الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ الْفِرَارُ مِنْ ضِعْفِهِمْ، إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، أوْ مْتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، وَإنْ زَادَ الكُفَّارُ، فَلَهُمُ الْفِرَارُ، إِلَّا أنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الظَّفَرُ.
ــ
1393 - مسألة: (ولا يَجُوزُ للمسلمين الفِرارُ مِن ضِعْفِهم، إلَّا مُتَحَرِّفِين لقِتالٍ، أو مُتَحَيِّزِين إلى فِئَةٍ، فإن زاد الكُفَّارُ، فلهم الفِرارُ، إلَّا أن يَغْلِبَ على ظَنِّهِم الظَّفَرُ)
وجملةُ ذلك أنَّه إذا الْتَقَى المسلمون والكُفَّارُ، وَجَب الثَّباتُ، وحَرُمَ الفِرارُ؛ لقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (1). وقولِه سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (2) الآية. وقد عَدَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم الفِرارَ يومَ (3) الزَّحْفِ مِن الكبائِرِ (4). وحُكِىَ عن الحَسَنِ، والضَّحاكِ، أنَّ هذا كان يومَ بَدْرٍ خاصَّةً، ولا يَجِبُ في غيرِها. ولَنا، أنَّ الأمْرَ مُطْلَق،
(1) سورة الأنفال 45.
(2)
سورة الأنفال 15.
(3)
في م: «من» .
(4)
أخرجه البخارى، في: باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى. . .} ، من كتاب الوصايا، وفى: باب رمى المحصنات، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 4/ 12، 8/ 218. ومسلم، في: باب بيان الكبائر وأكبرها، من كتاب الإيمان. صحيح مسلم 1/ 92. وأبو داود، في: باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، من كتاب الوصايا. سنن أبى داود 2/ 104.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والخبرُ عامٌّ، فلا يجوزُ التَقْيِيدُ والتَّخْصِيصُ إلَّا بدليلٍ. وإنَّما يَجِبُ الثَّباتُ، بشَرْطَيْن، أحدُهما، أن لا يزيدَ الكُفَّارُ على ضِعْفِ المُسْلِمِين، فإنْ زادُوا، جازَ الفِرارُ، لقولِ اللَّهِ تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (1). وهذا وإن كان لفظُه لَفْظَ الخبرِ، فهو أمْرٌ، بدَلِيلِ قولِه:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} . ولو كان خَبرًا على حَقِيقَتِه، لم يكُنْ رَدُّنا مِن غَلَبَةِ الواحِدِ للعشرةِ إلى غَلَبَةِ الاثْنَيْن تَخْفِيفًا، ولأنَّ خَبَرَ اللَّهِ تعالى صِدْقٌ لا يَقعُ بخِلافِ مُخْبِرِه، وقد عُلِمَ أنَّ الظَّفَرَ والغَلَبَةَ لا يَحْصُلُ للمُسْلِمِين في كل مَوْطِن يَكُونُ العَدُوُّ فيه ضِعْفَ المسلمين فما دُونَ، فعُلِمَ أنَّه أمْرٌ وفَرْضٌ، ولم يَأْتِ شئٌ يَنْسَخُ هذه الآيةَ في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، فوَجَبَ الحُكْمُ بها. قال ابنُ عباسٍ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . فشَقَّ ذلك على المسلمين حينَ فُرِضَ عليهم أن لا يَفِرَّ واحدٌ مِن عشرةٍ، ثم جاء تَخْفِيفٌ، فقال:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} . إلى قولِه: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فلمَّا خَفَّف اللَّهُ عنهم مِن العَدَدِ، نقَصَ مِن
(1) سورة الأنفال 66.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الصَّبْرِ بقَدْرِ ما خَفَّفَ مِن العَدَدِ. رَواه أبو داودَ (1). وقال ابنُ عباسٍ: مَن فَرَّ مِن اثْنَيْنِ فقد فَرَّ، ومَن فَرَّ مِن ثَلاثةٍ فما فَرَّ. الثانى، أنْ لا يَقْصِدَ بفِرارِه التَّحَيُّزَ إلى فِئَةٍ، ولا التَّحَرُّفَ لقتالٍ، فإن قَصَد أحَدَ هذَيْن، أُبِيحَ له؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال:{إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} (2). ومَعْنَى التَّحَرُّفِ للقِتالِ: أن ينْحازَ إلى مَوْضِعٍ يكونُ القِتالُ فيه أمْكَنَ، مثل أن ينْحازَ مِن مُواجَهَةِ الشَّمْسِ أو الرِّيحِ إلى اسْتِدْبارِهما، أو مِن نُزولٍ إلى عُلُو، أو مِنِ مَعْطَشَةٍ إلى مَوْضِعِ ماء، أو يَفِرَّ بينَ أيْدِيهم لتَنْتَقِضَ صُفُوفُهم، أو تَنْفرِدَ خَيْلُهم مِن رجّالَتِهم، أو لِيَجِدَ فيهم فُرْصَةً، أو ليَسْتَنِدَ إلى جَبَلٍ، ونحوِ ذلك ممّا جَرَتْ به عادَةُ أهْلِ الحرْبِ. وقد رُوِى عن عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه كان يومًا في خُطبتِهِ إذ قال: يا سارِيَةُ بن زُنَيْمٍ،
(1) في: باب في التولى يوم الزحف، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 43.
