الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يُجَاهِدُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ، وَمَن أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، إِلَّا
ــ
عليه، وهو مَن يَقدِرُ عليها، لكِنَّه يتَمَكَّنُ مِن إظهارِ دِينِه مع إقامَتهِ في دارِ الكُفْرِ (1)، فيُسْتَحَبُّ له؛ ليَتَمَكَّنَ (2) مِن جِهادِهم وتَكْثِيرِ المُسلِمِين ومَعُونَتِهم، ويتَخَلَّصَ مِن تَكْثِيرِ الكُفَّارِ ومُخالَطتهم ورُؤيَةِ المُنْكَرِ بينَهم. ولا تَجِبُ عليه؛ لإمْكانِ إقامَةِ واجِبِ دينِه بدُونِ الهِجْرَةِ. وقد كان العَبّاسُ عَمُّ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، رَضِىَ اللَّهُ عنه، مُقِيمًا بمَكَّةَ مع إسْلامِه. ورُوِىَ أنَّ نُعَيْمَ النَّحّامَ، حينَ أرادَ أن يُهاجِرَ، جاءَه قوْمُه بنو عَدِىٍّ، فقالوا له: أقِمْ عندَنا، وأنْت على دِينِكَ، ونحنُ نَمْنَعُكَ مِمن يُرِيدُ أذَاكَ، واكْفِنا ما كُنْتَ تَكْفِينا. وكان يقومُ بيَتامَى بنى عَدِىٍّ وأرامِلِهم، فتَخَلَّفَ عن الهِجْرَةِ مُدَّةً، ثم هاجَرَ بعدُ، وقال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم:«قَوْمُكَ كَانُوا خَيْرًا لَكَ مِنْ قَوْمِى لِى؛ قَوْمِى أخْرَجُونِى، وأرَادُوا قَتْلِى، وقَوْمُكَ حَفِظُوكَ وَمَنَعُوكَ» . فقال: يا رسولَ اللَّهِ قوْمُكَ أخْرَجُوكَ إلى طاعَةِ اللَّهِ، وجِهادِ عَدُوِّه، وقَوْمِى ثَبَّطُونِى عن الهِجْرَةِ، وطاعةِ اللَّهِ. أو نحوَ هذا القَوْلِ (3).
1392 - مسألة: (ولا يُجاهِدُ مَن عليهِ دَيْنٌ لا وَفاءَ له، ومَن أحَدُ
(1) في م: «الكفار» .
(2)
في الأصل: «التمكن» .
(3)
انظر: الإصابة 6/ 459.
بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، وَأَبِيهِ، إِلَّا أنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِى تَرْكِ فَرِيضَةٍ.
ــ
أبَوَيْه مُسْلِمٌ، إلَّا بإذْنِ غَرِيمِه، وأبِيهِ، إلَّا أن يَتَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، فإنَّه لَا طَاعَةَ لَهُما في تَرْكِ فَرِيضَةٍ) مَن كان عليه دَيْنٌ حالٌّ أو مُؤَجَّلٌ، لم يَجُزْ له الخُروجُ إلى الغَزْوِ إلَّا بإذْنِ غَرِيمِه، إلَّا أنْ يَتْرُكَ وَفاءً، أو يُقِيمَ به كفِيلًا، أو يُوَثِّقَه برَهْنٍ. وبهذا قال الشافعى. ورَخَّصَ مالكٌ في الغَزْوِ لِمَن لا يَقْدِرُ على قَضاءِ دَيْنهِ؛ لأنَّه لا تَتَوَجَّهُ عليه المُطالَبَةُ به ولا حَبْسُه مِن أجْلِه، فلم يُمْنَعْ مِن الغَزْوِ، كما لو لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ. ولَنا، أن الجِهادَ تُقْصَدُ منه الشَّهادَة التى تَفُوتُ بها النَّفْسُ، فيَفُوتُ الحَقُّ بفَواتِها، وقد رُوِى أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ اللَّهِ صابِرًا مُحْتَسِبًا، يُكَفِّرُ عنى خَطاياىَ؟ قال:«نَعَمْ، إلَّا الدَّيْنَ، فَإنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لى ذَلِكَ» (1). وأمَّا إذا تَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، فلا إذْنَ لِغَرِيمِه؛
(1) أخرجه مسلم، في: باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه إلا الدين، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1501. والترمذى، في: باب في من يستشهد وعليه دين، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 205. والنسائى؛ في: باب من قاتل في سبيل اللَّه تعالى وعليه دين، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 28، 29، 30. والدارمى، في: باب في من قاتل في سبيل اللَّه صابرًا محتسبًا، من كتاب الجهاد. سنن الدارمى 2/ 207. والإمام مالك، في: باب الشهداء في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 325، 352، 373، 5/ 297، 304، 308.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأنَّه تَعَلَّقَ بعَيْنِه، فكان مُقَدَّمًا على ما في ذِمَّتِه، كسائِرِ فُرُوضِ الأعْيانِ، ولكنْ يُسْتَحَبُّ له أن لا يتَعَرَّضَ لِمَظانِّ القَتْلِ؛ مِن المُبارَزَةِ، والوُقُوفِ في أوَّلِ المُقاتِلَةِ؛ لأنَّ فيه تَغْريرًا بتَفْوِيتِ الحَقِّ. فإن تَرَك وفاءً، أو أقامَ كفِيلًا، فله الغَزْوُ بغيرِ إذْنٍ. نصَّ عليه أحمدُ في مَن تَرك وَفاءً؛ لأنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرو بنِ حَرامٍ، خَرَج إلى أُحُدٍ، وعليه دَيْنٌ كثيرٌ، فاسْتُشْهِدَ، وقَضاهُ عنه ابنُه جابرٌ بعِلْمِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَلُمْه النبىُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يُنْكِرْ فِعْلَه، بل مَدَحَه، وقال:«مَا زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» (1). وقال لابنهِ جابرٍ: «أشَعَرْتَ أنَّ اللَّهَ أحْيَا أباكَ، وكَلَّمَهُ كِفَاحًا (2)» .
