الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويكون الله أحب إليه، وآثر عنده، ولا يبقى في القلب سوى محبته، فوطن نفسه على ذلك، وعزم عليه، فخلصت المحبة لوليها ومستحقها، فحصلت مصلحة المأمور به من العزم عليه، وتوطين النفس على الامتثال، فبقي الذبح مفسدة، لحصول المصلحة بدونه، فنسخه في حقه لما صار مفسدة، وأمر به لما كان عزمه عليه، وتوطين نفسه مصلحة لهما، فأي حكمة فوق هذا، وأي لطف وبر وإحسان يزيد على هذا، وأي مصلحة فوق هذه المصلحة بالنسبة إلى هذا الأم ونسخه.
وإذا تأملت الشرائع الناسخة والمنسوخة وجدتها كلها بهذه المنزلة، فمنها ما يكون وجه المصلحة فيه ظاهرًا مكشوفًا، ومنها ما يكون ذلك فيه خفيًا لا يدرك إلا بفضل فطنة وجودة إدراك.
الوجه العاشر: مقارنة بين
الحج في اليهودية
والنصرانية والإسلام
.
الحج في اليهودية:
وقت (أعياد) الحج عندهم.
لو أننا يممنا وجوهنا شطر شعيرة الحج في اليهودية والنصرانية لتبين لنا بوضوح الفروق الجوهرية بين الشعيرة في الرسالات الثلاث، بل لا نغالي إذا قلنا: إن الحج كشعيرة لا وجود له في اليهودية والنصرانية المحرفتين، فليس في اليهودية حج بالمعنى الذي يسبق إلى الذهن، وإنما مجرد أعياد مرتبطة بمواسم الحصاد، وكلمة "أعياد" تقابلها في العبرية كلمة "حَجِّيم"(مفردها "حَج")، ويقابلها أيضًا "موعيد" أو "يوم طوف". وتُستخدَم كلمة حجيم للإشارة إلى عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال
جاء في سفر (الخروج 23/ 19: 14): ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تُعَيِّدُ لِي فِي السَّنَةِ. 15 تَحْفَظُ عِيدَ الْفَطِيرِ. تَأْكُلُ فَطِيرًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرْتُكَ فِي وَقْتِ شَهْرِ أَبِيبَ، لأَنَّهُ فِيهِ خَرَجْتَ مِنْ مِصْرَ. وَلَا يَظْهَرُوا أَمَامِي فَارِغِينَ. 16 وَعِيدَ الْحَصَادِ أَبْكَارِ غَلَّاتِكَ الَّتِي تَزْرَعُ فِي الْحَقْلِ. وَعِيدَ الْجَمْعِ فِي نِهَايَةِ السَّنَةِ عِنْدَمَا تَجْمَعُ غَلَّاتِكَ مِنَ الْحَقْلِ. 17 ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ يَظْهَرُ جَمِيعُ ذُكُورِكَ أَمَامَ السَّيِّدِ الرَّبِّ. . . . أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ.
وفي سفر (التثنية 16/ 17: 16): "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ يَحْضُرُ جَمِيعُ ذُكورِكَ أَمَامَ الرَّبَّ إِلهِكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ، فِي عِيدِ الْفَطِيرِ وَعِيدِ الأَسَابِيعِ وَعِيدِ الْمَظَالِّ. وَلَا يَحْضُرُوا أَمَامَ الرَّبِّ فَارِغِينَ. 17 كُلُّ وَاحِدٍ حَسْبَمَا تُعْطِي يَدُهُ.
وهذا الحضور أو الظهور أمام الرب ثلاث مرات في السنة هو حج الإسرائيليين، وهو خاص بالذكور دون الإناث.
وقت الحج في الإسلام: الحج في الإسلام مرتبط بالأشهر القمرية، وهو يعني أنه يأتي صيفًا ويأتي شتاءً ويمر داخل السنة الشمسية، فيمر بكل تقلباتها المختلفة، وهو من حكمة الخالق عز وجل، ودقيق صنعه لعباده، وهو ما كان من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولكن أهل مكة بدلوا وغيروا، ونعى الله عليهم ذلك في القرآن الكريم {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37]، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسؤوا أي: أخَّروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع، هكذا شهرًا بعد شهر.
ويقول الرازي: إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية، فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء، وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات، لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة، فعلموا أن بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية. (1)
فما فعله المشركون كان خروجًا على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وجاء الإسلام ليصحح الخطأ، وأسواق العرب لم تكن فقط بسبب جني البلح كما اعتقد (فنسنك)، لأنه بحسب أصل الشعيرة كما هي في ملة إبراهيم عليه السلام كان الحج يقع صيفًا وشتاءً.
