الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنْ أَطْلَقُوهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَالًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ عَادَ إِلَيْهِمْ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً، فَلَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الْخِرَقِىُّ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ أَيْضًا.
ــ
1493 - مسألة: (وإن أطْلَقُوه بشَرْطِ أن يَبْعَثَ إليهم مالًا، وإن عَجَز عنه عاد إليهم، لَزِمَه الوَفاءُ لهم، إلَّا أن تكون امْرَأةً، فلا ترجِعُ إليهم. وقال الخِرَقِىُّ: لا يَرْجِعُ الرَّجُلُ أيْضًا)
وجملةُ ذلك، أنَّ الأسِيرَ إذا أطْلَقَه الكُفَّارُ، وشَرَطُوا عليه أن يَبْعَثَ إليهم بفِدائِه أو يعودَ إليهم، وأحْلَفُوه؛ فإن كان مُكْرَهًا، لم يَلْزَمْه الوَفاءُ لهم برُجُوعٍ ولا فِداءٍ؛ لقولِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم:«عُفِىَ لِأُمَّتِى عَنِ الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (1). وإن لم يُكْرَهْ، وقَدَر على الفِداءِ الذى شَرَط على نَفْسِه، لَزِمَه أدَاؤُه. وبه قال الحسنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والأوْزاعِىُّ. ونَصَّ الشافعىُّ على أنَّه لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه حُرٌّ لا يسْتَحِقُّون بَدَلَه.
(1) تقدم تخريجه في 1/ 276.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولَنا، قولُ اللَّهِ تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (1). ولمّا صالَحَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أهْلَ الحُدَيْبِيَةِ على رَدِّ مَن جاءَه مُسْلِمًا وَفَّى لَهم، وقال:«إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» (2). ولأنَّ في الوَفاءِ مَصْلَحةً للأُسارَى، وفى الغَدْرِ مَفْسَدَةً في حَقِّهم؛ لأنَّهم لا يَأْمَنُون بعدَه، والحاجَةُ داعِيَةٌ إليه، فلَزِمَه الوَفاءُ، يَلْزَمُه الوَفاءُ بعَقْدِ الهُدْنَةِ، ولأنَّه عاهَدَهم على أداءِ مالٍ، فلَزِمَه الوَفاءُ لهم، كثَمَنِ المَبِيعِ، والمَشْرُوطُ في عَقْدِ الهُدْنَةِ في مَوْضِعٍ يجوزُ شَرْطُه. فإن عَجَز عن الفِداءِ وكانتِ امرأةً، لم تَرْجِعْ إليهم، ولم يَحِلَّ لها ذلك؛ لقولِ اللَّهِ تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (3). ولأنَّ في رُجُوعِها تَسْلِيطًا لهم على وَطْئِها حَرامًا، وقد مَنَع اللَّهُ رسولَه رَدَّ النِّساءِ إلى الكُفَّارِ بعدَ صُلْحِه على رَدِّهِنَّ في قَضِيَّةِ الحُدَيْبِيَةِ، وفيها: فجاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِناتٌ فنَهاهم اللَّهُ أن يَرُدُّوهُن. روَاه أبو داودَ، وغيرُه (4). وإن كان المُفادَى رَجُلًا، ففيه روايتان؛ إحْداهُما، لا يَرْجِعُ. اخْتارَه الخِرَقِىُّ. وهو قولُ الحسَنِ، والنَّخَعِىِّ، والثَّوْرِىِّ، والشافعىِّ؛ لأنَّ الرُّجُوعَ إليهم مَعْصِيَةٌ، فلم يَلْزَمْ بالشَّرْطِ، كما لو كان امرأةً، وكما لو شَرَط قَتْلَ مُسْلِمٍ، أو شُرْبَ الخمرِ. والثانيةُ، يَلْزَمُه. وهو قولُ عثمانَ،
(1) سورة النحل 91.
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 352.
(3)
سورة الممتحنة 10.