كما أخرجه البيهقى، في: باب تحريم الفرار من الزحف. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 76. وانظر حاشية مصنف عبد الرزاق 5/ 352.
(2)
سورة الأنفال 16.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الجَبَلَ، ظَلَمَ الذِّئْبَ مَن اسْتَرْعاه الغَنَمَ. فأنْكَرَها النّاسُ، فقال علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: دَعُوه. فلمّا نَزَل سألوه عمّا قال لهم، فلم يَعْتَرِفْ به، وكان بَعَث سارِيَةَ إلى ناحِيَةِ العِراقِ لغَزْوِهم، فلمّا قَدِمَ ذلك الجيشُ أخْبَرُوا أنَّهم لَقُوا عَدُوَّهم يومَ الجُمُعَةِ، وظَهَرَ (1) عليهم، فسَمِعُوا صوتَ عُمَرَ، فتَحَيَّزُوا إلى الجبلِ، فنَجَوْا مِن عَدُوِّهم وانْتَصَرُوا عليهم (2). وأمَّا التَّحَيُّزُ إلى فِئَةٍ: فهو أن يَصِيرَ إلى فِئَةٍ مِن المسلمين؛ ليكُونَ معهم، فيَقْوَى بهم على عَدُوِّه. وسواءٌ بَعُدَتِ المسافَةُ أو قَرُبَتْ. قال القاضى: لو كانتِ الفِئَة بخُراسانَ، والفِئَةُ بالحِجَازِ، جازَ التَّحَيُّزُ إليها. ونحوَه ذكَرَ أصحابُ الشافعىِّ؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، روَى أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال:
(1) في م: «فظفر» .
(2)
ذكر طرقه في كنز العمال 12/ 571 - 574.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«إنى فِئَةٌ لَكُمْ» . وكانُوا بمكانٍ بعيدٍ عنه. وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: أنا فِئَةُ كلِّ مُسْلمٍ. وكان بالمدينةِ وجُيوشُه بمصرَ والشامِ والعِراقِ وخُراسان. رَواهما سعيدٌ (1). وقال عُمَرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه: رَحِمَ اللَّهُ أبا عُبَيْدَةَ، لو كان تَحَيَّزَ إلىَّ، لكُنْتُ له فِئَةً (2). وإذا خَشِىَ الأسْرَ، فالأوْلَى أن يُقاتِلَ حتى يُقْتَلَ، ولا يُسَلِّمَ نَفْسَه للأسْرِ؛ لأنَّه يَفُوزُ بالثَّوابِ والدَّرجَةِ الرَّفِيعَةِ، ويَسْلَمُ مِن تَحَكمِ الكُفَّارِ عليه بالتَّعْذِيبِ والاسْتِخْدامِ والفِتْنَةِ. فإنِ اسْتأْسرَ جازَ؛ لما روَى أبو هُرَيْرَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بَعَث عَشَرَةً عَيْنًا، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابِتٍ، فنَفَرَتْ إليهم هُذَيْلٌ بقريبٍ مِن مائَةِ رَجُلٍ رامٍ، فلمّا أحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه، لَجَئُوا إلى فَدْفَدٍ (3)، فقالوا لهم: انْزِلُوا فأعْطُونا أيْدِيَكم، ولكم العَهْدُ والمِيثاقُ أنْ
(1) في: باب من قال: الإمام فئة كل مسلم، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 209، 210.
كما أخرجهما البيهقى، في: باب من تولى متحرفًا لقتال. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 76، 77.
وأخرج الأول أبو داود، في: باب في التولى يوم الزحف، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 43. والترمذى، في: باب ما جاء في الفرار من الزحف، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 213. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 58، 70، 99، 100، 111.
(2)
أخرجه البيهقى، في: باب من تولى متحرفًا لقتال. . .، من كتاب السير. السنن الكبرى 9/ 77.