الأضحية عند اليهودية: إن هوس المستشرقين بنسبة كل شعائر الإسلام إلى اليهودية والنصرانية أو إلى أي مصدر آخر أي أن تكون وحي موحى بها من عند الله جعلهم يقعون في أغلاط تاريخية واضحة، فمسألة الضحية أو التضحية ليست قاصرة على اليهود، بل هي من
(1) تفسير الرازي سورة التوبة 37.
الشعائر التي عرفتها الإنسانية حتى قبل الخليل عليه السلام، فإن نحر الحيوانات ضحية معروفة في الأديان القديمة، وكان معروفًا عند الكنعانيين قبل أن يروا اليهود، أو على الأصح قبل أن يفد إبراهيم إلى تخوم فلسطين، والإسلام يستعمل ضحايا عيد الضحية للصدقة والبر بالفقراء، وهو عمل يتقرب به إلى الله تعالى، سواء من المذنبين ذوي الخطايا الكبيرة ومن الأطهار الأبرار على السواء، وكان العرب يعرفون القرابين الحيوانية ويذبحونها لأسباب كثيرة، ومشهور أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم افتدى ابنه عبد الله بمائة من الإبل.
بل وأبعد من ذلك في تاريخ الأديان ما جاء عن شعائر الديانة السومرية أن الأضاحي فيها كانت بالدرجة الأساس أضاحٍ نباتية وحيوانية، أما الأضاحي النباتية فكانت تُقدم بكثرة إلى المعابد لإطعام الآلهة والكهنة، ومنها الفاكهة، والحيوانية كانت تتألف من الثيران والما شية والماعز والغزلان والأسماك والخنازير وأنواع الطيور.
وفي الآرامية: كان القربان يسمى (قرين) وكان يُقدم للآلهة نذرًا أو تقدمة، ولكننا لا نعرف على وجه الدقة ما نوع الحيوانات التي كانت تُقدم كنذور، وما هي الحيوانات المحرم تقديمها، كذلك يصعب علينا معرفة القرابين النباتية والبشرية من عدم وجودها، وكان وعاء الأضاحي يسمى الدورق (أدقور)، وهو وعاء لرش السائل أو الماء، وهناك أيضًا المجامر التي كانت ترافق تقديم القرابين والأضاحي.
وهذه الطقوس هي ما يمارسه اليهود والنصارى اليوم في تقديم الذبائح والقرابين، فليس لليهود فضل في هذه الشعيرة، بل هي التي شوهت شعائر الله، والتاثت عقائدها بعقائد الوثنية، ففهمت أن القرابين والتضحيات ينال منها الله تعالى، ولقد جاء القرآن الكريم يضرب بباطلهم وجوههم، ويرد عن شعائر الله لوثات الوثنية {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37]، وإنما هي بقايا ما ورث الناس من الدين الحق، وإن أخطأ الناس ممارستها وتقربوا بها إلى غير مستحقها سبحانه وتعالى.
وعلى الرغم من ذلك فإن القربان والتضحية في اليهودية - كما هو ممارَس عندهم - بينه وبين نظيره في الإسلام بون شاسع وفروق كبيرة، فالقربان في اليهودية يكون تارة من بواكير الزرع، وتارة من بواكير الحيوان في مواسم الحصاد أو النتاج، وتكون التضحية أو القربان ثمنًا للغفران من الله أو رشوة لتسكين الغضب واستجلاب الرضى والرعاية، بل يكون القربان الأكبر طعامًا مقدمًا إلى الله لأنه يستسيغه ويشعر بالسرور لاشتمامه، ويكون في كل حال هدية منتقاة من أطايب الذبيحة لكهان الهيكل وخدامه المنتسبين إليه.
