الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني: ذكر بعض الأمثلة من أذية المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عقوبتهم
.
تقولون: كيف يضع النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مع الله في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. . .} ؟ .
1 -
هذا القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، والذي وضع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المنزلة إنما هو الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
2 -
ثم إن الأنبياء عليهم السلام هم حاملوا رسالة ربهم رسالة التوحيد، فالله عز وجل هو الذي استأمنهم على ذلك، وكيف بعد ذلك لا يدافع عنهم؟ ! وكيف لا تكون أذيتهم من أذية الله عز وجل، أليسوا يبلغون دعوته؟ !
3 -
ثم إن الله عز وجل أخبرنا أنه يدافع عن كل من يدعو إليه، وكل من سار على نهج أنبيائه والمؤمنين، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38]، ثم إن الله تبارك وتعالى بعد ذكره عقوبة من آذاه وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم ثنى بذكر عقوبة من آذى المؤمنين فقال:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58].
ومن قبل هذا قال الله سبحانه وتعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63].
4 -
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأفضل الأنبياء، فكيف لا تكون أذيته من أذية الله عز وجل (1)؟
فالاجتراء على نبي من أنبياء الله عز وجل اجتراء على الله، وإيذاء النبي هو إيذاء لله عز وجل، يُنزل الله به غضبه ولعناته، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ
(1) انظر بحث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} .
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)} [محمد: 32]، وقال عز وجل:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر: 94]، وقال عز وجل:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]. ثم إن هذه الآية تخص الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر به أو بسبه أو بضربه من المشركين، والكافرين، ومع ذلك فإن من فعل ذلك ثم آمن وتاب وعمل صالحًا فإن الله عز وجل يعفو عنه ويسامحه النبي صلى الله عليه وسلم، كما سنبين إن شاء الله.
ومن أمثلة أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم:
1 -
عن عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "بينما النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَع رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: "اللهمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: "اللهمَّ، عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ"(1).
وقال ابن حجر: وقول: "عليك بقريش" أي: بإهلاك قريش، والمراد الكفار منهم أو من سمى منهم، فهو عام أريد به الخصوص (2).
وقوله: "صرعى في القليب" وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمامِ الدُّعَاءِ الْمَاضِي فَيَكُونُ فِيهِ عَلَمٌ عَظِيم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ وَزَاد شُعْبَةُ فِي رِوَايتهِ:(إِلَّا أُمَيَّة فَإِنَّهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ) زَادَ: (لِأَنَّهُ كَانَ بَادِنًا). قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا
(1) أخرجه البخاري (2934)، ومسلم (1794).
(2)
فتح الباري (1/ 416).
أَمَرَ بِإِلْقَائِهِمْ فِيهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاس بِرِيحِهِمْ وَإِلَّا فَالْحَرْبِيّ لَا يَجِبُ دَفْنه، وَالظَّاهِر أَنَّ الْبِئْرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ مَعِينٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: تَعْظِيم الدُّعَاء بِمَكَّةَ عِنْدَ الْكُفَّارِ، وَمَا اِزْدَادَتْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَعْظيمًا.
وَفِيهِ مَعْرِفَة الْكُفَّار بِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِخَوْفِهِمْ مِنْ دُعَائِهِ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمْ الْحَسَد عَلَى تَرْك الِانْقِيَاد لَهُ.
وَفِيهِ حِلْمُهُ صلى الله عليه وسلم عَمَّنْ آذَاهُ؛ فَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيّ، عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ اِبْن مَسْعُود قَالَ: (لَمْ أَرَهُ دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ) وَإِنَّمَا اِسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ حِينَئِذٍ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ عِبَادَة رَبِّهِ.
وَفِيهِ اِسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ ثَلَاثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ اِسْتِحْبَاب السَّلَامِ ثَلَاثًا وَغَيْر ذَلِكَ.
وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ لَكِنْ قَالَ بَعْضهمْ: مَحَلُّهُ مَا إِذَا كَانَ كَافِرًا، فَأَمَّا المُسْلِمُ فَيُسْتَحَبُّ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالدُّعَاءُ بِالتَّوْبَةِ (1).
2 -
عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه قَالَ: "كان رجل نصرانيًا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه"(2).
3 -
عن عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِما شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ
(1) فتح الباري (1/ 418).
(2)
أخرجه البخاري (3617).