الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وممن قال بهذا ابن جرير الطبري. (1)
المعنى الثاني: يسارقون النظر إلى النار:
عن قتادة في قوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال يسارقون النظر (2).
وعن السدي قال: يسارقون النظر (3).
محمد بن كعب القرظي قال: يسارقون النظر إلى النار. (4)
المعنى الثالث: أنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميًا. (5)
ونُقل هذا عن مجاهد.
الوجه الثالث: أن أحوال ومواقف الناس تختلف يوم القيامة
وهذا قول ابن عباس لما سأله رجلٌ فقال رأيت قوله {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، وأخرى (عميًا)، قال: أن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقًا وفي حال عميً (6).
قال الشوكاني: وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر (7).
وأخرج ابن مردويه (8) عن عبد الله بن الصامت قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أرأيت قول الله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 35،
= قال ابن حجر أكثر عن مجاهد وكان يدلس عنه وقد ذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة، ويعني ذلك أنه لا بد أن يصرح بالسماع. وقد عنن في هذه الرواية. طبقات المدلسين، ثم هو لم يسمع التفسير من مجاهد نص عليه القطان كما في التاريخ الكبير 5/ 233، والثقات 7/ 5.
(1)
جامع البيان 25/ 42.
(2)
ابن جرير الطبري 25/ 42 بإسناد صحيح.
(3)
إسناده ضعيف. الطبري 25/ 42 فيه: أسباط صدوق كثير الخطأ. أحمد بن المفضل صدوق سيئ الحفظ.
(4)
الدر المنثور للسيوطي 7/ 361، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر
(5)
الطبري 25/ 42، القرطبي 16/ 45، فتح القدير 4/ 761، فتح البيان 12/ 317.
(6)
تفسير ابن أبي حاتم (13522).
(7)
الفتح القدير 2/ 649.
(8)
الدر المنثور للسيوطي (8/ 386).
36]، قال: إن يوم القيامة يوم له حالات وتارات في حال لا ينطقون، وفي حال ينطقون، وفي حال يعتذرون، لا أحدثكم إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة ينزل الجبار في ظلل من الغمام، وكل أمة جاثية في ثلاثة حجب مسيرة كل حجاب خمسون ألف سنة، حجاب من نور، وحجاب من ظلمة، وحجاب من ماء، لا يرى لذلك فيأمر بذلك الماء فيعود في تلك الظلمة، ولا تسمع نفس ذلك القول إلا ذهبت فعند ذلك لا ينطقون".
قلت: وقد جمع الإمام القرطبي صاحب التذكرة في هذا الوجه كلامًا جيدًا فقال تحت باب بعنوان الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض.
منها قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45]، وقال تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، وفي آية ثالثة إنهم يقولون:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]، وهذا كلام وهو مضاد للبكم والتعارف تخاطب وهو مضاد للصم والبكم معًا، وقال الله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، والسؤال لا يكون إلا بالاسماع وإلا لناطق يتسع للجواب، وقال:{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، وقال:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]، وقال:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)} [المعارج: 43]، والنسلان والإسراع مخالفان للحشر على الوجوه.
والجواب: لمن سأل عن هذا الباب أن يقال له إن الناس إذا أحيوا وبعثوا من قبورهم فليست حالهم حالة واحدة ولا موقفهم ولا مقامهم واحدا ولكن لهم مواقف وأحوال واختلفت الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم وأحوالهم وجملة ذلك أنها خمسة أحوال: الأولى: حال البعث من القبور. والثانية: حال السوق إلى مواضع الحساب. والثالثة: حال المحاسبة. والرابعة: حال السوق إلى دار الجزاء. والخامسة: حال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها.
فأما حال البعث من القبور: فإن الكفار يكونون كاملي الحواس والجوارح لقول الله تعالى: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45]، وقوله: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا
(103)
} [طه: 102]، وقوله:{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، وقوله:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)} إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} [المؤمنون 112 - 115].
واالحالة الثانية: حال السوق إلى موضع الحساب وهم أيضًا في هذه الحال بحواس تامة لقوله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات: 22 - 24]، ومعنى {فَاهْدُوهُمْ} أي: دلوهم، ولا دلالة لأعمى أصم ولا سؤال لأبكم فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار وأسماع وألسنة ناطقة.
والحالة الثالثة: وهي حالة المحاسبة وهم يكونون فيها أيضًا كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم ويقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم وتشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم فيسمعونها وقد أخبر الله تعالى أنهم يقولون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، وأنهم يقولون لجلودهم:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]، وليشاهدوا أحوال القيامة، وما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها وتصرف الأحوال بالناس فيها.
وأما الحالة الرابعة: وهي السوق إلى جهنم فإنهم يسلبون فيها أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم لقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء: 97]، ويحتمل أن يكون قوله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن: 41] إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار والأسماع والمنطق.
والحالة الخامسة: حال الإقامة في النار وهذه الحالة تنقسم إلى بدو ومآل: فبدوها: أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب وشفير جهنم عميا وبكما وصما إذلالا لهم تمييزا عن غيرهم ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار وما أعد الله لهم فيها من العذاب ويعاينوا ملائكة العذاب وكل ما كانوا به مكذبين فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين ولهذا قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، وقال:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام: 27]، وقال: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا
قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ} إلى قوله {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} [الأعراف 38، 39]، وقال:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8، 9]، وأخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون:{أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]، وأن أهل الجنة ينادونهم:{أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]، وأنهم يقولون:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ، فيقول لهم:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 71]، وأنهم يقولون لخزنة جهنم:{ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} ، فيقولون لهم:{قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50].
وأما العقبى والمآل: فإنهم إذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون: 107]، فقال الله تعالى:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وكتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم وهو أن يؤتى بكبش أملح ويسمى الموت ثم يذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادوا يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت سلبوا في ذلك الوقت أسماعهم وقد يجوز أن يسلبوا الأبصار والكلام لكن سلب السمع يقين لأن الله تعالى يقول:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} [الأنبياء: 100]، فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير والشهيق ويحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل أنهم سمعوا نداء الرب سبحانه على ألسنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه وكذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الاستماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلب الأسماع يبين ذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وقالوا {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، وإن قوم نوح عليه السلام كانوا يستغشون ثيابهم تسترًا منه لئلا يروه ولا يسمعوا كلامه وقد أخبر الله تعالى عن الكفار في وقت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثله فقال:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} [هود: 5]،
وإن سلبت أبصارهم فلأنهم أبصروا الغير فلم يعتبروا والنطق فلأنهم أوتوه فكفروا فهذا وجه الجمع بين الآيات على ما قاله علماؤنا، والله أعلم (1).
* * *
(1) التذكرة (188: 190)، ويُراجع تفسير الطبري (15/ 167)، النكت والعيون (5/ 275)، وللمزيد من اختلاف أحوال الناس يوم القيامة يُراجع الموسوعة في تفسير سورة حول شبهة (يتساءلون ولا يتساءلون).