(4)
تقدم تخريجه في صفحة 131.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والزُّهْرِىِّ، والأوْزاعِىِّ؛ لِما ذَكَرْنا في بَعْثِ الفِدَاءِ، ولأنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم عاهَدَ قريشًا على رَدِّ مَن جاءَه مُسْلِمًا، فَرَدَّ أبا بَصِيرٍ، وأبا جَنْدَلٍ، وقال:«إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ» . وفارَقَ رَدَّ المرأةِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى فَرَّق بينهما في هذا الحُكْمِ حين صالَحَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا على رَدِّ مَن جاءَه منهم مُسْلِمًا، فأمْضَى اللَّهُ سبحانه ذلك في الرِّجالِ، ونَسَخَه في النِّساءِ. وسنَذْكُرُ الفَرْقَ بينهما في البابِ الذى بعدَه إن شاءَ اللَّهُ تعالى.
فصل: فإنِ اشْتَرَى الأسِيرُ شيئًا مُخْتارًا، أو اقْتَرَضَه، فالعَقْدُ صَحِيحٌ، ويلزَمُه الوَفاءُ لهم؛ لأنَّه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، فأشْبَهَ ما لو فَعَلَه غيرُ الأسِيرِ. وإن كان مُكْرَهًا، لم يَصِحَّ. وإن أكْرَهُوه على قَبْضِه، لم يَضْمَنْه، ولكن عليه رَدُّه إليهم إن كان باقيًا؛ لأنَّهم دَفَعُوه إليه بحُكْمِ العَقْدِ. وإن قَبَضَه باخْتِيارِه، ضمِنَه؛ لأنَّه قَبَضَه باخْتِيارِه عن عَقْدٍ فاسدٍ. وإن باعَه والعَيْنُ قائِمَةٌ، لَزِمَه رَدُّها، وإن عُدِمَت رَدَّ قِيمَتَها.
فصل: وإذا اشْتَرَى المُسْلِمُ أسِيرًا مِن أيْدِى العَدُوِّ، فإن كان بإذْنِه، لَزِمَه أن يُؤَدِّىَ إلى الذى اشْتَراه ما أدَّاه فيه، بغيرِ خلافٍ عَلِمْناه (1)؛ لأنَّه إذا أَذِن فيه، كان نائِبَه في شِراءِ نَفْسِه، فكان الثَّمَنُ على الآمِرِ، كالوَكيلِ. وإن كان بغيرِ إذْنِه، لَزِمَ الأسِيرَ الثَّمَنُ أيضًا. وبه قال الحسنُ، والزُّهْرِىُّ،
(1) بعده في الأصل: «إذا وزن بإذنه» . وكذلك في المغنى 13/ 133.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والنَّخَعِىُّ، ومالكٌ، والأوْزاعِىُّ. وقال الثَّوْرِىُّ، والشافعىُّ، وابنُ المُنْذِرِ: لا يَلْزَمُه؛ لأنَّه تبرَّعَ بما لا يَلْزَمُه، ولم يُؤْذَنْ له فيه، أشْبَهَ ما لو عمَّرَ دارَه. ولَنا، ما روَى سعيدٌ (1) عن عثمانَ بنِ مَطَرٍ، ثنا أبو حَرِيزٍ (2)، عن الشَّعْبِىِّ، قال: أغارَ أهلُ ماهَ وأهلُ جَلُولاءَ على العَرَبِ، فأصابُوا [سَبايا مِن](3) سَبايا العَرَبِ، فكَتَب السّائِبُ بنُ الأكْوَعِ إلى عمرَ في سَبايا المسلمين ورَقِيقِهم ومَتاعِهم، فكَتَب عمرُ: أيُّما رجلٍ أصابَ رَقِيقَه ومَتاعَه بعَيْنِه، فهو أحَقُّ به مِن غيرِه، وإن أصابَه في أيْدِى التُّجَّارِ بعدَ ما قُسِمَ، فلا سَبيلَ إليه، وأيُّما حُرٍّ اشْتَرَاه التُّجَّارُ، فإنَّه يُرَدُّ إليهم رُءُوسُ أمْوالِهم، فإنَّ الحُرَّ لا يُباعُ ولا يُشْتَرَى. فحَكَم للتُّجّارِ برُءُوسِ أمْوالِهم. ولأنَّ الأسِيرَ يجبُ عليه فِداءُ نَفْسِه؛ ليَتَخَلَّصَ مِن حُكمِ الكُفَّارِ، فإذا ناب عنه غيرُه في ذلك، وَجَب عليه قَضاؤُه، كما لو قَضَى الحاكِمُ عنه حَقًّا امْتَنَع مِن أدائِه. فعلى هذا إذا اخْتَلَفا في قَدْرِ الثَّمَنِ، فالقوْلُ قولُ الأسِيرِ. وهو قولُ الشافعىِّ إذا أَذِنَ له. وقال الأوْزاعِىُّ: القوْلُ قولُ المُشْتَرِى؛ لأنَّهما اخْتَلَفا في فِعْلِه، وهو أعْلَمُ به. ولَنا، أنَّ الأسِيرَ مُنْكِرٌ للزِّيادَةِ، والقوْلُ قولُ المُنْكِرِ، ولأنَّ الأصْلَ براءَةُ ذِمَّتِه مِن الزِّيادَةِ، فتَرَجَّحَ قوْلُه بالأصْلِ.