(1) أخرجه البخارى، في: باب حدثنا على بن عبد اللَّه. . .، من كتاب الجنائز، وفى: باب ظل الملائكة على الشهيد، من كتاب الجهاد، وفى: باب من قتل من المسلمين يوم أحد، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 2/ 102، 4/ 26، 5/ 131. ومسلم، في: باب من فضائل عبد اللَّه بن عمرو بن حرام. . .، من كتاب فضائل الصحابة. صحيح مسلم 4/ 1917، 1918. والنسائى، في: باب تسجية الميت، وباب في البكاء على الميت، من كتاب الجنائز. المجتبى 4/ 10، 11، 12. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 298، 307.
(2)
كفاحًا: أى مواجة. والحديث أخرجه الترمذى، في: تفسير سورة آل عمران، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 138، 139. وابن ماجه، في: باب فيما أنكرت الجهمية، من المقدمة، وفى: باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. سنن ابن ماجه 1/ 68، 2/ 936.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ومَن كان أبَواه مُسْلِمَيْن، لم يُجاهِدْ بغيرِ إذْنِهما تَطَوُّعًا. رُوِى نحوُ ذلك عن (1) عُمَرَ، وعثمانَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما. وبه قال مالكٌ، والأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وسائِرُ أهْلِ العِلْمِ؛ لِما روَى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أُجاهِدُ؟ قال:«ألَكَ أبَوَانِ؟» . قال: نعم. قال: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وروَى ابنُ عَبّاسٍ نحوَه. قال التِّرْمِذِىُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. وفى رِوايَةٍ، قال: جِئْتُ أُبايِعُكَ على الهِجْرَةِ، وتَرَكْتُ أُبوَىَّ يَبْكِيان. قال:«ارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أبكَيْتَهُمَا» . وعن أبى سعيدٍ، أنَّ رَجُلًا هاجَرَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ لَكَ بِالْيَمَنِ أحَدٌ؟» قال: نعم، أَبَواىَ. قال:«أذِنَا لَكَ؟» . قال: لا. قال: «فَارْجِعْ، فَاسْتَأذِنْهُمَا، فَإِنْ
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أذِنَا لكَ فَجَاهِدْ، وإلَّا فَبِرَّهُمَا». رَواهُنَّ أبو داودَ (1). ولأنَّ بِرَّ الوالدَيْن فَرْضُ عَيْنٍ، والجِهادَ فَرْضُ كِفايَةٍ، وفرضُ العَيْنِ يُقَدَّمُ. وكذلك إن كان أحَدُهما مُسْلِمًا، لم يُجاهِدْ بغيرِ إذْنهِ؛ لأنَّ بِرَّه فَرْضُ عَيْنٍ، فقُدِّمَ على الجِهادِ، كالأبَوَيْن. فأمَّا إن كانَا غيرَ مُسْلِمَيْن، فلا إذْنَ لهما. وهذا قولُ الشافعىِّ. وقال الثَّوْرِىُّ: لا يَغْزُو إلَّا بإذْنِهما؛ لعُمُومِ الأخْبارِ. ولَنا، أنَّ أصحابَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم كانُوا يُجاهِدُونَ، وفيهم مَن أبَواه كافِرانِ، ولم يَسْتَأذِنْهُما؛ منهم أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وأبو حُذَيْفَةَ بنُ عُتْبَةَ، كان مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم يومَ بَدْرٍ، وأبوه رئيسُ المُشْرِكِين يوْمَئِذٍ، وأبو عُبَيْدَةَ، قَتَل أباه في الجهادِ، فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) الآية. وهذا يَخُصُّ عُمُومَ الأخْبارِ. فإن كانا رَقِيقَيْن،
(1) في: باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 16، 17.
