الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الشبهة بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]، أي: ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة، وأخبار الأولين بل هو أمر سماوي أنزله الذي يعلم كل شيء، لا يغيب عنه شيء من الأشياء، فلهذا عجزتم عن معارضته، ولم تأتوا بسورة منه، وخص السر للإشارة إلى إنطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر. (1)
الوجه الرابع: بيان كذبهم على الإمام الرازي، وأن هذا ليس من الأمانة في نقل الأخبار
.
ولا عجب من ذلك فهذا صنيعهم إذا كانوا حرفوا كتاب الله، فمن باب أولى أن يحرفوا كلام البشر، ولو قرؤوا كلام الرازي بتدبر لفهموا كلامه، إذ إن الإمام الرازي بين أولًا أنها جوابًا على الشبهة، ثم ذكر بعض مباحث عن الجواب ورد عليها أيضًا.
وهذا هو كلامه كاملًا: فقال:
(الشبهة الثانية لهم) قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5] وفيه أبحاث:
البحث الأول: الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار، جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة:{اكْتَتَبَهَا} انتسخها محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يعني عامرًا ويسارًا وجبرًا، ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب.
أما قوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ، قال الضحاك: ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة.
البحث الثاني: قال الحسن قوله: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} كلام الله ذكره جوابًا عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالًا بعد حال، فكيف
(1) فتح القدير (4/ 89)، والجامع لأحكام القرآن (13/ 8)، وأضواء البيان (9/ 283، 284).
ينسب إلى أنه أساطير الأولين.
وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم، وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه:
أحدها: شدة تعلق هذا الكلام بما قبله، فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه.
وثانيها: أن هذا هو المراد بقولهم: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} .
وثالثها: أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} .
قال الزمخشري (1): وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على: {الْأَوَّلِينَ} ، وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6] وفيه أبحاث:
البحث الأول: في بيان أن هذا كيف يصلح أن كون جوابًا عن تلك الشبهة؟ ، وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها، ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد، لكان من الواجب عليهم أيضًا أن يستعينوا بأحد، فيأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه، فلهذا قال:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ، وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالمًا بكل المعلومات ظاهرها وخافيها وليس ذلك إلا الله.
وبيانه من وجوه:
أحدها: أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
ثانيها: أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب، وذلك لا يأتي إلا من العالم بكل المعلومات.
ثالثها: أن القرآن مبرأ عن النقص، وذلك لا يأتي إلا من العالم على ما قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].
(1) الكشاف للزمخشري (3/ 264).
رابعها: اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد، وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات.
خامسها: اشتماله على أنواع العلوم، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام العالم بكل المعلومات لا جرم أكتفي في جواب شبهتهم بقوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} (1).
قلت: وهذا هو الكلام الصحيح الذي لا غبار عليه. فتراه أقر بأن الآية جوابًا في أولها وفي منتصفها وفي خاتمتها، ورد على كل الشبهات المتعلقة، فرحمه الله.
وكان محل كلامنا في عرضه للشبهة الثانية لهم، والرد عليها.
* * * *
(1) التفسير الكبير للرازي (24/ 51، 52).