الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1532 - مسألة؛ قال أبو القاسمِ، رحمه الله:(وإِذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامٍ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَطْلبُ مَوْضِعَه، حُورِبُوا، ودُفِعُوا بأَسْهَلِ مَا يَنْدَفِعُونَ بِهِ)
وجملةُ الأمرِ أَنَّ مَن اتَّفَقَ المسلمون على إمامَتِه وبَيْعَتِه، ثَبَتَتْ إمامَتُه، ووجَبَتْ مَعونَتُه؛ لما ذَكَرْنَا من الحديثِ والإِجْماعِ، وفي مَعناه، مَنْ ثَبَتَتْ إمامتُه بَعْهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو بِعَهْدِ إمامٍ قبلَه إليه، فإنَّ أبا بكر ثَبَتَتْ إمامتُه بإجماعِ الصحابةِ على بَيْعَتِه، وعُمَرَ ثَبَتَتْ إمامتُه بَعْهدِ أبي بكرٍ إليه، وأجْمَعَ الصَّحابةُ على قَبولِهِ. ولو خرجَ رجلٌ على الإِمامِ، فقهرَه، وغلَبَ الناسَ بسيفهِ حتى أَقرُّوا له، وأذْعَنُوا بطاعتِه، وبَايَعُوه، صارَ إمامًا يَحْرُمُ قِتالُه، والخروجُ عليه؛ فإنَّ عبدَ الملكِ بنَ مروانَ، خرج على ابنِ الزُّبَيْرِ، فقَتلَه، واستَوْلَى على البلادِ وأهلِها، حتى بايَعُوه طَوْعًا وكَرْهًا، فصارَ إمامًا يحْرُمُ الخروجُ عليه؛ وذلك لما في الخُروجِ عليه من شَقِّ عَصَا المسلمين، وإراقة دِمائِهم، وذَهابِ أمْوالِهم، ويدْخُلُ الخارجُ عليه في عُمومِ قولِه عليه السلام:"مَنْ خَرَجَ على أُمَّتِي، وهُمْ جَمِيعٌ، فاضْرِبُوا عُنُقَهُ بالسَّيفِ، كَائِنًا مَنْ كانَ"(1). فمن خَرَجَ على مَنْ ثَبَتَتْ إمامَتُه بأَحَدِ هذه الوُجُوهِ باغِيًا، وجبَ قِتالُه، ولا يجوزُ قتالُهم حتى يَبْعَثَ إليهم من يَسْأَلُهم، ويَكْشِفَ لهم الصوابَ، إلَّا أَنْ يخافَ كَلَبَهم (2)؛ فلا يُمْكِنُ ذلك في حَقِّهم. فأَمَّا إنْ أمْكَنَ تَعْرِيفُهم، عَرَّفَهُم ذلك، وأزالَ ما يذكرُونَه مِن المَظالمِ، وأزاحَ (3) حُجَجَهم، فَإِنْ لَجُّوا، قَاتلَهم حينئذٍ؛ لأَنَّ اللهَ تعالى بدأَ بالأمرِ بالإِصْلاحِ قبلَ القتالِ، فقال سبحانَه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (4). ورُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا، رضي الله عنه، راسلَ
(1) تقدم تخريجه في صفحة 237.
(2)
الكلب، بالتحريك: الشدة.
(3)
في ب، م:"وأزال".
(4)
سورة الحجرات 9.
أهلَ البصرَةِ قبلَ وَقْعَةِ الجملِ، ثم أمرَ أصحابَه أنْ لا يَبْدَأُوهم بالقتالِ، ثم قال: إنَّ هذا يومٌ من فَلَجَ (5) فيه فَلَجَ (5) يومَ القيامةِ. ثم سَمِعَهم يقولون: اللهُ أكبرُ، [يالَثاراتِ] (6) عثمانَ. فقال: اللَّهُمَّ أكِبَّ قَتَلَةَ عثمانَ لوُجُوهِهم (7). ورَوَى عبدُ اللَّه بنُ شَدَّادِ بنِ الهادِ (8)، أنّ عليًّا لمَّا اعتزلَتْهُ الحَرُورِيَّةُ (9)، بعثَ إليهم عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ، فواضَعُوه كتابَ اللهِ ثلاثةَ أيامٍ، فرَجَعَ منهم أربعةُ آلافٍ (10). فإنْ أَبَوُا الرُّجُوعَ، وعَظَهم، وَخَوَّفَهم القِتالَ؛ وإنَّما كان كذلك، لأنَّ المقصودَ كَفُّهم، ودَفْعُ شَرِّهم، لا قَتْلُهم، فإذا أمْكَنَ بمُجَرَّدِ القَوْلِ، كان أوْلَى مِن القِتالِ؛ لما فيه مِن الضَّرَرِ بالفَرِيقَيْن. فإنْ سَألُوا الإِنْظارَ، نَظَرَ في حالهم، وبَحَثَ عن أمْرِهم، فإنْ بانَ له أنَّ قصدَهم الرُّجوعُ إلى الطَّاعةِ، ومَعْرِفةُ الحقِّ، أمْهَلَهم. قالَ ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ على هذا كلُّ مَنْ أحْفَظُ عنه من أهلِ العِلمِ. وإنْ كان قصْدُهم الاجْتماعَ على قِتالِه، وانتظارَ مَدَدٍ يَقْوَوْنَ بِه، أو خَديعةَ الإِمامِ (11)، ليأْخُذُوه على غِرَّةٍ، ويفترقَ عَسْكرُه، لم يُنْظِرْهم، وعاجَلَهم؛ لأنَّه لا يأْمنُ أنْ يصيرَ هذا طَريقًا إلى قَهْرِ أهلِ العَدْلِ، ولا يجوزُ هذا، وإنْ أَعْطَوهُ عليه مالًا؛ لأنَّه لا يجوزُ أنْ يأخذَ المالَ على إقرارِهم على ما لا يجوزُ إقْرارُهم عليه. وإن بُذِلَ له رَهائنُ على إنْظارِهم، لم يَجُزْ أخْذُها لذلك؛ ولأنَّ الرّهائنَ لا يجوزُ قَتْلهُم لغَدْرِ أهلهم، فلا يُفِيدُ شيئًا. وإن كان في أَيْدِيهم
(5) في ب، م:"فلح". وفلج: ظفر وفاز.