كما أخرج حديث عبد اللَّه بن عمرو بلفظ: «ففيهما فجاهد» البخارى، في: باب الجهاد بإذن الأبوين، من كتاب الجهاد، وفى: باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، من كتاب الأدب. صحيح البخارى 4/ 71، 8/ 3. ومسلم، في: باب بر الوالدين وأنهما أحق به، من كتاب البر والصلة والآداب. صحيح مسلم 4/ 1975. والنسائى، في: باب الرخصة في التخلف لمن له والدان، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 10. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 165، 188، 193، 197، 221.
وبلفظ: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» النسائى، في: باب في البيعة على الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 129. وابن ماجه، في: باب الرجل يغزو وله أبوان، من كتاب الجهاد، سنن ابن ماجه 2/ 930. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 160، 194، 198، 204.
وأخرج حديث أبى سعيد، الإمام أحمد، في: المسند 3/ 75، 76.
(2)
سورة المجادلة 22. وانظر: تفسير القرطبى 17/ 307.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فعُمُومُ كلامِه ههُنا يَقْتَضِى وُجُوبَ اسْتِئْذَانِهما. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لظاهِرِ الأخْبارِ، ولأنَّهما مُسْلِمان، أشبَها الحُرَّيْنِ. ويَحْتَمِلُ أن لا يُعْتَبَرَ إذْنُهما؛ لأنَّه لا وِلَايةَ لهما. فإنْ كانا مَجْنُونَيْن، فلا إذْنَ لهما؛ لعَدَمِ اعْتِبارِ قَوْلِهما.
فصل: فإن تَعَيَّنَ عليه الجِهادُ، سَقَط إذْنُهما، وكذلك كلُّ فَرائِضِ الأعْيانِ، لا طَاعَةَ لهما في تَرْكِها؛ لأنَّ تَرْكَها مَعْصِيَةٌ، ولا طاعَةَ لأحَدٍ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وكذلك كلُّ ما وَجَب، كالحَجِّ، وصَلاةِ الجَماعَةِ والجُمَعِ، والسَّفَرِ للعِلْمِ الواجِبِ؛ لأنَّها فَرْضُ عَيْنٍ، فلم يُعْتَبَرْ إذْنُ الأبَوَيْنِ فيها، كالصَّلاةِ، ولأنَّ اللَّهَ تعالى قال:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1). ولم يَشْتَرِطْ إذْنَ الوَالِدَيْن.
(1) سورة آل عمران 97.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: فإن خَرَج في جِهادِ تَطَوُّعٍ بإذْنِهما، فمَنَعاه منه بعدَ سَيْرِه وقبلَ تَعَيُّنه عليه، فعليه الرجُوعُ؛ لأنَّه معنًى لو وُجِدَ في الابتدَاءِ مَنَع، فمَنَعَ إذا وُجِدَ في أثْنائِه، كسائِرِ المَوانِعِ، إلَّا أن يَخافَ على نفْسِه في الرُّجُوعِ، أو يَحْدُثَ له عُذْرٌ مِن مَرَضٍ أو نحوِه، فإن أمْكَنَه الإِقامَةُ في الطرِيقِ، وإلَّا مَضَى مع الجَيْشِ وإذا حَضَر الصَّفَّ تَعَيَّنَ عليه؛ لحُضُورِه، وسَقَط إذْنُهما. وإن كان رُجُوعُهما عن الإِذْنِ بعدَ تَعَيُّن الجِهادِ عليه، لم يُؤَثِّرْ شيئًا. وإن كانا كافِرَيْن، فأسْلَما ومَنَعَاه، كان كمَنْعِهما بعدَ إذْنِهما، سواءٌ. وحُكْمُ الغَرِيمِ يأذَنُ في الجِهادِ ثم يَمْنَعُ منه، حُكْمُ الوالدِ على ما فَصَّلْناه. فأمَّا إن حَدَث للإِنْسانِ في نفْسِه مَرَضٌ أو عَمًى أو عَرَجٌ، فله الانْصِرافُ، سواءٌ الْتَقَى الصَّفَّانِ أوْ لا؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه القِتالُ، فلا فائِدَةَ في مُقامِه.
فصل: فإن أذِنَ له والداه في الجِهادِ، وشَرَطا عليه أن لا يُقاتِلَ، فحَضَرَ القِتالَ، تَعَيَّنَ عليه، وسَقَط شَرْطُهما. كذلك قال الأوْزَاعِىُّ، وابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّه صارَ واجِبًا عليه، فلم يَبْقَ لهما في تَرْكِه طاعةٌ. ولو خَرَج بغيرِ إذْنِهما، فحَضَرَ القِتالَ، ثم بَدا له الرجُوعُ، لم يَجُزْ له ذلك (1).
(1) في الأصل: «كذلك» .