الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالزَّكاةِ، ولأنَّها وجَبَتْ على العاقلةِ تخْفيفًا عن القاتلِ، فلا يجوزُ التَّثْقِيلُ بها على مَنْ لا جِنايةَ منه، وفي إيجابِها على الفقيرِ تَثْقِيلٌ عليه، وتَكْلِيفٌ له ما لا يَقْدِرُ عليه، ولأنَّنا أجْمَعْنا على أنَّه لا يُكَلَّفُ أحَدٌ من العاقلةِ ما يَثْقُلُ عليه، ويُجْحِفُ به، وتَحْمِيلُ الفَقِيرِ شَيْئًا منها يَثْقُلُ عليه، ويُجْحِفُ بمالِه، وربَّما كان الواجبُ عليه جَمِيعَ مالِه، أو أكثرَ منه، أو لا يكونُ له شيءٌ أصْلًا. وأمَّا الصَّبِىُّ والمجنونُ والمرأةُ، فلا يَحْمِلُون منها؛ لأنَّ فيها مَعْنَى التَّناصُرِ، وليس هم من أهْلِ النُّصْرَةِ.
فصل:
ويَعْقِلُ المريضُ إذا لم يَبْلُغْ حَدَّ الزَّمَانةِ، والشيخُ إذا لم يَبْلُغْ حَدَّ الهَرَمِ؛ لأنَّهما من أهْلِ النُّصْرةِ والمُواساةِ، وفي الزَّمِنِ والشَّيْخِ الفانِى وَجْهان؛ أحدهما، لا يَعْقِلانِ؛ لأنَّهما ليسا من أهْلِ النُّصْرةِ، ولهذا لا يَجِبُ عليهما الجِهادُ، ولا يُقْتَلانِ (2) إذا كانا من أهْلِ الحَرْبِ، وكذلك يُخَرَّجُ في الأعْمَى؛ لأنَّه مِثْلُهما في هذا المعنى. والثاني، يَعْقِلُونَ؛ لأَنَّهم من أهلِ المُواساةِ، ولهذا تَجِبُ عليهم الزَّكاةُ. وهذا مُنْتَقِضٌ (3) بالصَّبىِّ والمَجْنونِ. ومذهبُ الشافعىِّ في هذا الفَصْلِ كلِّه كمَذْهَبِنَا.
1468 - مسألة؛ قال: (ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ، أخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذلِك، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَىْءٌ)
الكلامُ في هذه المسألة في فَصْلينِ:
أحدهما: أنَّ مَنْ لا عاقِلةَ له، هل يُؤَدِّى من بيتِ المالِ أوْ لا؟ فيه (1) رِوَايتان. إحْداهما، يُؤَدَّى عنه. وهو مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ، والشافعيِّ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَى الأَنْصارِىَّ الذي قُتِلَ بخيبرَ من بيتِ المالِ (2). ورُوِىَ أن رَجُلًا قُتِلَ في زِحَامٍ في زَمَنِ عمرَ،
(2) في الأصل: "يعقلان".
(3)
في ب، م:"ينتقض".
(1)
في الأصل: "وفيه".
(2)
تقدم تخريجه، في صفحة 20.
فلم يُعْرَفْ قاتِلُه، فقال علىٌّ لعمرَ: يا أمِيرَ المؤمنين، لا يُطَلُّ (3) دَمُ امرىءٍ مُسْلِمٍ. فأَدَّى دِيَتَه من بَيْتِ المالِ (4). ولأنَّ المسلمين يَرِثُونَ مَنْ لا وارِثَ له، فيَعْقِلُونَ عنه (5) عند عَدَمِ عاقِلَتِه، كعَصَباتِه ومَوَالِيه. والثانية، لا يَجِبُ ذلك؛ لأنَّ بَيْتَ المالِ فيه حَقٌّ للنِّساءِ والصِّبْيانِ والمَجانِينِ والفُقَراءِ ومن (6) لا عَقْلَ عليه (7)، فلا يَجُوزُ صَرْفُه فيما لا يَجِبُ عليهم، ولأنَّ العَقْلَ على العَصَباتِ، وليس بيتُ المالِ عَصَبةً، ولا هو كَعَصَبةِ هذا، فأمَّا قَتِيلُ الأنْصارِ، فغيرُ لازِمٍ؛ لأنَّ ذلك قَتِيلُ اليَهُودِ، وبيتُ المالِ لا يَعْقِلُ عن الكُفَّارِ بحالٍ، وإنَّما النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم تَفَضَّلَ بذلك (8) عليهم. وقَوْلُهم: إنَّهم يَرِثُونَه. قُلْنا: ليس صَرْفُه إلى بيتِ المالِ مِيراثًا، بل هو فَىْءٌ، ولهذا يُؤْخَذُ مالُ مَنْ لا وَارِثَ له من أهْلِ الذِّمَّةِ إلى بيتِ المالِ، ولا يَرِثُه المسلمونَ، ثم لا يَجِبُ العَقْلُ على الوارِثِ إذا لم يكُنْ له (8) عَصَبةً، ويَجِبُ على العَصَبةِ وإن لم يكُنْ وارِثًا. فعلى الرِّوايةِ الأُولَى، إذا لم يكُنْ له (9) عاقلةٌ، أُدِّيَتِ الدِّيَةُ عنه كلُّها من بيتِ المالِ، وإن كان له عاقلةٌ لا تَحْمِلُ الجميعَ، أُخِذَ الباقِى من بيتِ المالِ. وهل تُؤَدَّى من بيتِ المالِ في دَفْعةٍ واحدةٍ، أو في ثلاثِ سِنِينَ؟ على وَجْهَيْن؛ أحدهما، في ثلاثِ سِنِينَ، على حَسبِ ما يُؤْخَذُ من العاقلةِ. والثاني، يُؤَدَّى دفعةً واحدةً. وهذا أصَحُّ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أدَّى دِيةَ الأنصارِىِّ دَفْعةً واحدةً، وكذلك عمرُ، ولأنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ مُتْلَفٍ لا تُؤَدِّيه العاقلةُ، فيَجِبُ كلُّه في الحالِ، كسائرِ أبْدَالِ (10) المُتْلَفاتِ، وإنما أُجِّلَ على العاقلةِ تخفيفًا عنهم، ولا حاجَةَ إلى ذلك في بيتِ المالِ، ولهذا يُؤَدَّى الجَمِيعُ.
