الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
ولا يُقْاتَلُ البُغاةُ بما يَعمُّ إتْلافُه، كالنَّارِ، والمَنْجَنِيقِ، والتَّغْرِيقِ، مِن غيرِ ضَرُورةٍ؛ لأنَّه لا يجوزُ قَتْلُ مَن لا يُقاتِلُ، وما يَعُمُّ إتلافُه يقعُ على مَن يُقاتلُ ومَن لا يُقاتِلُ. فإن دَعَتْ إلى ذلك ضرورةٌ، مثل أنْ يحتاطَ بهم البُغاةُ، ولا يُمْكِنُهم التَّخَلُصُ إلَّا بِرَمْيِهم بما يَعُمُّ إتْلافُه، جازَ ذلك. وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفةَ: إذا تحصَّنَ الخوارجُ، فاحتاجَ الإمامُ إلى رَمْيِهم بالمنْجَنِيقِ، فَعَلَ ذلك بهم ما كان لهم عَسْكَرٌ، وما لم يَنْهَزِمُوا، وإن رَماهم البُغاةُ بالمَنْجَنِيقِ والنَّارِ، جازَ رَمْيُهم بمثلِه.
فصل: قال أبو بكرٍ: وإذا اقْتَتَلَتْ طائفتانِ من أهلِ البَغْيِ، فقَدَرَ الإِمامُ على قهرِهما، لم يُعِنْ واحدةً منهما؛ لأنَّهما جميعًا على الخَطإِ، وإنْ عَجَزَ عن ذلك، وخاف اجْتماعَهما على حَرْبِه، ضَمَّ إليه أقْربَهما إلى الحَقِّ، فإن اسْتَوَيَا، اجْتَهدَ برَأْيِه في ضَمِّ إحداهُما، ولا يَقْصِدُ بذلكَ مَعُونةَ إحداهُما، بل الاسْتعانةَ على الأُخْرَى، فإذا هَزَمَها، لم يُقاتِلْ مَنْ معه حتى يدْعُوَهم إلى الطاعةِ؛ لأنَّهم قد حَصَلُوا في أمانِه. وهذا مذهبُ الشافعيِّ. ولا يسْتعينُ على قتالِهم بالكُفَّارِ بحالٍ، ولا بمَن يَرَى قَتْلَهم مُدْبِرِينَ. وبهذا قال الشافِعيُّ. وقال أصْحابُ الرَّأْيِ: لا بَأْسَ أنْ يسْتعينَ عليهم بأهلِ الذِّمَّةِ والمُسْتَأْمَنين وصِنْفٍ آخَرَ منهم، إذا كان أهلُ العَدْلِ هم الظَّاهرين على مَن يَسْتعينُونَ به. ولَنا، أنَّ القَصْدَ كَفُّهم، وردُّهم إلى الطاعةِ، دونَ قَتْلِهم، وإنْ دعتِ الحاجَةُ إلى الاسْتعانة بهم، فإن كان يَقْدِرُ على كَفِّهم، اسْتعانَ بهم، وإن لم يَقْدِرْ، لم يَجُزْ.