(1) تقدم تخريجه في صفحة 199.
(2)
في النسخ: «جرير» . والمثبت من سنن سعيد.
(3)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ويَجِبُ فِداءُ أسِيرِ المسلمين إذا أمْكَنَ. وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالِكٌ، وإسْحاقُ. ويُرْوَى عن ابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّه سأل الحسَنَ بنَ عَلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما: على مَن فِكاكُ الأسِيرِ؟ قال: على الأرْضِ التى يُقاتِلُ عليها. وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» (1). وروَى سعيدٌ (2)، بإسْنادِه عن حِبَّانَ ابنِ أبى جَبَلَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ عَلَى المُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أنْ يُفَادُوا أسِيرَهُمْ، ويُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» . وفادَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَين مِن المسلمين بالرجلِ الذى أخذه مِن بني عُقَيْلٍ (3)، وفادَى بالمرأةِ التى اسْتَوْهَبَها مِن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَجُلَيْن (4). ويَجِبُ فِداءُ أسِيرِ أهْلِ الذِّمَّةِ، سواءٌ كانوا في مَعُونَتِنا أو لا. هذا ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ. وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، واللَّيْثِ؛ لأنَّنا الْتَزَمْنا حِفْظَهم بمُعاهَدَتِهم وأخْذِ جِزْيَتِهِم، فلَزِمَنا المُدافَعَةُ مِن وَرائِهم، والقِيامُ دُونَهم، فإذا عَجَزْنا عن ذلك، وأمْكَنَنا تَخْلِيصُهم، لَزِمَنا ذلك، كمَن يَحْرُمُ عليه إتْلافُ شئٍ،
(1) أخرجه البخارى، في: باب فكاك الأسير، من كتاب الجهاد، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقوله. . .، من كتاب الأطعمة، وفى: باب وجوب عيادة المريض، من كتاب الطب. صحيح البخارى 4/ 83، 7/ 87، 150. والدارمى، في: باب في فكاك الأسير، من كتاب السير. سنن الدارمى 2/ 223. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 394، 406.
(2)
في: باب ما جاء في الفداء، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 293.
(3)
تقدم تخريجه في صفحة 84.
(4)
تقدم تخريجه في صفحة 87.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فإذا أتْلَفَه (1) غَرِمَه. وقال القاضى: إنَّما يَجِبُ فِداؤُهم إذا اسْتَعان بهم الإِمامُ في قِتالِهم فسُبُوا، وَجَب عليه ذلك؛ لأنَّ أسْرَهم كان لمَعْنًى مِن جِهَتِه. وهو المنْصوصُ عن أحمدَ. ومتى وَجَب فِداؤُهم، فإنَّه يُبْدَأُ بفِداءِ المسلمين قَبْلَهم؛ لأنَّ حُرْمَةَ المسلمِ أعظمُ، والخَوْفَ عليه أشَدُّ، وهو مُعَرَّضٌ لفِتْنَتِه عن دينِ الحَقِّ، بخِلافِ أهْلِ الذِّمَّةِ.
(1) بعده في م: «ضمن» .