الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعليه، فإن الولي يفعله إن شاء، أو يدفع مالاً لمن يفعله عنه (1).
أما أدلتهم على المنع من الإجارة على الصوم الواجب بأصل الشرع فهي نفسها أدلة المانعين مطلقًا، وقد تقدمت.
الترجيح:
بعد ذكر الأدلة، وما ورد عليها من مناقشات، إضافة إلى ما سبق ذكره في مبحث النيابة من أدلة مفصلة عن النيابة في قضاء الصوم عن الميت، يتبيّن رجحان القول الأول القاضي بجواز الاستئجار على قضاء صوم النذر عن الميت الذي تمكن من أدائه، ولكن فرط في ذلك حتى أدركه الأجل.
ويعود هذا الترجيح إلى ما يأتي:
أولاً: قوة هذا القول من حيث الاستدلال والنظر، وهذا يرجع إلى قوة الأدلة التي تمسكوا بها، إضافة إلى ما سبق من صحة النيابة عن الميت في قضاء ما عليه من صوم مطلقًا، ومنه صوم النذر حيث جاءت الأدلة صريحة صحيحة غاية ما تكون في الصحة والصراحة في الدلالة على المطلوب، وهذا يؤكد قوة هذا القول ورجحانه على ما سواه.
فإن قال قائل: فما وجه التفريق بين الصوم الواجب بأصل الشرع وصوم النذر من حيث صحة الإجارة على الأخير دون الأول؟
قيل له: إن الصوم من العبادات البدنية المحضة، بل هو من أخص العبادات البدنية (2)، والأصل عدم دخول النيابة فيه كالصلاة، إلا أننا خالفنا هذا الأصل؛ لورود النص الصحيح الصريح في صحة النيابة، بما لا يحتمل التأويل.
فلما كان حكم الإجارة على الصوم فرقنا بين الصوم الواجب بأصل الشرع
(1) معونة أولي النهى لابن النجار: 3/ 88، كشاف القناع للبهوتي: 2/ 335.
(2)
وذلك لكونه سرًا بين العبد وربه.
وصوم النذرة لوجود الفرق بينهما شرعًا، وعقلاً.
فأما الشرع: فلأن الله تعالى لم يوجبه على المكلف، وإنما أوجبه العبد على نفسه، وفرق بين ما يوجبه الله تعالى على العبد، وما يوجبه العبد على نفسه (1).
وأما العقل: فلأن الديون المالية تصح فيها النيابة إجماعًا، وكذلك الاستئجار عليها، وقد تقدم ذلك.
وإذا نظرنا إلى نذر الصوم وجدناه أقرب إلى الديون المالية منه إلى العبادات البدنية؛ ووجه ذلك:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين كما في حديث ابن عباس (2).
2 -
ولكون العبد أوجبه على نفسه، صار بمنزلة الدين الذي استدانه (3). فلما كان صوم النذر بهذه المنزلة، ولما فيه من شائبة المال هذه فقد تم التفريق بينه وبين الصوم الواجب بأصل الشرع، فقيل بجواز الاستئجار على قضاء صوم النذر عن الميت دون الصوم الواجب بأصل الشرع (4).
* ثانيًا: ضعف أدلة الأقوال الأخرى؛ وذلك لأن مبناها في عدم صحة الإجارة على عدم صحة النيابة، وقد تقدم أن القول بعدم صحة النيابة قول لا دليل عليه من الشرع، بل هو قول يخالف أدلة الشرع الصحيحة الصريحة في صحة النيابة. ثم إنه أمكن مناقشة أدلتهم فيما يتعلق بعدم صحة الإجارة على الصوم بما يضعف من دلالتها.
(1) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 282.
(2)
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى" وتقدم تخريجه ص/ 138.
(3)
تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 3/ 282.
(4)
إعانة الطالبين للسيد البكري: 3/ 112.
* ثالثًا: أن هذا القول جاء وسطًا بين الأقوال الأخرى، فهو أولى الأقوال بالقبول؛ لأن من منع مطلقًا ليس معه نص يمنع الإجارة، بل تمسك بعمومات الأدلة، وببعض الأدلة العقلية، وكل هذه أمكن مناقشتها بما يضعف الاستدلال بها.
وأما من أجاز مطلقًا فقد أمكن حمل أدلته على النذر جمعًا بين الأدلة، وكذلك أمكن دفع هذا الإطلاق بالتفريق بين صوم النذر والصوم الواجب بأصل الشرع شرعًا وعقلاً.
* رابعًا: أن هذا القول جاء متمشيًا مع مقاصد الشريعة وحكمها؛ وبيان ذلك:
1 -
إن الأخذ بهذا القول فيه تبرئة لذمة الميت، وفكّ لرهانه، حيث ألزم نفسه بما لم يلزمه به الله تعالى (1).
2 -
فيه محافظة على حكم الصوم وفوائده، والإبقاء على مقاصده الشرعية الكثيرة؛ لأننا لو قلنا بالجواز مطلقًا لأدى ذلك إلى التهاون، والتكاسل عن أداء هذه الفريضة العظيمة، وما على المكلف إلا أن يوصي بقضاء ما عليه من صوم، وفي هذا تضييع لهذه الفريضة، كما لا يخفى.
ولو قلنا بالمنع مطلقًا لبقيت ذمة الميت مشغولة بما ألزم به نفسه، والأصل المسارعة بتبرئة ذمته، وفكّ رهانه حتى ينعم في قبره وأخرته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قُتِلَ في سبيل الله، ثم أُحْييَ، ثم قتل، ثم أُحيي، ثم قتل، وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه)(2).
(1) المغني لابن قدامة: 4/ 400.
(2)
أخرجه النسائي في البيوع، باب التغليظ في الدين: 7/ 361 (4698)، والحديث حسن، حسنه الألباني كما في صحيح سنن النسائي: 2/ 969 (4367)، وحسنه الأرناؤوط في تخريجه لجامع الأصول: 4/ 464 (2550).