فصل: وإذا أظْهَرَ قَوْمٌ رَأىَ الخَوارِجِ، مثلَ تكفيرِ مَن ارْتكبَ كبيرةً، وتَرْكِ الجماعةِ، واستحلالِ دماءِ المسلمينَ وأَمْوالِهم، إلَّا أنَّهم لم يخْرُجُوا عن قَبْضةِ الإِمامِ، ولم يَسْفِكُوا الدَّمَ الحَرامَ، فحَكَى القاضِى عن أبي بكرٍ، أنَّه لا يَحِلُّ بذلك قَتْلُهم ولا قِتالُهم. وهذا قولُ أبي حَنيفَة، والشافعيِّ، وجُمْهورِ أهلِ الفقه. ورُوِيَ ذلك عن عمرَ بنِ عبد العزيز. فعلى هذا، حكمُهم في ضَمانِ النَّفْسِ والمالِ حُكْمُ المسلمين. وإن سَبُّوا الإِمامَ أو غيرَه من أهلِ العدلِ، عُزِّرُوا؛ لأنَّهم ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا لا حَدَّ فيه. وإن عَرَّضُوا
بالسَّبِّ، فهل يُعَزَّرُونَ؟ على وَجْهَين. وقال مالكٌ في الإِباضيَّةِ (20)، وسائرِ أهِل البِدَعِ: يُسْتَتابُون، فإن تابُوا، وإلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهم. قال إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: رأَى مالكٌ قتلَ الخوارجِ وأهلِ القَدَرِ، من أجلِ الفسادِ الدَّاخلِ في الدِّينِ، كقُطَّاعِ الطريقِ، فإن تَابُوا، وإلَّا قُتِلُوا على إفْسادِهِم، [لا على كُفْرِهم](21). وأمَّا مَن رأى تكفيرَهم، فمُقتضَى قولِه، أنَّهم يُسْتَتابون، فإن تابُوا، وإلَّا قُتِلُوا لِكُفْرِهم، كما يُقْتَلُ الْمرْتَدُّ، وحُجَّتُهم قَوْلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَأَيْنَما لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"(22). وقولهُ عليه السلام: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ، لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ"(23). وقولُه صلى الله عليه وسلم في الذي أنْكَرَ عليه، وقال: إنَّها لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بها وَجْهُ اللهِ. لأَبي بكرٍ: "اذْهَبْ فَاقْتُلْه". ثم قال لعمرَ مثلَ ذلك (24)، فأمَرَ بِقَتْلِه قَبْلَ قِتَالِهِ. وهو الذي قال:"يَخْرُجُ من ضِئضِئِ (25) هَذَا قَوْمٌ". يَعني الخوارجَ. وقولُ عمرَ لصَبِيغٍ: لو وَجَدْتُك مَحْلُوقًا، لَضَرَبْتُ الذي فيهِ عيناكَ بالسَّيفِ (26). يَعني لقَتَلْتُك. وإنَّما يَقْتُلُه لكَوْنِه من الخَوارجِ؛ فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"سِيمَاهُمُ التَّسْبِيدُ"(27). يعني حَلْقَ رُءُوسِهِم. واحتجَّ الأوَّلونَ بفعِل عَلِيٍّ، رَضِيَ
(20) الإباضية: أصحاب عبد اللَّه بن إباض، الذي خرج في أيام مروان بن محمد، وهو الذي يقول: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم عند الحرب حلال، وما سواه حرام. انظر: الملل والنحل، للشهرستاني 1/ 244.
(21)
سقط من: م.
(22)
تقدم تخريجه، في صفحة 240.
(23)
تقدم تخريجه، في صفحة 221.
(24)
أخرجه البخاري، في: باب بعث علي رضي الله عنه. . .، من كتاب المغازى، وفي: باب تفسير سورة براءة، من كتاب التفسير، وفي: باب قراءة الفاجر، من كتاب التوحيد. صحيح البخاري 5/ 207، 6/ 84، 9/ 198. ومسلم، في: باب ذكر الخوارج، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم 2/ 742، 743. وأبو داود، في: باب في قتال الخوارج، من كتاب السنة. سنن أبي داود 2/ 544. والنسائي، في: باب المؤلفة قلوبهم، من كتاب الزكاة، وفي: باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس، من كتاب التحريم، المجتبى 5/ 65، 66، 7/ 108، 109. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 54، 73.
(25)
الضئضئ: الأصل، أو كثرة النسل.
(26)
أخرجه الدارمي، في: باب من هاب الفتيا والتنطع والتبدع، من المقدمة. سنن الدارمي 1/ 54، 55.
(27)
أخرجه البيهقي، في: باب القوم يظهرون رأى الخوارج. . .، من كتاب قتال أهل البغي. السنن الكبرى 8/ 184. وابن أبي شيبة، في: باب ما ذكر في الخوارج، من كتاب الجمل المصنف 15/ 327، 328.