(3)
الفدفد: المكان الصلب الغليظ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا نَقْتُلَ منكم أحدًا. فقال عاصمٌ: أمَّا أنَا فلا أنْزِلُ في ذِمَّةِ مُشْرِكٍ. فرَمَوْهُم بالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عاصِمًا مع سبعةٍ معه، ونزَل إليهم ثَلاثةٌ على العَهْدِ والمِيثاقِ، منهم خُبَيْبٌ، وزيدُ بنُ الدَّثِنَةِ، فلمّا اسْتَمْكَنُوا منهم أطْلَقُوا أوْتارَ قِسِيِّهم، فرَبَطُوهم بها. مُتَّفَقٌ عليه (1). فعاصِمٌ أخَذَ بالعَزِيمَةِ، وخُبَيْبٌ وزيدٌ أخَذَا بالرُّخْصَةِ، وكلُّهم مَحْمودٌ غيرُ مَذْمُومٍ ولا مَلُومٍ.
فصل: فإنْ كان العَدُوُّ أكثرَ مِن ضِعْفِ المُسْلِمِين، فغَلَب على ظَنِّ المسلمين الظَّفَرُ، فالأوْلَى لهم الثَّباتُ؛ لِما في ذلك من المَصْلَحَةِ، ويجوزُ لهم الانْصرافُ؛ لأنَّهم لا يَأْمَنُون العَطَبَ ، والحُكْمُ عُلِّقَ على مَظِنَّتِه، وهو كَوْنُهم أقَلَّ مِن نِصْفِ عَدُوِّهم، ولذلك لَزِمَهم الثَّباتُ إذا كانُوا أكثرَ مِن النِّصْفِ، وإن كان غَلَب على ظَنِّهم الهَلاكُ فيه. ويَحْتَمِلُ أن يَلْزَمَهم الثَّباتُ إذا غَلَب على ظَنِّهِم الظَّفَرُ؛ لِما فيه مِن المَصْلَحَةِ. فإن غَلَب على ظَنِّهم الهَلاكُ في الإِقامَةِ، والسَّلامَةُ في الانْصِرافِ، فالأوْلَى لهم الانْصِرافُ،
(1) أخرجه البخارى، في: باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر. . .، من كتاب الجهاد، وفى: باب حدثنى عبد اللَّه بن محمد الجعفى. . .، وباب غزوة الرجيع ورعل وذكوان. . .، من كتاب المغازى. صحيح البخارى 4/ 82، 83، 5/ 100، 101، 132، 133.
كما أخرجه أبو داود، في: باب في الرجل يستأسر، من كتاب الجهاد. سنن أبى داود 2/ 47. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 294، 310. ولم نجده في صحيح مسلم. وانظر: تحفة الأشراف 10/ 289.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإن ثَبَتُوا جازَ؛ لأنَّ لهم غَرَضًا في الشَّهادةِ، مع جَوازِ الغَلَبَةِ أيضًا. وإن غَلَب على ظَنِّهم الهَلاكُ في الإِقامَةِ والانْصِرافِ، فالأوْلَى لهم الثَّباتُ؛ ليَنالُوا دَرَجَةَ الشُّهَداء المُقْبلِين على القِتال مُحْتَسِبين، فيكونوا أفْضَلَ مِن المُوَلِّين، ولأنَّه يجوزُ أن يَغْلِبُوا أيضًا، فقد قال تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) الآية. ولذلك صَبَر عاصمٌ وأصحابُه، فقاتَلُوا حتى أكرَمَهُم اللَّه بالشَّهادَةِ.
فصل: فإن جاءَ العَدُوُّ بَلَدًا، فلأهْلِه التَّحَصُّنُ منهم، وإن كانُوا أكْثَرَ مِن نِصْفِهم؛ ليَلْحَقَهم مَدَدٌ أو قُوَّةٌ، ولا يكُونُ ذلك تَوَلِّيًا ولا فِرارًا، إنَّما التَّوَلِّى بعدَ اللِّقاءِ. فإن لَقُوهم خارِجَ الحِصْنِ، فلهُم التَّحَيُّزُ إلى الحِصْنِ؛ لأنَّه بمَنْزِلَةِ التَّحَرُّفِ للقِتالِ، أو التَّحَيُّزِ إلى فِئَةٍ. وإن غَزَوْا فذَهَبَتْ دَوابُّهم، فليس ذلك عُذْرًا في الْفِرارِ؛ لأنَّ القِتالَ مُمْكِنٌ للرَّجّالَةِ. وإن تَحَيَّزُوا إلى جَبَلٍ ليُقاتِلُوا فيه رَجَّالَةً، فلا بَأْسَ؛ لأنَّه تَحَرُّفٌ للقِتالِ. وإن ذَهَب سِلاحُهم، فتَحَيَّزُوا إلى مكانٍ يُمْكِنُهم القِتالُ فيه بالحجارَةِ،
(1) سورة البقرة 249.