الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْن الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تَلَا قَوْلَ الله عز وجل في إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآيَةَ.
وَقَالَ عِيسَى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللهمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى وَبَكَى. فَقَالَ الله عز وجل: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ - فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَسَأَلَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ - وَهُوَ أَعْلَمُ -. فَقَالَ الله: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ"(1).
وقال النووي: وفيه كَمَال شَفَقَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّته وَاعْتِنَائِهِ بِمَصَالحِهِمْ، وَاهْتِمَامه بِأَمْرِهِمْ، عِظَم مَنْزِلَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عِنْد الله عز وجل (2).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: "أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: "أَرْجُو أَنْ تكُونوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: "مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ"(3).
3 - رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته:
قال السعدي: أي: برحمة الله لك ولأصحابك مَنَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترفقت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أي: سيئ الخلق {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: قاسيه
(1) أخرجه مسلم (202).
(2)
شرح النووي (2/ 80).
(3)
أخرجه البخاري (3348)، مسلم (221).
{لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ (1).
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيًا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء أو سجلًا من ماء فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"(2).
فانظر إلى رحمته صلى الله عليه وسلم بهذا الأعرابي حتى علمه وبين له خطأ ما فعل، بعدما انتهى من بوله، وبين له المساجد لا تصلح لهذا.
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السلمي رضي الله عنه قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله، فرماني الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هُوَ وأمي؛ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؟ فَوَالله، مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضربني، وَلَا شتمني؛ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شيء مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" (3) أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم".
قال النووي: فِيهِ: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عَظِيم الْخُلُق الَّذِي شَهِدَ الله تَعَالَى لَهُ بِهِ، وَرِفْقه بِالْجَاهِلِ، وَرَأْفَته بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ (4).
وعن معاذ بن جبل وأبي بردة رضي الله عنهم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا"(5).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما؛ ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء
(1) تفسير السعدي (154).
(2)
أخرجه البخاري (6128).
(3)
أخرجه مسلم (537).
(4)
شرح النووي (3/ 27).
(5)
أخرجه البخاري (6124)، ومسلم (1733).
قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله" (1).
قال ابن حجر: قَوْله: (بَيْن أَمْرَيْنِ) أَيْ: مِنْ أُمُور الدُّنْيَا، يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله:(مَا لَمْ يَكُنْ إِثمًا)؛ لِأَنَّ أُمُور الدِّين لَا إِثْم فِيهَا، وَقَوْله:(مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا) أَيْ: مَا لَمْ يَكُنْ الْأَسْهَل مُقْتَضِيًا لِلْإِثْمِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْتَار الْأَشَدّ، وقَوْله:(وَمَا اِنْتَقَمَ لِنَفْسِهِ) أَيْ: خَاصَّة، فَلَا يَرِد أَمْره بِقَتْلِ عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط وَعَبْد الله بْن خَطَل وَغَيْرهمَا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيه؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مع ذلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَات الله، وَقِيلَ: أَرَادَتْ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِم إِذَا أُوذِيَ فِي غَيْر السَّبَب الَّذِي يُخْرِج إِلَى الْكُفْر، كَمَا عَفَا عَنْ الْأَعْرَابِيّ الَّذِي جَفَا فِي رَفْع صَوْته عَلَيْهِ، وَعَنْ الْآخَر الَّذِي جَبَذَ بِرِدَائِهِ حَتَّى أثَّرَ فِي كَتِفه (2).
وعَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَال الله الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"(3).
وقال النووي: فِيهِ اِحْتِمَال الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاض عَنْ مُقَابَلَتهمْ، وَدَفعْ السَّيِّئَة بِالْحَسَنَةِ، وَإِعْطَاء مَنْ يُتَأَلَّف قَلْبُهُ، وَالْعَفْو عَنْ مُرْتَكِب كَبِيرَة لَا حَدّ فِيهَا بِجَهْلِهِ، وَإِبَاحَة الضَّحِك عِنْد الْأُمُور الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا فِي الْعَادَة، وَفِيهِ كَمَالُ خُلُق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَحِلْمه وَصَفْحه الْجَمِيل (4).
فبذلك نكون قد بينا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، وبينا أذية المشركين له صلى الله عليه وسلم، وذكرنا عقوبات من آذاه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله عز وجل فينتقم لله.
وأما قولهم: إن المسيح عليه السلام حصل معه إهانات، وإساءات كان يقابلها بالعفو والغفران فنحن قد بينا حلم النبي صلى الله عليه وسلم، وعفوه لمن آذاه؛ طالما أن هذا الأذى بعيد عن حرمات الله عز وجل.
ولم يخلق من لدن آدم إلى قيام الساعة مَنْ هو أرحم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحلم منه صلوات ربي وسلامه عليه.
(1) أخرجه البخاري (6126)، ومسلم (2327).
(2)
فتح الباري (6/ 665/ 666).
(3)
أخرجه البخاري (6088)، ومسلم (1057).
(4)
شرح النووي (4/ 159).