ففي سفر (اللاويين 1/ 9: 1): وَدَعَا الرَّبُّ مُوسَى وَكَلَّمَهُ مِنْ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ قَائِلًا: 2 "كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنَ الْبَهَائِمِ، فَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ تُقَرِّبُونَ قَرَابِينَكُمْ. 3 إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ، فَذَكَرًا صَحِيحًا يُقَرِّبْهُ. إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ. 4 وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ اْلمُحْرَقَةِ، فَيُرْضَى عَلَيْهِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْهُ. 5 وَيَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَيُقَرِّبُ بَنوُ هَارُونَ الْكَهَنَةُ الدَّمَ، وَيَرُشُّونَهُ مُسْتَدِيرًا عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 6 وَيَسْلُخُ الْمُحْرَقَةَ وَيُقَطِّعُهَا إِلَى قِطَعِهَا. 7 وَيَجْعَلُ بَنُو هَارُونَ الْكَاهِنِ نَارًا عَلَى الْمَذْبَحِ، وُيُرَتِّبُونَ حَطَبًا عَلَى النَّارِ. 8 وَيُرَتِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الْقِطَعَ مَعَ الرَّأْسِ وَالشَّحْمِ فَوْقَ الْحَطَبِ الَّذِي عَلَى النَّارِ الَّتِي عَلَى الْمَذْبَحِ. 9 وَأَمَّا أَحْشَاؤُهُ وَأَكَارِعُهُ فَيَغْسِلُهَا بِمَاءٍ، وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ مُحْرَقَةً، وَقُودَ رَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ.
فهم يتصورون تصورًا باطلًا أن الله تعالى يأكل، ومن ثَمَّ فالقربان له على الحقيقة كما جاء في سفر (التكوين 18/ 8: 1): وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، 2 فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلَاثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ، 3 وَقَالَ:"يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلا تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. 4 لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ". فَقَالُوا: "هكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ". 6 فَأَسْرَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْخَيْمَةِ إِلَى سَارَةَ، وَقَالَ:"أَسْرِعِي بِثَلَاثِ كَيْلَاتٍ دَقِيقًا سَمِيذًا. اعْجِنِي وَاصْنَعِي خُبْزَ مَلَّةٍ". 7 ثُمَّ رَكَضَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْبَقَرِ وَأَخَذَ عِجْلًا
رَخْصًا وَجَيِّدًا وَأَعْطَاهُ لِلْغُلَامِ فَأَسْرَعَ لِيَعْمَلَهُ. 8 ثُمَّ أَخَذَ زُبْدًا وَلَبَنًا، وَالْعِجْلَ الَّذِي عَمِلَهُ، وَوَضَعَهَا قُدَّامَهُمْ. وَإِذْ كَانَ هُوَ وَاقِفًا لَدَيْهِمْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَكَلُوا.
هذا المشهد المحرف يعرضه القرآن الكريم في صورة من الجلال والكمال اللائق بقدسية الوحي الإلهي حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69، 70]، ويقول تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 24 - 28]، فالذين جاءوا ملائكة وليس الله، وهو لم يعرفهم كما جاء في القرآن الكريم، وهم لم يأكلوا وهو الأمر الذي يتناسب مع طبيعتهم كملائكة.
وأما هذه الصورة الكئيبة التي عرضتها التوراة المحرفة فليست إلا من صنع الكهان ورجال الدين الذين أعملوا يد الإثم في وحي الله، والفارق كبير بين المشهدين، ففي التوراة صورة لا تتفق مع نزاهة التوحيد، وفي القرآن نزاهة وبيان لعصمة الملائكة، وأعجب من هذا ما ورد في سفر (اللاويين 16/ 8: 5): وَمِنْ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَأْخُذُ تَيْسَيْنِ مِنَ الْمَعْزِ وَيَأْخُذُ التَّيْسَيْنِ وَيُوقِفُهُمَا أَمَامَ الرَّبِّ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 8 وَيُلْقِي هَارُونُ عَلَى التَّيْسَيْنِ قُرْعَتَيْنِ: قُرْعَةً لِلرَّبِّ وَقُرْعَةً لِعَزَازِيلَ.
جاء في قاموس الكتاب المقدس: عزازيل ورد في سفر اللاويين ويراد به الشيطان، أو الجن في الصحاري والبراري، أو ملاك ساقط بحسب سفر أخنوخ ومعظم المفسرين الحديثيين، ولئن حاول المفسرون المحدثون تفسيره بملاك ساقط من السماء فهو تفسير واه، لأن المقصود به روح الشر المقابلة للإله في اعتقادهم وهو الشيطان، وإنما تقدم التضحية له لتسكن غضبه، وهي شعيرة تبدو فيها الوثنية الطاغية والتأثر بالمذاهب القائلة بآلهة الخير وآلهة الشر.