(6)
في الأصل، ب:"ياثارات".
(7)
أخرجه البيهقي، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى. . .، من كتاب قتال أهل البغى. السنن الكبرى 8/ 180، 181.
(8)
في ب، م:"الهادى". وانظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 5/ 251.
(9)
الحرورية: هم الخوارج، ينسبون إلى حروراء، موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه، ثم أصبح لقبا لفرقة منهم. الأنساب 4/ 118، وحاشيته.
(10)
أخرجه الإِمام أحمد في المسند 1/ 86، 87. والبيهقي، في: باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى. . .، من كتاب قتال أهل البغي، السنن الكبرى 8/ 180. والحاكم، في: باب ذكر مراسلته صلى الله عليه وسلم حين صالح قومه قريشا، من كتاب قتال أهل البغى. المستدرك 2/ 153.
(11)
في م زيادة: "أو".
أَسْرَى من أهلِ العَدْلِ، وأعْطَوا بذلك رَهائِنَ منهم، قَبِلَهم الإِمامُ، واسْتَظْهَرَ للمسلمينَ؛ فإن أطْلَقوا أسْرَى المسلمين الذين عِندَهمِ، أُطْلِقَتْ رَهائِنُهم، وإن قتَلُوا مَنْ عِندَهم، لم يَجُزْ قَتْلُ رَهائِنهِم؛ لأنَّهم لا يُقْتَلون بِقَتْلِ غَيْرِهم، فإذا انْقَضَتِ الْحَربُ، خَلَّى الرَهائنَ، كما تُخَلَّى الأسَارَى منهم. وإن خافَ الإِمامُ على الفِئَةِ العادلَةِ الضَّعْفَ عنهم، أَخَّرَ قِتالَهم إلى أنْ تُمْكِنَه القُوَّةُ عليهم؛ لأنَّه لا يُؤْمَنُ الاصْطِلامُ والاسْتِئْصالُ، فيُؤخِّرُهم حتى تَقْوَى شَوْكَةُ أهلِ العَدْلِ، ثم يُقَاتِلُهم. وإن سَأَلُوه أن يُنْظِرَهم أبَدًا، ويدَعَهم وما هُمْ عليه، ويَكُفُّوا عن المسلمين، نَظَرْتَ، فإِن لم يَعْلَمْ قُوَّتَه عليهم، وخافَ قَهْرَهم له إن قاتَلَهم، تَرَكَهم. وإن قَوِىَ عليهم، لم يَجُزْ إقْرارُهم على ذلك؛ لأنَّه لا يجوزُ أنْ يتركَ بعضُ المسلمين طاعةَ الإِمامِ، ولا تُؤْمَنُ قُوَّةُ شَوْكَتِهم، بحيثُ يُفْضِي إلى قَهْرِ الإِمام العادلِ ومَن معه. ثم إنْ أمْكنَ دَفْعهُم بدونِ (12) القَتْلِ، لم يَجُزْ قَتْلُهم؛ لأنَّ المقصودَ دَفْعُهم [لا قَتْلُهم](13)؛ ولأنَّ المقصودَ إذا حَصَلَ بدُونِ القَتْلِ، لم يَجُز القَتْلُ من غيرِ حاجةٍ. وإن حَضَرَ معهم مَنْ لا يُقاتِلُ، لم يَجُزْ قَتْلُه. وقال أصحابُ الشافِعيِّ: فيه وَجْهٌ آخَرٌ، يجوزُ؛ لأنَّ عليًّا، رضي الله عنه، نَهَى أصحابَه عن قتلِ محمدِ بنِ طلحةَ السَّجَّادِ، وقال: إيَّاكم وصاحبَ البُرْنُسِ. فقتلَه رجلٌ، وأنشأ يقولُ:
وأشْعَثَ قَوَّامٍ بآياتِ رَبِّه
…
قليلِ الأذَى فيما تَرى العينُ مُسْلمِ
هَتَكْتُ له بالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِه
…
فَخَرَّ صَرِيعًا لليدَيْنِ وللْفَمِ
على غيرِ شيءٍ غيرَ أنْ ليس تابعًا
…
عَلِيًّا ومَنْ لم يَتْبَعِ الحقَّ يَظْلِمِ
يُناشِدُني حم، والرُّمْحُ شَاجِرٌ
…
فهلَّا تَلَا حم قبلَ التَّقَدُّمِ (14)
وكان السَّجَّادُ حاملَ رايةِ أبيهِ، ولم يكُنْ يُقاتِلُ، فلم يُنْكِرْ علىٌّ قتْلَه، ولأنَّه صارَ رِدْءًا (15)
(12) في م: "دون".
(13)
في ب، م:"لأهلهم".
(14)
أخرجه الحاكم، في: باب ذكر مناقب محمد بن طلحة بن عبيد اللَّه السجاد. . . .، من كتاب معرفة الصحابة. المستدرك 3/ 375. وانظر: تاريخ الطبري 3/ 214، 215، وتاريخ المسعودي 2/ 365، 366.
(15)
في م: "درءا".