(3) في الأصل: "تبطل".
(4)
أخرجه عبد الرزاق، في: باب من قتل في زحام، من كتاب العقول. المصنف 10/ 51. وابن أبي شيبة، في: باب الرجل يقتل في الزحام، من كتاب الديات. المصنف 9/ 395.
(5)
سقط من: م.
(6)
سقط: "من" من: م.
(7)
في م: "عليهم".
(8)
سقط من: ب، م.
(9)
سقط من: الأصل.
(10)
في م: "بدل".
الفصل الثاني: إذا لم يُمْكِن (11) الأخْذُ من بيتِ المالِ، فليس على القاتِلِ شيءٌ. وهذا أحدُ قَوْلَىِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الدِّيَةَ لَزِمَتِ العاقلةَ ابتداءً، بدَليلِ أنَّه لا يُطالَبُ بها غيرُهم، ولا يُعْتَبَرُ تَحَمُّلُهُم ولا رِضَاهُم بها، ولا تَجِبُ على غيرِ مَنْ وجَبَتْ عليه، كما لو عُدِمَ القاتِلُ، فإنَّ الدِّيَةَ لا تَجِبُ على أحدٍ، كذا ههُنا. فعلى هذا، إن وُجِدَ بعضُ العاقلةِ، حُمِّلُوا بقِسْطِهِم، وسَقَطَ الباقِى، فلا يَجِبُ على أحدٍ، ويتَخَرّجُ أن تَجِبَ الدِّيَةُ على القاتلِ إذا تَعَذَّرَ حَمْلُها عنه. وهذا القولُ الثاني للشافعيِّ؛ لعمومِ قولِ اللَّه تعالى:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (12). ولأنَّ قَضِيَّةَ الدَّليلِ وُجُوبُها على الجانِى جَبْرًا للمَحَلِّ الذي فَوَّتَه، وإنما سَقَطَ عن القاتلِ لقيامِ العاقلةِ مَقَامَه في جَبْرِ المَحَلِّ، فإذا لم يُؤْخَذْ ذلك، بَقِىَ واجِبًا عليه بمُقْتَضَى الدَّليلِ، ولأنَّ الأمْرَ دائرٌ بين أن يُطَلَّ دَمُ المَقْتُولِ، وبينَ إيجابِ دِيَتِه على المُتْلِفِ، لا يجوزُ الأوَّلُ؛ لأنَّ فيه مُخالَفةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وقِياسِ أصُولِ الشريعةِ، فتَعَيَّنَ الثاني، ولأنَّ إهْدارَ الدَّمِ المَضْمُونِ لا نَظِيرَ له، وإيجابُ الدِّيَةِ على قاتلِ الخطإِ له نَظائرُ، فإنَّ المُرْتَدَّ لمَّا لم يكُنْ له عاقلةٌ تَجبُ الدِّيَةُ في مالِه، والذِّمِّىَّ الذي لا عاقلةَ له تَلْزَمُه الدِّيَةُ، ومَنْ رَمَى سَهْمًا ثم أسْلَم، أو كان مُسْلِمًا فارْتَدَّ، أو كان عليه الولاءُ لمَوالِى أُمِّه فَانْجَرَّ إلى مَوالِى أبيه، ثم أصاب بسَهْمٍ إنْسانًا فقَتَلَه، كانت الدِّيَةُ في مالِه؛ لتَعَذُّرِ حَمْلِ عاقِلَتِه عَقْلَه، كذلك ههُنا، فنُحرِّرُ (13) منه قِياسًا فنقولُ: قَتِيلٌ مَعْصُومٌ في دارِ الإِسلامِ، تَعَذَّرَ حَمْلُ عاقِلَتِه عَقْلَه (14)، فوَجَبَ على قاتِلِه، كهذه الصُّورةِ (15). وهذا أوْلَى من إهْدارِ دِماءِ الأحْرارِ في أغْلَبِ الأحْوالِ، فإنَّه لا يَكادُ يُوجَدُ عاقلةٌ تَحْمِلُ الدِّيَةَ كلَّها، ولا سَبيلَ إلى الأخْذِ من بيتِ المالِ، فتَضِيعُ الدِّماءُ، ويَفُوتُ
(11) في ب زيادة: "بيان".
(12)
سورة النساء 92.
(13)
في ب: "فيجوز" تحريف.
(14)
سقط من: ب.
(15)
في ب: "الصور".