الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
امْتَنَعَ عن الإِسلامِ؛ لعُمُومِ قولِه عليه السلام: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلهَ إلَّا اللهُ. فإذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّها"(17). ولأنَّه أتَى بقَوْلِ الحقِّ، فَلَزِمَه حُكْمُه، كالحَرْبِىِّ إذا أُكْرِهَ عليه. ولَنا، أنَّه أُكْرِهَ على ما لا يجوزُ إكْراهُه عليه، فلم يثْبُتْ حُكْمُه في حَقِّه، كالمسلم إذا أُكْرِه على الكُفْرِ، والدَّلِيلُ على تَحْريمِ الإِكراهِ قولُه تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (18). وأجمعَ أهلُ العلم على أنَّ الذِّمِّىَّ إذا أقامَ على ما عُوهِدَ عليه والمُسْتأمَنَ، لا يجوزُ نقضُ عهدِه، ولا إكْراهُه على ما لم يَلْتَزِمْه (19). ولأنَّه أُكْرِهَ على ما لا يجوزُ إكْراهُه عليه، فلم يثْبُتْ حكمُه في حقِّه، كالإِقْرارِ والعِتْقِ. وفارَقَ الحربِىَّ والمُرْتَدَّ؛ فإنَّه يجوزُ قَتْلُهما، وإكْراهُهما على الإِسلامِ، بأنْ يقولَ: إن أسْلَمْتَ وإلَّا قَتَلْناكَ. فمتى أسلمَ، حُكِمَ بإسلامِه ظاهرًا. وإن مات قبلَ زوالِ الإِكْراهِ عنه، فحُكْمُه حكمُ المسلمين؛ لأنَّه أُكْرِهَ بحقٍّ، فحُكِمَ بِصِحَّةِ ما يأْتِى به، كما لو أُكْرِهَ المسْلِمُ على الصلاةِ
فصلَّ
ى، وأمَّا في الباطنِ، فيما بينَهم وبين ربِّهم، فإنَّ من اعْتقدَ الإِسلامَ بقلبهِ، وأسلمَ فيما بينَه وبينَ ربِّه (20)، فهو مسلمٌ عندَ اللهِ، مَوْعودٌ بما وَعَدَ به مَن أسْلمَ طائِعًا، ومن لم يعتقدِ الإِسلامَ بقلبِهِ (21)، فهو باقٍ على كُفْرِه، لا حَظَّ له في الإِسلامِ، سواءٌ في هذا مَنْ يُجَوِّزُ إكراهُه، ومن لا يُجَوِّزُ إكراهُه، فإنَّ الإِسلامَ لا يحصُلُ بدونِ اعْتقادِه من العاقلِ، بدليلِ أنَّ المُنافِقِين كانوا يُظْهِرُونَ الإِسلامَ، ويَقُومُونَ بفَرائِضِه، ولم يكُونوا مسلمين.
فصل: ومَن أُكْرِهَ على الكُفْرِ، فأتَى بكلمةِ الكُفْرِ، لم يَصِرْ كافرًا. وبهذا قال مالِكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافِعِىُّ. وقال محمدُ بن الحسنِ: هو كافرٌ في الظاهرِ، تَبِينُ منه امرأتُه، ولا يَرِثُه المسلمون إنْ ماتَ، ولا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلَّى عليه، وهو مسلمٌ فيما بينَه
(17) تقدم تخريجه، في: 4/ 6.
(18)
سورة البقرة 356.
(19)
في الأصل: "يلزمه".
(20)
في م: "اللَّه تعالى".
(21)
سقط من: ب.
وبينَ اللهَ تعالى؛ لأنَّه نطَقَ بكلمةِ الكُفْرِ، فأشْبَهَ المُختارَ. ولَنا، قولُ اللَّه تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (22). ورُوِىَ أنَّ عَمَّارًا أخذَه المشركون، فضربُوه حتى تكلَّمَ بما طلبُوا منه، ثم أتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، وهو يَبْكِى، فأخبرَه، فقال له النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:"إنْ عَادُوا فَعُدْ"(23). ورُوِىَ أنَّ الكُفَّارَ كانوا يُعَذِّبُونَ المسْتَضْعَفِينَ من المؤمِنين، فما منهم أحدٌ إلَّا أجابَهم، إلا بلالًا (24)، فإنَّه كان يقولُ: أَحَدٌ. أَحدٌ (25). وقال النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "عُفِىَ لِأُمَّتِى عَنِ الْخَطَإِ والنِّسْيَانِ، وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"(26). ولأنَّه قولٌ أُكْرِهَ عليه بغيرِ حَقٍّ، فلم يَثْبُتْ حُكْمُه، كما لو أُكْرِهَ على الإِقْرَارِ، وفارقَ ما إذا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، فإنَّه خُيِّرَ بينَ أَمْرَيْنِ يلزمُه أحدُهما، فأيَّهما اختارَه ثبتَ حكمُه في حقِّه. فإذا ثبتَ أنَّه لم يَكْفُرْ، فمتى زالَ عنه الإِكْراهُ، أُمِرَ بإظهارِ إسلامِه، فإن أظْهرَه فهو بَاقٍ عَلَى إسلامِه، وإن أظهرَ الكُفْرَ حُكِمَ أنَّه كَفَرَ من حينَ نَطَقَ به؛ لأنَّنا تَبَيَّنَّا بذلك أنَّه كانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بالكُفْرِ من حينَ نَطَقَ به، مُخْتارًا له، وإن قامتْ عليه بَيِّنَةٌ أنَّه نطقَ بكلمةِ الكُفْرِ، وكان محبوسًا عندَ الكُفَّارِ، أو مُقَيَّدًا (27) عندَهم في حالةِ خوفٍ، لم يُحْكَمْ برِدَّتِه؛ لأنَّ ذلك ظاهرٌ في الإِكْراهِ. وإن شَهِدَتْ أنَّه كان آمِنًا حالَ نُطْقهِ به، حُكِمَ بِرِدَّتِه. فإن ادَّعَى ورثتُه رُجوعَه إلى الإِسلام، لم يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لأنَّ الأصلَ بَقاؤُه على ما هو عليه. وإن شَهِدَتِ البَيِّنَةُ عليه بأكْلِ لحمِ الخِنْزِيرِ، لم يُحْكَمْ بِرِدَّتِه؛ لأنَّه قد يأكلُه مُعْتَقِدًا تَحْريمَه، كما يشربُ الخمرَ مَن يعتقدُ تَحْريمَها. وإن قال بعضُ ورثتِه: أكلَه مُسْتَحِلًّا له. أو أَقَرَّ بِرِدَّتِه، حُرِمَ مِيرَاثَه؛ لأنَّه مُقِرٌّ بأنَّه لا يَسْتَحِقُّه، ويُدْفَعُ إلى مُدَّعِى إسْلامِه قَدْرُ ميراثِه؛
(22) سورة النحل 106.
(23)
تقدم تخريجه، في: 10/ 352.
(24)
في م: "بلال".
(25)
أخرجه البيهقي، في: باب المكره على الردة، من كتاب المرتد. السنن الكبرى 8/ 209. وانظر: السيرة النبوية 1/ 317، 318.
(26)
تقدم تخريجه، في: 1/ 146.
(27)
في ب: "مقيدا". وفي م: "ومقيدا".