2 -
وأوضح من هذا ما قاله الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: والتمنّي: كلمة مشهورة، وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصولُه. والأمنية: الشيء المتمنّى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين، والاستثناءُ من عمومِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال
(1) فتح القدير 3/ 660.
إلّا في حالِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحدًا منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان، ومكره.
والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة، وتسويل الفساد تشبيهًا للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس، ومنه قوله تعالى:{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 87) وقوله: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} [النحل: 86] وكقوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} [طه: 96] على ما حققناه فيما مضى.
ومفعول {أَلْقَى} محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال، والفساد. فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب، والعصيان، ويلقي في قلوب أئمة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. فالله بهديهِ، وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بيانًا، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها، وتثبيت مدلولها، وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه، وقد فسر كثيرٌ من المفسرين {تَمَنَّى} بمعنى قَرَأ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتًا نسبوه إلى حسّان
بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأيّا ما كان فالقول فيه هو، والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير:
تمنى كتاب الله أولَ ليله
…
تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
وجه آخر في معنى الآية: ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحًا إلى قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35].
و{ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} للترتيب الرتبي، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخًا. وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معترضة.
ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم
قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم:{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان: 42] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله:{لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة. فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان، ويُحكم آثارَ آياته. (1)
وهناك وجه ثالث أورده صاحب الظلال فقال: إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه. . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة. والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق. . يودون مثلًا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات، وتقاليد، وموروثات، فيسكتوا عنها مؤقتًا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذ دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ، ويودون مثلًا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة! ، ويودون. من مثل هذه الأماني، والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها. . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب
(1) التحرير والتنوير سورة الحج آية (52).
الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر، وتقديرهم هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لا عوج فيها، ولا انحناء.
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بيانًا في القرآن.
بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب والله عليم حكيم. اهـ (1)
* * * *
(1) الظلال 5/ 207.