الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح:
بالنظر فيما سبق من أدلة وما ورد عليها من مناقشات، والجواب عنها، يظهر رجحان القول الأوّل، وهو أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على الإمامة في الصّلاة إِلَّا للضرورة والحاجة، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره له مذهبًا، وذكر أنّه أقوى الأقوال، وأقربها إلى الصواب (1)؛ ويعود سبب رجحان هذا القول لما يأتي:
1 -
قوة ما استدلوا به من النقول، والمعقول؛ فحديث عثمان بن أبي العاص دلالته قوية في ذلك، وبيان ذلك أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما نهى عن اتخاذ المؤذن الّذي يأخذ أجرة على أذانه دلّ ذلك على أن الإمامة لا يؤخذ عليها الأجر من باب أولى؛ وذلك لكونها أدخل في باب القربة من الأذان، وأشدّ تعلّقًا بذمة المكلَّف من الأذان (2).
2 -
إنَّ ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى عبارة عن تعليلات عقلية أمكن مناقشتها، والردّ عليها.
3 -
إنَّ هذا القول أقرب إلى مقاصد الشّريعة ومصالحها؛ لأنّ فيه المحافظة على الدِّين من جهة إقامة صلاة الجماعة، وإحياء المساجد، فإن القول بالمنع مطلقًا يترتب عليه إضاعة صلاة الجماعة، وتعطّل المساجد، وهذا لا يخفى فساده.
4 -
إنَّ هذا القول أعدل الأقوال؛ لتوسطه بين المانعين مطلقًا، والمجوزين مطلقًا، فإن القول بمنع الاستئجار على الإمامة مطلقًا يوقع في الحرج، والضيق، والمشقة على المسلمين.
والقول بالجواز مطلقًا ينافي قصد القربة إلى الله، وإخلاص العمل له، وبخاصة إذا لم يقصد العمل إِلَّا للأجرة، وأمّا إذا قصد العمل لله، وللأجرة فإن ذلك فيه ما
(1) مجموع الفتاوى: 30/ 207، 24/ 316.
(2)
الذّخيرة للقرافيَ: 2/ 66 - 67.
فيه؛ قال ابن القيم رحمه الله (1): "كمن يصلّي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلّى، ولكنه يصلّي لله وللأجرة فهذا لا يقبل منه العمل، كان وإنت النية شرطًا في سقوط الفرض وجب عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص الّتي هي شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد، والحكم المعلق بالشرط عَدَم عند عَدَمه؛ فإن الإخلاص هو تجريد القصد طاعة للمعبود، ولم يؤمر إِلَّا بهذا، فإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر. وقد دلت السُّنَّة الصريحة على ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(يقوك الله عز وجل يوم القيامة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا أشْرَك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به)(2).
وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ثانيًا: أخذ المال على الخطابة (3):
ونلحظ أن بعض العلماء ألحقها بالإمامة في الحكم (4)، وبعضهم
(1) إعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 163.
(2)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: في الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله تعالى: 4/ 2289 (2985).
(3)
الخُطبة - بالضم - عند العرب هي: الكلام المنثور؛ يقال: خَطبَ خَطَابة، أي: صار خطيبًا، وتطلق على تأبيف كلام يتضمن وعظًا وإبلاغًا: لسان الرب لابن منظور: 1/ 361 وما بعدها، تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 3/ 92.
الخُطبة اصطلاحًا: لا يخرج معنى الخطبة في الاصطلاح عن معناها اللغوي، ولذلك فقد عرفها العلماء بأنّها:"هي الكلام المؤلّف الّذي يتضمن وعظًا، وإبلاغًا على صفة مخصوصة" .. تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 3/ 92، حاشية الروض المربع لابن قاسم: 2/ 443، الموسوعة الفقهية- الكويت: 19/ 176.
(4)
تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي: 6/ 156، حاشية الجمل: 3/ 540، إعانة الطالبين على فتح المعين: 3/ 112.
ألحقها بالأذان (1).
وعلى كلّ حال، فالحكم فيهما واحد؛ إِلَّا أنّها بالإمامة ألصق، وأبيق، حيث إنها من عمل الإمام، وتابعة للصلاة، سواء كلان ذلك في خُطبة الجمعة أم غيرها؛ إذ هي في صلاة الجمعة شرط لصحة الجمعة (2)، وفي غيرها سنة تبعًا للصلاة؛ كما في العيدين، والكسوف، والاستسقاء (3).
قال ابن قدامة: "والسُّنَّة أن يتولى الصّلاة من يتولى الخطبة؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولاهما بنفسه، وكذلك خلفاؤه من بعده"(4).
فدلّ ذلك على أنّها من عمل الإمام في الصّلاة؛ وعليه فحكمها حكم الإمامة - والله أعلم-.
(1) نهاية المحتاج للرملي: 5/ 291.
(2)
حاشية ابن عابدين: 1/ 544، التاج والإكلليل للمواق: 1/ 185، الشرح الصغير للدردير: 1/ 499، نهاية المحتاج للرملي: 2/ 299، المغني لابن قدامة: 3/ 170.
(3)
حاشية ابن عابدين 1/ 562، مواهب الجليل للحطاب: 2/ 196، المجموع للنووي: 5/ 122، كشاف القناع: 2/ 55.
(4)
المغني لابن قدامة: 3/ 177.