الأضحية في الإسلام: ونحن لا نعيب الذبح من حيث هو، لأننا نؤمن بالتضحية كشعيرة إلهية يتقرب بها العبد لربه سبحانه وتعالى، وهو لون من ألوان الاستسلام
والامتثال لأمر الله، ولكننا نعيب التحريف والطقوس الوثنية التي شابت هذه الشعيرة، وامتزاجها بأفكار مشوشة في الإله تعالى، وإسقاط صفات المخلوقين عليه، وهو الأمر الذي جاء الإسلام بتصحيحه ورد الشعيرة إلى صورتها اللائقة بجناب الله تعالى، فليس القربان الإسلامي طعامًا للرب ولا طعمًا لأحد الوسطاء بين العبد وربه باسم الدين. . . وليس فيه معنى من معاني التقريب للظواهر الطبيعية في مواسمها المعروفة للحصاد والنتاج، قال تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)} [الحج: 36]، والمعنى: إن اتقيت الله في هذه البُدن، وعملت فيها لله، وطلبت ما قال الله تعظيمًا لشعائر الله ولحرمات الله، فإنه قال:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، قال:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، قال: وجعلته طيبًا، فذلك الذي يتقبل الله. فأما اللحوم والدماء، فمن أين تنال الله؟ .
وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله، فأنزل الله هذه الآية، قال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيمًا لها وتقربًا إليه تعالى فنزلت هذه الآية.
هذه الفروق الجوهرية بين صورة التضحية في الإسلام ونظيرتها في اليهودية والمسيحية هي ذات الفروق بين الإسلام كوحي إلهي وبين اليهودية والمسيحية كديانتين محرفين طالتهما أيدي التشويه الآدمي القاصر.
الحج في المسيحية: ما قيل في اليهودية يقال في المسيحية فليس في المسيحية الحالية شعيرة يمكن أن يطلق عليها اسم الحج كما هو الحال في شعيرة الحج في الإسلام في كمالها وشمولها ووضوح معالمها وأبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والروحية والتربوية، فلم يرد أي نص بالحج في كتبها المقدسة، وما نراه من حج المسيحيين الكاثوليك إلى روما، وما نشاهده من حج المسيحيين على اختلاف طوائفهم وفرقهم إلى القدس لم يرد في الديانة المسيحية وأسفارها المقدسة لدى المسيحيين، وإنما هو تقليد اتبع فيما يعد المسيح بقرون.
والحج المسيحي إلي القدس ليس فريضة من الفرائض المنصوص عليها في المسيحية وإنما نشأ بعد الإمبراطورة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين. وقد زارت القدس سنة 324. وعثرت على الصليب الحقيقي كما تذكر بعض الروايات الضعيفة وصعدت هيلانة إلى مرتبة القداسة فعرفت بالقديسة.
وليس لهذا الحج طقوس أو مناسك، وإنما يقصدها المسيحيون كما يقصدها غيرهم من السائحين فيزورون مولد المسيح وغيره من الأماكن التي تردد عليها كما يزورون الكنائس القائمة في القدس وبيت لحم، والحج بهذه الصورة السابقة في المسيحية عبارة عن سياحة دينية وزيارة لبعض الأماكن التي يعتقدون قدسيتها وقدسية هذه الأماكن ليست بنص في كتبهم، وإنما هي من وضع الرهبان ورجال الدين النصراني، ولا علاقة لها بالمسيح عليه السلام.
مزارات الحج المسيحي: في المسيحية عدة أماكن يقصدها المسيحيون لحجهم:
(1)
الحج إلى مدينتي القدس وروما:
وهي من أعظم مزارات الحج المسيحي باعتبار مولد صاحب الديانة والمركزية الدينية لهذه الديانة، وهي أسباب بشرية لا تدعمها نصوص ولا ترجع إلى فعل المسيح عليه السلام، وإذا كان قد سبق معنا أن الحج إلى القدس - وهو الحج الأساس في النصرانية - ليس فريضة ولا مناسك له، فالحج أيضًا إلى روما ليس فريضة مقدسة، ولكن زيارة روما مستحبة، وبدأت منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ويظهر أن روما استأثرت بالعدد الأكبر من الحجاج وقطعت الطريق إلى بيت المقدس، وإن لم ينقطع المسيحيون عن الزيارة إليها، وهناك فارق بين روما والقدس في الحج، فروما خاصة بالكاثوليك، والقدس محجة كل المسيحيين.
وسبب ازدحام روما أنها أصبحت معقل المسيحية وبها قبر بطرس وقبر بولس وعشرات من مقابر القديسين والزهاد والنصارى، وكان نصارى غرب أوروبا يخرجون إلى الحج في احتفال عظيم، وكان الرئيس الديني لكل بلد يزود كل حاج بعصا ورداء من الصوف الخشن يرتديه عند تسلمه إياه، وكانت لهم في طريقهم إلى القدس أربطة وتكايا ينزلون بها، وإذا وصلوا اغتسلوا بنهر الأردن وتطهروا لدخول بيت المقدس، فإذا حجوا