الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح:
بعد ذكر أدلة الأقوال، وما ورد عليها من مناقشات، وما أمكن الجواب به عن هذه المناقشات، فإنّه يترجح القول الأوّل القائل يحواز الاستئجار على الحجِّ والعمرة؛ وذلك لما يأتي:
أوَّلًا: قوة ما استدل به أصحاب هذا القول، وبخاصة ما يتعلّق بأدلة جواز النيابة في الحجِّ، فإنها نصوص صحيحة صريحة، وبعضها صريح في وقوع الحجِّ عن المحجوج عنه، فإذا جازت النيابة، وحصل النفع للمستنيب جاز أخذ الأجرة.
ثانيًا: أن ما استدل به المانعون أمكن مناقشته، والجواب عنه ممّا أضعف دلالته على المنع.
ثالثًا: أنّه من المتقرر أن الحجِّ يتكون من المال، والبدن، فإن تعذر البدن لمرض، أو موت، أو زمانه، بقيت الاستطاعة المالية، وقد تقدّم أن الستطيع بماله يدخل تحت عموم قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، وليس معنى ذلك إِلَّا إعطاء الغير ما يحج به عن المستنيب، ولا يمكن إلزامه أن يحج بالنفقة فقط، أو متبرعًا، فإنّه لا قائل بذلك، فإن تعذر وجود المتبرع، أو من يكتفي بالنفقة، فإنّه يتعين حينئذٍ الاستئجار طريقًا لقضاء ما وجب في ذمة المحجوج عنه من الحجِّ الواجب، وإلا بقيت ذمته مشغولة.
ثمّ إنَّ النائب قد يكون فقيرًا، وهو كاسب أهله، ويحتاج إلى المال؛ لينفق منه على نفسه وأهله، أو يقضي دينه؛ فيكون من العدل حينئذ القول بجواز الاستئجار (1).
رابعًا: أن القول بجواز الاستئجار قول يتفق مع أصول الشّريعة، ومقاصدها العظيمة، حيث جاءت بالتيسير، ورفع الحرج، والمشقة عن المكلفين، وتيسير سبل
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: 26/ 17.
الخير لهم، فإن الأخذ بهذا القول يمكن المكلَّف من إبراء ذمته، وتدارك ما فاته، ممّا أوجبه الله عليه، في الوقت الّذي لا يمكن فيه إلزام الغير بالتطوع عنه بذلك.
ومما يجب التنبيه عليه هنا أن القول بجواز الاستئجار على الحجِّ، لا يعني أن يكون كلّ هم النائب هو جمع المال، أو يكون قصده من الحجِّ هو استفضال المال، والاكتساب بذلك فقط، فإن هذا - وإن قيل بجوازه - لا يستحب، ولا يحسن بالمسلم أن يفعل ذلك؛ لأنّ عمله حينئذ خرج من باب الطاعات، والقربات، إلى باب المباحات، فيحل له المال الّذي ياخذه، لكن لا ثواب له في الآخرة.
ويقرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية تقريرًا حسنًا بديعًا، فيقول:"وأمّا إذا كان قصده الاكتساب بذلك، وأن يستفضل مالًا، فهذا سورة الإجارة والجعالة، والصواب أنّه لايستحب - وإن قيل بجوازه -؛ لأنّ العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صاع في نفسه، إذا لم يقصد به إِلَّا المال، فيكون من نوع المباحات، ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق".
ثمّ يقول رحمه الله تعالى: "ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البرّ الّتي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب، لم نجعلها في هذه الحالة إِلَّا بمنزلة المباحات، لانجعلها من "باب القرب"، فإن الأقسام ثلاثة: إمّا أن يعاقب على العمل بهذه النية، أو يثاب، أو لايثاب، ولايعاقب، وكذلك المال المأخوذ: إمّا منهي عنه، وإما مستحب، وإما مباح، فهذا هذا، والله أعلم.
ولكن قد رجحت الإجارة على (1)،
…
إذا كان محتاجًا إلى ذلك المال للنفقة مدة الحجِّ، وللنفقة بعد رجوعه، أو قضاء دينه، فيقصد إقامة النفقة، وقضاء الدِّين الواجب. وعليه فهنا تفسير الأقسام ثلاثة:
* إمّا أن يقصد الحجِّ،
(1) هنا كلمة ساقطة، ولعلّها كلمة:(غيرها).
والإحسان (1) فقط.
* وإما أن يقصد النفقة المشروعة له فقط.
* وإما أن يقصد كلاهما.
فمتى قصد الأوّل فهو حسن، كان قصدهما معًا فهو حسن إن شاء الله؛ لأنّهما مقصودان صالحان، وإما إنَّ لم يقصد إِلَّا الكسب لنفقته، فهذا فيه نظر" (2).
(1) المراد بالإحسان هو الإحسان إلى المحجوج عنه، كما سبق تفصيله في النفقة.
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 26/ 16، 17.